من أعمال التشكيلي الليبي القدافي الفاخري
قصة

من حكايا الزمن الرصاصي

 Elgeddafi_Alfakhri_04

حدث ما يلي في سنة من سنوات الرصاص، السنوات التي كان فيها الرصاص يتطاير فيصيب من يـُصب فيـُمته، ويخطئ من يخطئ فيعمر. إذ في ليلة دافئة على نحو مبالغ فيه من ليالي تلك السنوات، كانت جنية شبه عارية ترقص حول نافورة ميدان أومونيا، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، والمارة قليلون، ولكنها كانت توقعهم في حبائلها مثل سيرينات اوديسيوس. كانت ترقص وتغني بصوت أثار فضول رواد الحانات المخمورين، والذين كانوا قد ضخوا لتوهم جرعتهم المسائية في عروقهم، وبائعات الهوى المنتظرات على الرصيف، وغيرهم من المارة المتأخرين. كان السكارى يتكئون على الجدران لكي يسندوا أجسادهم المليئة حتى العنق بالكحول الرديء، ليستمعوا إلى غناء الجنية بلغتها غير المفهومة لديهم، كما لو كانت قادمة من عصر ما قبل اورفيوس وأناشيده وديانته الغامضة.

ـ حوبا حي حوبا حي .. يا سالم يا ولد اختي .. نارك في كبدي تبقص.!!

تجمع حولها عدد من السكارى اليونانيين والأفارقة والأوربيين، والآسيويين بعيونهم الضيقة التي زاد الكحول في تضييق مساحاتها. رقصت دائرة عكس عقارب الساعة، كأنما تريد إعادة الزمن إلى الوراء، وهي تكرر كلمات أغنيتها الغامضة وقد تعرت تماما، الأمر الذي جعل المشاهدين الذين تجمعوا دون موعد غير راغبين في مغادرة الميدان.

ـ احبيريريش امبريريش .. كبير الطحش وما يمشيش.

قالت الجنية

وعندما حاول البعض في نهاية المطاف التحرك مبتعدين عنها وعن تخريفاتها العفريتية الليلية، قالت لهم بصوت آمر قوي مثل هدير الآت قوات غازية في صفو شهور الصيف.

ـ لن يتحرك أحد حتى يحل الأحجية، من هو احبيريريش امبيريريش.. ؟! لأن من سيجيب عن الأحجية هو فقط من سيغادر الميدان في شكله البشري الذي تعود عليه، أما من يعجز عن ذلك، فسيتحول إلى تمثال، مثله مثل ما تبقي من تماثيل فيذياس وبراكسيتيليس.

لم يجب أحد عن السؤال، وامتلأ الميدان بالتماثيل والاسمنت والرخام، واختفت الحديقة الدائرية الخضراء الصغيرة، وأصبح الميدان مثل قطعة من الجحيم.

عمت الفوضى الميدان الصغير، وتغيرت مسارات واتجاهات الحركة فيه، وكان شرطي المرور الذي يتصبب عرقا قد تحول لون ظهر سترته الرسمية البيضاء إلى اللون الرمادي، يحاول تجاوز المحنة التي وضعته فيها الجنية، بالحديث في مواضيع غير مفهومة، وبكلمات غير مترابطة من الصعب معرفة ما تدل عليه مع المارة المتوترين.
ـ ابريق .. ابريق .. صاح رجل يائس وخائف من أن يتحول إلى تمثال.

ـ أنت لست من هنا قالت له الجنية، ثم طارت، تاركة ملابسها وراءها وهي تغني:

ـ احبيريريش .. يا سالم يا ولد اختي..

اختفت ومكنستها وراء السحب التي كانت تنذر بالمطر. فيما ظهر الارتياح على وجه الرجل اليائس، اتسعت حدقتا عينيه، وقبل أن يغادر الميدان، جمع الملابس في كيس من البلاستيك، وأومأ إلى سيارة تاكسي.

