كتابة
المقالة

منحة لقابلية المعرفة

أوردت صحيفة الوسط في باب الثقافة بتاريخ 05 سبتمبر 2019 ، عن مكتب التعاون الدولي بوزارة الخارجية الليبية بطرابلس، أن مؤسسة “DAAD” الألمانية للتبادل الأكاديمي، قدّمت عددا من منح الدراسات العليا في مجالات الموسيقى، والمسرح، والفنون الجميلة، والتصميم، والاتصال المرئي والأفلام، والهندسة المعمارية.

يلحظ المتابع للمشهد الثوري الليبي، بعد 2011 نقصاً فادحاً في الإنسانيات الثقافية. ولهذا السبب تحظى اللفتة الألمانية بالامتنان ربما لإحساسها بمعاناة ليبيا التي هُمش الاختصاص الإنساني العالي فيها منذ بداية السبعينات من القرن الـ 20 بدعوى التوجه للتنمية المادية ومنذ حدث السابع من أبريل 1976، الذي أتى تكملة للثورة الثقافية 1973، صار التضييق عليه وشبه مُنع الإيفاد لدراسة الإنسانيات، باستثناء الموالين وأعضاء اللجان الثورية، غير المؤهلين سياسة ثابثة للنظام الدكتاتوري المُسقط بالثورة الشعبية 2011 . ولكن بقدر ما أغبطني الإعلان فمن جانب شخصي حرّك في قلبي ذكريات ترجع إلى عامي 1992 ـ 1993، لازالت تقتحم وجداني بالكرَب، وقد دخلت هذا الشهر عمري الـ 64 ، منفّذاً فيّ عام 2012 قانون العزل السياسي الملّفق. فحرمتُ من وظيفة ملحق ثقافي في سفارة ليبيا في ألمانيا، وبعدها ألجأتني أحداث فجر ليبيا العنفية أغسطس 2014 إلى ترك وظيفتي بعد معاناة في ليبيا استاذاً في قسم الفلسفة بكلية طرابلس، والعودة بعد عامين إلى ألمانيا التي أعيش فيها منذ 3 عقود،حيث أسكن اليوم على بُعد أمتار من مبنى مؤسسة الـ”DAAD”في مدينة بون، عاطلاً عن العمل،لامورد رزق ثابتا لي، يعينني على بقية عمري الذي يدلف تدريجياً بسبب العوز والعجز إلى تخوم إكتئاب النهايات. لقد تفاجأنا أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الليبية عام 1991 ربما استعداداً ليتلافى النظام تطبيق الحصار عليه في مارس 1992 بشمولنا بقرار ضمّ 200 أستاذاً لإيفادنا لتحضير درجة الدكتوراه والأسبقية كانت لحملة الماجستير الليبية في العلوم الإنسانية. وقد تحايلت حتى لايشملني توجيه أمانة التعليم بعدم إيفاد المختصين في الإنسانيات إلى البلدان الغربية، بأن أطروحتى في الفلسفة سيكون موضوعها الإبستمولوجيا، أي نظرية المعرفة العلمية. ورغم ذلك مرّ الإجراء بواسطة في أمانة التعليم العالي ـ بسرت

ما يدعو للاستغراب أننا تُركنا وحدنا نُدبرّ أمرنا مع سفارات الدول التي نبغي الدراسة فيها، كإجراء القبول العلمي وتأشيرة الإقامة. القنصل في سفارة ألمانيا بطرابلس تفاجأ بأن ترد عليه كل يوم طلبات لأشخاص، لاتتبنى إجراءاتهم الجهة الاعتبارية الليبية التي أوفدتهم، وليس في أيديهم إلا رسالة ضمان بمنحة دراسية ليبية مدة دراستهم حسب قانون الإيفاد العلمي. المفاجأة الثانية أني الوحيد الذاهب لدراسة الفلسفة، والآخرون لدراسة الطب، الأمرُ الذي أثار شكوك القنصل الألماني بأني موفد لمهمة لاعلاقة لها بالتعلّم في ألمانيا ربما تكون أيديولوجية أو أمنية. فمُنحت لي تأشيرة محددة بشهرين ثم العودة، بناءً على قبول معهد اللغة الذي سدد رسومه عني صديقٌ لي عن طريق فرع معهد غوته في روما. من صيف عام 1992 إلى شتاء1993 كنت في ليبيا، وفي ظن أمانة التعليم أني أدرس في ألمانيا، في الأثناء طرأت صدفةُ التقاء أستاذ التاريخ الزميل عماد غانم بالمسؤول عن منح شمال أفريقيا بمؤسسة الـ “DAAD”المختص في الدراسات الخلدونية ماتياس بيتسولد M. Paetzold ، سأله مساعدتي في حصولي على الإقامة الألمانية، فعرض علي منحة ألمانية من الـ “DAAD ” تتضمن إقامتي بدون مشاكل، العائق أن قرار إيفادنا الليبي يمنع علينا قبول أي منحة موازية للمنحة الليبية من دولة أجنبية، وهذا ما فسر للمسؤول الألماني الرفض الليبي المتكرر لمنح دراسية لليبيين للدراسة على حساب ألمانيا مما اضطره دائما لتوزيع منح ليبيا على طلاب توانسة وجزائريين ومغاربة.