*      *      *

في زاوية جادة آخرنون كانت بائعتا هوى تدخلان أيديهما تحت سروال رجل كهل وهما تلتصقان به، بعد قليل ظهر رجلا بوليس يحملان هراوتين كبيرتين لوحا بهما نحو المرأتين بشكل ينم على التهديد، فأخرجتا أيديهما من سروال الرجل، وابتعدتا عنه قليلا نحو الخلف وهما تراقبان رجلي البوليس، إحداهما أخرجت شيئا من جيبها وألقت به وراء سطل القمامة الكبير في الزاوية كمن يتخلص من خطيئة تقود إلى الجحيم دون استئناف. طلب رجلا البوليس أوراق الرجل، تبادلا التحديق فيها ثم أعاداها إليه وعيناهما تطفحان بالشك، فيما تسللت المرأتان إلى زاوية مظلمة ريثما تمر الأزمة. وفور أن أدار رجلا البوليس ظهريهما وانصرفا مبتعدين، انحنت المرأة التي ألقت ما ألقت وراء سطل القمامة، لتستعيد ما ألقت، ظلت منحنية ثمة بضع دقائق وهي تدير يدها في ظلام الزاوية التي انتصب عندها سطل القمامة، وقد تدلى صدرها على الرصيف كما لو كان يفتش معها، وظهر ما بين ساقيها من ملابسها القصيرة. غير أنها عثرت في نهاية المطاف على ما كانت تبحث عنه وأعادته إلى جيبها، وهي تنتصب مغتصبة ابتسامة علقتها على أغصان الشجرة التي كانت تظلل تلك الزاوية، كانت ابتسامة مبللة، فعلقتها لتجف في ضوء المصباح الكهربائي، وحرارة أنفاس التماثيل التي تحيط بها.

عادت المرأتان خائفتين تترقبان عودة الشرطيين، واقتربتا من الرجل الذي مد لكل منهما مجموعة من النقود الورقية، أعطته المرأة بعد ذلك ما في جيبها، سلم عليها بيد، ومد يده الأخرى تتحسس ما بين ساقيها قبل أن تبتعد مسرعة تاركة إياه ممدود اليد، وقد تحول بدوره إلى تمثال رخامي يشير بإحدى يديه في اتجاه الميدان، ويمسك بيده الأخرى ما منحته إياه قبل أن تنصرف وقد ارتفع دخان خفيف قرمزي اللون من ذلك الشيء، جعل بقية التماثيل تلتفت نحوه وقد انفتحت مناخيرها عن آخرها وهي تحاول قدر استطاعتها استنشاق رائحته ولونه. كل ذلك حدث خلال زمن قصير جدا، يخيل للمرء أنه من المستحيل حشر تلك الأحداث كلها في مساحته الضيقة تلك، وقبل أن يمتلئ الميدان بقبيلة كاملة من البدو الرحل الذي نزلوا لتوهم من حافلة أتت بهم كما يبدوا من ميناء بيريوس، كل واحدة أو واحد منهم يحمل متاعه على ظهره وقد انحنى تحت ثقل المحمول، وبدون أي موضوع على الإطلاق.

كانوا قد نزلوا لتوهم من سفينة ما، نزلوا في بلد الأساطير والأديان القديمة، والأبطال، والأشباح والساحرات والعرافات، والأكاذيب، وشعراء الملاحم الأسطوريين العميان، والمعابد الغامضة التي تتنبأ بالمستقبل ولا تقول شيئا.

*      *      *

توقف في فاليرو على شاطئ البحر، وقف وحيدا في غبش الفجر الرمادي مثل ساحر يستحضر عفاريت الجن والإنس، وتمنى في دخيلة نفسه لو كان باستطاعته عبور البحر سباحة. أخرج ملابس الجنية، كومها على الرمل، وكان يفوح منها عرق عفريتي به آثار شبق قديم لم يطفأ.

ـ كيف هو شبق الجن والعفاريت ككائنات نورانية..؟ من يعرف، لابد أن رغباتها تكون نوارنية بطبيعة الحال، مثل أولئك الفراعنة المقدسين الذين يزدحم بهم الشاطئ المقابل، من ذوي الرغبات المقدسة، حتى اجتماعاتهم مقدسة، وهزائمهم مقدسة، وكل ما سببوه للناس من ألم، هو ألم مقدس. تباركوا.. سبحانهم لا إله إلا هم وأبناؤهم وأبناء عشائرهم إلى عاشر جيل ..آمين.. هكذا.. مثل ما ورد في تسابيح كتاب الموتى.

*      *      *

في جيب من جيوب ملابس الجنية كان ثمة ورقة بها قصيدة لسابفو باللغة القديمة، موجهة لصديقتها ومغنية فرقتها غونغيلا تقول ما يلي:

“تمنيت أن أموت بالفعل

عندما غادرتني باكية وهي تقول لي

ـ اية تعاسة هذه التي تحيق بنا يا سابفو

إذ أفترق عنك رغم إرادتي

فأجبتها:

ـ إذهبي وكوني سعيدة

 وتذكريني

لأنك تعرفين مقدار ما أكنه لك

أما إذا نسيت

فإني أذكرك بما عشناه معا من مسرات”

فتمتم:

ـ وبالناس المسرة، وعلى الأرض السلام. أشعل سيجارة، ثم أشعل النار في ملابس الجنية، بعد أن دس القصيدة في جيبه وراقبها وهي تحترق بهدوء يغمره استمتاع غريب وغير مسبوق، ثم ما لبث وأن غير رأيه وأخرج القصيدة ليلقي بها على الملابس المحترقة. خرجت من الملابس رائحة غريبة، مالحة، حامضة، حلوة، متوترة، بها أثر من اليود والزعتر وزيت الزيتون وطيب غامض لعل سابفو كانت تتعطر به، ربما غونغيلا، أو الاثنتان معا. حدق في وجه القمر الكبير الذي يوشك على الاختفاء وراء جبل إيميتوس مع الفجر، كانت القصيدة منقوشة عليه بالازميل حرفا حرفا. حتى الكلمات الساقطة، أو المفقودة من النصوص المعروفة التي قام بنشرها بعض الأثريين كانت هناك بكاملها. حاول أن يخزنها في ذاكرته، فخانته الذاكرة وغدر به القمر، فلم يتبق لديه شيء من ذلك. تآمر عليه البحر، قبل أن يفتح أمامه طريقا طويلا يغيب طرفه في الأفق، جلست الأسماك والنوارس تتفرج على ضفتيه تنتظر العابرين.

ـ تفضل ..ألم تكن تريد العبور.. ؟

قال له البحر بلغة الماء، والتي نقش الدخان المتصاعد من ملابس الجنية المحترقة كلماتها على الأفق.

وضع قدمه على بداية الطريق، ولكنه تذكر فرعون، فسحبها، وقفل عائدا إلى اليابسة قبل أن يدير ظهره وينصرف.

*      *      *

ضحكت موجة قادمة من أقصى خرائط الغيب قبل أن تكسر أسنانها على صخور الشاطئ، وعندما تراجعت رآها تنحسر عن قربة (قرية) قديمة تآكلها ماء البحر وسوء المآل بسبب خطايا ساكنتها، نظر إليها، أعجبته، وتخيل نفسه يملأها بالماء ويوزعه على عطاش العالم طائرا على بساط ريح، أو على ظهر جنية عارية. أو أن يستخدمها كآلة موسيقية يسحر بها الجنيات اللواتي يأتين للاستحمام على الشاطئ قبيل الفجر. امسكها بين يديه، وشرع ينفخها. وبينما هو ينفخ في تلك القربة تمثل له لوسيفر في شكل أخاذ، كان يشبه تماثيل غانميذيس ساقي آلهة الأوليمب، ولا سبيل لمقارنته حتى بحوريات الجنة الأسطوريات، وفيما كان ينظر إليه مندهشا، سأله لوسيفر:

ـ لماذا تنفخ في هذه القربة.. ؟

ـ هل هي قربتك.. ؟

كان يريد أن يقول له “وما دخلك أنت”، غير أن روعة محدثه منعته من ذلك.

ـ نعم .. قال لوسيفر.. فأنا الذي ثقبها.

ـ لماذا.. ؟

ـ لا فائدة فيها، وجدتها تخر على الجانبين، على المحيط، وعلى الخليج. كانت تخر دما وخراء ووبالا ومازوطا وطواعين وكوليرا وكلاما كثيرا بالغ التخلف، وحكاما وجنرالات وكولونيلات وملوكا لا لزوم لهم، وجهلا وخيبة رجاء ويأس لا حدود له. كانت مجرورا للطاعون والموت والتسلط، لم تكن قربة ولا  قرية ولا مايشبه ذلك على الإطلاق. حاولت أن أركب عليها مزمارا فخذلتني، لم يخرج منها أي صوت باستثناء جعجعة مزعجة، وخطابات وأناشيد حماسية مليئة بالتناقض ومواعض لا تبشر بخير وكلمات متقاطعة لم افهم منها شيئا، بعضها ثوري، لا يختلف عن آخر رجعي، تراجعت كلها حتى انتهت إلى حيث ابتدأ التاريخ، بل إلى حيث لا تاريخ.