تأملتُ في الإعلان أعلاه عن الخارجية الليبية، فوجدت فقرة تفيد بأنه على الطُلاب التقدم مباشرة بشكل شخصي إلى مؤسسة “DAAD” الألمانية عبر موقعها الإلكتروني” WWW.fundig-guide.de ” فتداعت علّي قصة معاناتي في ألمانيا، ليس في الإقامة فقط، بل في اللغة وصعوبتها، لكوني من ليبيا التي أُقفل فيها معهد غوتة الألماني في طربلس بسبب الفعل الإرهابي الفلسطيني ‏5 سبتمبر عام 1972 ضد ألومبياد ميونخ الذي تبنته ليبيا، ومعادلة شهادتي الماجستير الليبية، بأن فُرض علّي دراسة أخرى، للتهيؤ لأطروحة الدكتوراه في الفلسفة، فاخترتُ السياسة التي استنفذت دراستها المنحة الليبية.

هذه التداعيات دفعتني لكتابة منشور في صفحتي على الفيس بوك ضمنّته تحفظي على ما رأيته تنصلاً من مكتب التعاون الدولي بوزارة الخارجية الليبية من واجبه في التعاون مع المؤسسة الألمانية المانحة، وشاركت المنشور عدداً من أصدقاء صفحتي،فجأني جواب من وزير الخارجية الليبي، مُبدياً رأيه في حاجة الليبيين للعلوم الأنسانية علّها تهذب نفوسهم، وترقى بهم إلى أفق الثقافة. وأعلمني بأنه استثمر حضوره للمشاركة في القمة السابعة لمؤتمر طوكيو للتنمية في أفريقيا (تيكاد)، للتباحث مع المسؤولين اليابانيين في حسبان الطلاّب الليبيين بمنح دراسة وتدريب، بل توفّق في تجديد الاتفاقيات الثقافية مع اليابان المتوقفة منذ عام 2011.

نقطة منشوري، التي ربما لم يتفطّن إليها وزير الخارجية، أن مؤسسة الـ “DAAD” ربما لن تأخذ الأمر بجديّة إذا لاحظت أن الدولة الليبية غير مُبالية بتدريس طلابها العلوم الثقافية في ألمانيا، فالمنح التي بدأت تهطل على طًلاب ليبيا بعد انهيار سدّ الدكتاتورية 2011 .. مثل منحة الـ “DAAD” الألمانية للدراسات الإنسانية، كانت قد أوقفها النظام الليبي الساقط، لعزل الليبيين عن معارف العصر وثقافة الديمقراطية، وآخر منحة في الفلسفة هي التي حظي بها بداية ستينيات القرن الـ 20 د.ياسين عريبي الذي أنجز عام 1970 أطروحته في الفلسفة الإسلامية عن نظرية الأحوال للإمام الغزالي والفلسفة بالطرائق المعرفية الألمانية من المجالات الثقافية المطروحة للمنح للبلدان العالمثالثية المأزومة كليبيا، السؤال الملّح الذي ينطرح للنقاش:هل الطلاب الذين سيتقدمون إليها مضمونا وليس شكلا شهادات ودرجات مهيئين معرفيا لها؟.. الإجابة ستفتح لاشك نقاشاً في ماهية حصة الثقافة التي تقدمها المدارس الليبية من الإعدادية إلى الشهادة الثانوية للطلاب والجامعات. أنا أتيحت لي، بمعيّة د. محمّد بلحاج عام 2013، وشاركني الكاتب عمر الككلي في جلسة البداية ثم اعتذر بعد تحفظات أبداها، عن المواصلة في فرصة تقييم مساهمات المسابقة الأدبية والشعرية على مستوى جامعة طرابلس، لقد صُدمتُ من المستوى المتاهفت لمتسابقين منهم طلاب من قسم اللغة الأنجليزية لايعرفون الكاتب شكسبير الذي قرأنا له في ثانوية جيلنا مسرحيات بالإنجليزية تاجر البندقية، والعاصفة وقرأنا للكاتب ديكنز أوليفر تويست وقصة مدينتين ونثر الطريق الذهبي للأدب الإنجليزي. وحاججتني طالبة أنها تميل لشعر أبي الطيب المتنبي، أكثر من شكسبير المختصة في لغته وعندما سألتها لأية حقبة شعرية ينتمي فقالت بدون ترّدد إنه شاعر من العصر الجاهلي من أصحاب المعلقات.

حتى نتجاوز بالطلاب الليبين ،فقرهم العلمي ،ونأخذ بيدهم إلى الثقافة، وعلوم الاجتماع والسياسة، وبليبيا الجاهلية، في الإنسانيات، من المأزق التي هي فيه فإني أرى أنه من الخطأ أن لايكون هناك تنسيق بين مؤسسة التعاون الألماني وبين الخارجية الليبية، حتى يتم اختيار طلاب منتقين من الحواضر الليبية المتمدنة يلمون بدورات إعداد للدراسة الإنسانية في ألمانيا وإلمام بمبادئ اللغة الألمانية وأهم من ذلك لمحة مُعمّقة عن طبيعة المجتمع الألماني الذي سيعيشون بين ظهرانيه. دون هذا ستكون منحة دراسة العلوم الإنسانية في المانيا محفوفة بالخيبات الصادمة.

مقالات ذات علاقة

إثمٌ دينيٌّ قوميٌّ

عبدالمنعم المحجوب

مقالتان اِفتراضيتان

محمد دربي

ملخص لكتاب يستحق الترجمة والنشر بالعربية

يونس الهمالي بنينه

اترك تعليق