ـ هل تريد أن تجرب النفخ فيها..؟

ـ لا .. لقد جربت وفشلت، ولا رغبة لي في إعادة التجربة، دع عنك ذلك فلا أمل .. لا أمل مطلقا ثم ركب مكنسته وطار تاركا إياه في المجرور الذي اعتقد للحظه أنه قربة حقيقية، لأنه كان يشبه القرية كثيرا، والتي كانت تشبه قبعة جنرال، والتي كانت تشبه عمامة فقيه، والتي كانت تشبه وجه المفتي، والذي يشبه عصا رجل البوليس، والتي تشبه خوذة القوات الخاصة، والعامة.

ـ طامة.. طامة قريبة ـ قال ـ هاهو مكتوب اسمها على الأفق.

 ورمى بالقربة المثقوبة، أو المجرور الذي كان يخر على رأسه كالميزاب، وغادر على وجه السرعة قبل أن يغرقه.

*      *      *

قبل أن يخرج من المستنقع تماما لمح ظلا ينسحب على الأرض مثل بساط متسخ يراد غسله قرب بئر القرية، وفوق مياه الغمر العفنة، رفع رأسه إلى أعلى، كان ذلك هو ظل الأخضر ديدالوس، العامل الجزائري الذي يبدو أن لم يستطع دفع تذكرة طائرة، بالرغم من سنوات العمل الطويلة في المناجم، والمحاجر، والمزابل، والمقابر والمواخير، وغيرها من الأعمال التي وفرها التعاون المثمر بين الحداثة والبترول وأنظمة الحكم الرشيد التي تقتدي بالسلف الصالح، فاضطر إلى أن يلصق على جسده أجنحة من الريش بشمع النحل غير الأصلي، لأن الأصلي مرتفع السعر قليلا بالنسبة لميزانيته المتواضعة. غير أنه جاع في الأجواء التونسية، فاضطر إلى أكل الشمع، فوقع على مؤخرته في بحيرة الجريد، فيما كان المؤذن يرفع أذان المساء.

*      *      *

كانت العتمة قد بأت تلف المحطة، والانتظار يتلو الانتظار، مثل كل ليلة وكل يوم، وبين الحين والآخر يفتح العجوز النائم الذي ينتظر قطارا لن يأتي عينيه، ثم يقول للرجل الجالس إلى جواره على المقعد المهترئ من كثرة الاستعمال، وطول المدى الذي لا معنى له:

ـ لعلنا أخطأنا اختيارالمحطة، أو لعلهم الغوا الخط بالمرة دون أن يعلنوا عن ذلك كعادتهم ف هذه البلاد. سمعت انهم قد يبيعونك تذكرة و يدعونك حتى تركب السفينة، ثم يأتي أحدهم فينزلك منها، يغير مسارها، ويتركك تنتظر على الرصيف فصلا إضافيا آخر في الجحيم، ودون أن يتساءل أحد عن ذلك.

كانت العتمة قد بدأت تلف المحطة مثل ورق الجرائد القديمة الذي يلف فيه الخبازون خبزهم البائت ليبيعوه للطوابير المنتظرة التي لا تتساءل أبدا لماذا هي مجرد طوابير لا هوية لها، وذلك المسافر البلاهوية ينتظر مثل كل يوم وكل ليلة قطارا ما يعبر المستنقع، كان بين الحين والآخر يحدق في الرجل العجوز الذي أنفق الخمسة والثلاثين عاما الأخيرة من عمره على نفس هذا الرصيف، وعندما غلبه النوم رأى فيما يرى النائم محطة أخرى، لعلها كانت الاوستريليتز أو الغار ده نورد، كان يعبر بوابة المحطة، وكان عدد من الافارقة يجمعون القمامة في سيارة متوقفة أمام المحطة، وآسيوي آخر يغسل صناديق التلفون بالماء المضغوط المنبثق من سيارة بيضاء بحروف زرقاء متوقفة على الناصية الاخرى. قال له العجوز:

ـ لماذا تنظر إلي هكذا.. ؟

ـ آه .. عندك حق ـ قال له ـ ولكن دعني أبدأ معك الحديث من أول السطر. دعني أقول لك ما بقلبي لتعرف ما أريد. وأدخل يده في صدره ليخرج له قلبه ويريه ما به ليفهم، فلم يجده في مكانه، كان قد غادر مثلما غادرت القطارات ولم تعد لتعبر هذه الفيافي المكللة بالحزن والمشانق. مثلما غادرت الساعات وهي تحمل الزمن في حقائبها للمرة الأخيرة، تاركة المكان عاريا تحت شمس القماءة والقبح القاسية.

قرب العجوز رأسه من الفراغ الذي في صدر الرجل، الذي شعر بالخجل من أن يوضح له أن قلبه كان قد غادره دون إذن منه لسبب لا يعرفه. غير أنه لم يلبث أن سمع العجوز يبكي.. يبكي بحرقة حقيقية على رجل فقد قلبه على رصيف لمحطة قطارات دون سبب واضح. ثم ربّـت على رأس الرجل مواسيا وقال له بأن لا يهتم بالموضوع، فنحن بشر، ولا بد أن يأتي يوم تضيع فيه قلوبنا منا، وأننا لا بد راجعون للعدم. إزداد بكاء العجوز حدة من فرط اللوعة وهو يضع يديه داخل صدر المسافر مواسيا.. حيث أحس المسافر بيديه الباردتين في قفصه الصدري، أحس بحجم الفقد وبقيمة الفراغ في نفس الوقت، وكان يحاول أن يبين لرفيق الانتظار بأنه ليس من الضروري أن يعيش الانسان بقلب، فكثير من الناس يمارسون حياتهم العادية دون قلب ولا جمجمة ولا كبد، ودون أن يؤثر ذلك على مجرى حياتهم هم بالذات، إذ تكفيهم معدة وجهاز تناسلي وآخر هضمي. وفيما كان يحاول أن يشرح نظريته للعجوز، استيقظ على صوت فرامل مرتفع خارج المحطة، وعندما فتح عينيه، كان الناس الذي يينتظرون قطاراتهم التي لا تجيء يهرعون إلى الخارج ليروا ماذا حدث. فرأوا .. ورأى، أن القطار كان قد جاء في نهاية المطاف بعد انتظار كل هذه السنين، ولكنه مر من خارج المحطة ولم يتوقف، بعد أن داس في طريقه عمال النظافة الذين كانوا ينظفون المحطة. كانت عربة النظافة التي كانوا يجمعون فيها قمامة المدينة قد تحولت إلى كومة من الحديد والمخلفات، وعامل تنظيف صناديق التلفون كان قد اختلط بجهاز تلفون مكسور، وكانت سماعة وخيط التلفون تتدلى من بلعومه المفتوح. كان يرن .. يرن، ولا يتوقف عن الرنين، لأن أحدا لم يكن يسمعه، أو مهتما بالسماع لرنينه.

*      *      *

في البداية أحس بفراغ كبير يجتاحه مثل التتار وآتيلا وأشباههما، الأمر الذي أثار لديه نوعا من الرهبة، مثل من يدخل قدس أقداس معبد قديم للمرة الأولى في حياته، أو كمن يسقط في هاوية لا يعرف بعد قاعها. غير أنه شعر في نفس الوقت براحة كبيرة بحجم ذلك الفراغ الذي كان يملؤه، فراغ مثير للرهبة، لأنه كان مجهولا بالنسبة إليه، ولكنه كان مثل الكابوس المريح، كمن يتنفس الصعداء بعد انتهائه من صعود جبل ما كان يعتقد أن بإمكانه صعوده، ولم يعد أمامه سوى الجلوس تحت الشجرة التي تلتهمها النار وانتظار سقوط الألواح بوصاياها على رأسه، حيث ظل حتى تلك اللحظة الملغمة بالأسرار، يجهل مبرر صعوده ذاك، يحيط به نفس الفراغ بسبب أو بدون سبب.

ـ اللعنة على بارمنيذس.. هاهو يظهر مرة أخرى على السطح هو وفراغاته.

قالت له بغباء كامل:

ـ تحصن بقلعة الغباء، فهي خير ترياق ضد هذا الزمن والواقع وما نهض بينهما.

قضت معه على رأس الجبل زمنا لا يدركه العد والحسبان، وفور أن عرف بأنه لا من ألواح ولا من يحزنون، وفور ان انكشفت عورته التي لم يكن يدركها من قبل، والتي هي ضيق ذات اليد، وقلة الحيلة في مغالبة الزمان، والتي لم تنفع وصفتها في التحصن ضدهما، أخذت معها كل اشجار التوت والتين والسرو والزيرفون والبلوط، تركت الجبل عاريا مثله، والمدينة خالية من الاشجار، حيث كان الناس يخصفون عليهم من أوراقها لتغطية عريهم وقلة حيلتهم، ولتقيهم وهج الشمس. كانا يقفان عاريين هو والجبل. وكانت المدينة عارية عن بكرة أبيها وأمها وباقي أقربائها، عراة بلا عزاء ولا قدرة على الصبر أو الاستمرار أو التوقف أو المكوث، أو حتى القدرة على مخاطبة المكان ليستر عريه عن الزمن. كان العري هو سيد المكان. فيما كانت هي تعصر رأسها الصغير المحدود، متصورة بأنها قد عرفت كل شيء، فانتزعت ما تريد ممن تريد ولا يريد، كل شيء عن عالم الغيب والشهادة

          المجيء والذهاب

الممحي والثابت

الناسخ والمنسوخ

اللاهوت والناسوت

غرقت في بحر الخوف أعواما، بل عقودا بكاملها مما يعد الناس، بعد أن انكسر مركبهابكامل مجاديفها، وقبل أن تهتدي إلى جزيرة الشحّ، والنقص في الأموال والأرواح. كانت عند الشاطئ عندما انهار الجسر الكبير، ورأت النساء المتشحات بالسواد يلاقين مصرعهن بسبب ما عانينه طوال حياتهن البائسة، كن مقيدات بسوادهن لا يستطعن منه فكاكا، ولم يخطر على بال أحد تعليمهن العوم ذات يوم إلى اجانب الطبخ والكنس، ومسح مخلفات الأطفال، عملا بعلموا أولادكم السباحة.. وضرب بكفه على جبهته.. كيف فاتني هذا.. أولادكم.. نعم.. أولادكم.. هل قال بناتكم.. دعك من المماحكة.. من يحفل بهن.. !!

كان يوما بائسا، يشبه الخواء والموت وأكداس الجثث التي تراكمت دون مبرر واضح سوى الجهل والتخلف وقلة عقل الحاكم والمحكوم على حد سواء. كانت تقف ما بين القبل والبعد، لا تكاد تعي ما ترى، أو ترى ما وعى منها وفيها وبها. وكان روح غامض يرف على وجه الغمر، كان نهر واسع وعفن وقبيح من جميع الوجوه، يمارس القتل دون تردد مثل غيره من الولاة والحكام. لم تكن تنمو فيه أية حياة باستثناء روح شيطانية تهوم بمفردها في ذلك الخواء، والروائح العفنة، والقاذورات. وكانت تقضي وقتها في نصب المشانق، والتسلي بأرجحة الجثث على أخشابها، ثم الحديث عن عظمتها القميئة التي لا تشبهها عظمة زيوس، ولا بوسيدون، ولا تانيت، ولا مردوخ، ولا بعل، ولا هبل، ولا..!!

وهي تضيّق على الناس في حلهم وترحالهم، وفي مشيهم وتركاضهم، وفي نومهم ويقظتهم، في معاشهم ومرتباتهم، تلتهم كل شيء مثل نار شيطانية لا حد لشهيتها الملتهبة في التضييق عليهم لمجرد التضييق. وفيما هي تتأمل إنطلق سهم من مكان ما، فأصابها في ثديها الأيسر، فاختلط الدم باللبن، والجبن، وبعض النذالة. لم تستفق من تهويماتها إلا على صوت اللبن الصارخ في البرية، وصرخات الأطفال الموتى، وصرير أخشاب المشانق في ذلك العري العظيم الذي لا ترياق ولا جغرافية له.

*      *      *

جاء الطبيب بحقنة كبيرة انقبض وجهها لرؤيتها، ولكنه غرزها في ثديها الآخر، بعد ثوان معدودة على أصابع اليد أو القدم.. لا فرق. كانت تهذي، وفيما كان الطبيب الجراح ينزع السهم من صدرها. قالت أشياء كثيرة خلال هذيانها.. !!

صرخت في وجه الطبيب:

ـ إنهم يقتلون روزا لكسمبورغ، إنهم يصلبون الحلاج، إنهم يدخلون بغداد، ولن يخرجوا منها قبل أن تخرج ياجوج وماجوج من السور، إنهم ياجوج وماجوج، لا… بل إنهم ماجوج ونحن ياجوج، أنتم ياجوج، وهم ماجوج، أنظر أيها الحكيم، إنهم يبولون على رماد الحلاج، وسيستمرون في ذلك حتى تأتي اناس تضع عقولها في رؤوسها وليس في … في … وشرقت بالكلمة. وقف الطبيب مبهوتا وهو يستمع إلى هذه النبوءات وهي تنهمر من فمها قبل أن تلتقط أنفاسها وتستأنف:

ـ أناس لا يجلدون أنفسهم، ولا يعبدون الموتى، ولا ينحنون أمام كل من يرفع سوطا في وجوههم، لا يفرحون لمقدم عقيد ولا شاويش ولا أومباشي، فيخرجون مثل أبقار فتحت زرائبها هاتفين مهللين فيما يشبه الخوار. وقبل أن يمر نصف جيل تراهم مهطعي رؤوسهم، أو غارزيها في الرمال، أو في ما تجود به عليهم مجاري مدنهم المهترئة التي تفوح منها رائحة العفونة الدائمة. يرقصون في الشوارع مقابل فردة حذاء، فيما يتدلى آخرون أمامهم من المشانق.. أنظروا.. أنظروا إلى هذه القحبة السادية وهي تهتف ” مانبوش كلام لسان”.. انظروا.. لقد امتلأت الساحة بالقوادين والجلادين والمستثمرين والمهندسين ومساعدي المهندسين، والمندسين، وكل المهن  (الشريفة) في عالم داعر قذر ملعون، وفي زمن داعر قذر ملعون، أيام داعرة ملعونة، دهر ملعون، شعوب ملعونة، تحمل لعنتها الثقيلة الوطأة جيلا وراء جيل، مشانق منصوبة، مدن مضروبة، سرادق مبثوثة، مزابل ليس لها أي حل، شواش وأمباشيون ونواب شواش وأومباشيين يقودون الناس من أنوفهم وخراطيمهم فلا يستنكفون، بل أن بعضهم … بعضهم.. !!؟.. لا بل معظمهم يشعر بالسعادة، وقد رسموا على وجوههمم القبيحة ابتسامات بلهاء لا تختلف كثيرا عن فتحات المجاري التي تنـز على نحو موصول، إبتسامات تغطي ما بين شحمتي الأذنين عرضا، مثلما تغطي فتحات المجاري مدنهم بالطول والعرض.

*      *      *

فتح الباب، ودخلت إمرأة جاءت لزيارتها وهي على سرير خط الاحتمال الأخير، ربما الأصح القول هيكل عظمي مركب عليه طقم اسنان باهظ الثمن وعدد كبير من السلاسل الذهبية والخواتم، وغير ذلك من الاكسسوارات. فتحت المخدرة دون مخدر كيماوي عينيها، حدقت في الزائرة التي وقفت إلى جانب سريرها لحظة، ثم شرعت تخاطبها في رباطة جأش بالغة:

ـ ماذا جئت تعملين هنا يا أمنا الغولة… لقد أكل السيد الغول زوجك كل ما هو جميل ونديّ في حياتنا، ونصب المشانق، وأطلق الرصاص، وعربد، و…..، فما الذي تريدينه مني، لقد أعطيتكم كل شيء، لم يبق لي شيء أعطيكم أياه، فلماذا جئت إذن.. !؟ هل لديكما شك أنت والغول في هويتي، أو في أنني ربما قد ساعدت المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال النازي، أو المقاومة الجزائرية أيام الاحتلال المغولي، أو المقاومة الليبية أيام الاحتلال الفاطمي أو العباسي. لم أقم بشيء من ذلك، ثم أنني لست خالدة مثلكما لكي أحضر كل هذه العصور. غنت لها جميع الأغاني التي ظنت أنها تحبها لكي تتركها في حالها، رفعت صوتها بـ :

ـ حوبا حي حوبا حي  ياسالم ياولد اختي .. !!

أغنية الغولة المفضلة

لا فائدة…

لقد أكل الغول كل الصبايا اللواتي كن في القصبة، ولم يترك من عظامهن شيئا للذكرى. ورأت فيما يرى النائم الغولة وهي تكشر عن أنيابها وتهم بأكلها، فأطلقت صرخة تردد صداها في جميع ممرات وأروقة المستشفى، وهرع الأطباء والممرضون والمحللون النفسيون والجند والجلادون والمخدرون وأخصائيو الانفلات الأمني والمقربون من أمنا الغولة لكي يسمعوا ما يدور من حوار، حتى إبن أمنا الغولة بصلعته الكبيرة القبيحة، وابتسامته الغبية البليدة الشوهاء، جاء لكي يستطلع الأمر، ولكي ينقل لأمه الغولة ما يجري قرب سرير المرأة المفجوعة بمن فقدتهم بسبب الغول الذي غزا القرية الآمنة التي كانت تنام على أمل النهوض في اليوم التالي كل ليلة، فجعلها تنام دون أي أمل في أي شيء.

كان أولاد أمنا الغولة يرقصون في كل مكان، أشعلوا النيران اقتداء بجدتهم الغولة الكبرى، اطلقوا اسمها على صوامع وقصبات تفرخ أناسا تم تصميمهم ليناسبوا اسنان الغول، وتجاوز الرقص جميع الحدود، من فاس ومكناس، إلى مجريط وطليطلة، وملك بني الأحمر، والأصفر، والأخضر، والرمادي المخطط.

أشعلوا النيران اقتداء بجدتهم التي فقدت جلدها في حريق ناري هائل ذات ليلية خريفية استمرت ثلاثين عاما، بعد ذلك تنهدت، غادرها الطلق، ثم ولدت. ولدت مسخا تشاءمت منه جميع الأغوال وتطيرت، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان. لأن الضحايا كانت من الغباء بحيث أنها قامت هي نفسها بحمايته من أخواله وأعمامه وقربائه من الأغوال الأخرى، فلم يعرف دما غير دمهم، ولا لحما غير لحمهم، فيما كانوا هم يصفقون ويرقصون ويهللون لمن كان يمتص دمهم قطرة قطرة، دون أن تهتز له شعرة في جفن.

حكت له عن جميع المدن التي زارتها، مدن تحيط بها أسوار الكسل والجهل والقماءة، تفوح منها رائحة القمامة والخراء، وتحيط بها بوابات الخوف من كل جانب. بوابات يحرسها جنود يملأ العمش والتراكوما أعينهم وقلوبهم. يحكمها عميان لا يميزون بين الصباح والمساء، ولا بين النهار والليل، قالت له:

ـ إذا كان الأعور في بلاد العميان ملكا، لأن له عينا واحدة في مجتمعات لا أعين لها، فما هي الميزة التي تجعل العميان يتسلطون على تلك المدن البائسة، وما هو مقدار عمق هاوية العمى الذي يحيط بسكانها.

ـ لعلهم أكثر عماء من العميان

ـ كيف يكون ذلك؟

ـ العمى درجات، فثمة أعمى العينين، وثمة أعمى القلب والعينين معا، وثمة العمى الأقرب إلى الموت ذاته

ـ هل تعني أنهم يحمون مدنا يسكنها موتى

ـ ربما

ـ هل تعني الملوك الأشباح.. !!

  ثم سكتت عن الكلام الممنوع الهامس

وكان صباح

     وكان مساء

فلما رأي الله أن العمى حسن، نشره وغلف به قلوب وعيون مخاليقه … فكان العمى يقودهم عبر الطريق الممتدة ما بين افخاذ امهاتهم، وحتى حفرة دود الأرض، فلا مهرب لهم من العمى إلا الموت.

6 يوليو 2014

مقالات ذات علاقة

قصص قصيرة

محمد دربي

الحرباء..

أحمد يوسف عقيلة

جحا والخبز

محمد دربي

اترك تعليق