القاص جمعة الفاخري
قراءات

مع جمعة الفاخري

د. عبدالجواد عباس

جمعة الفاخري من الشباب المبدعين الذين ظهرت أعمالهم في بداية القرن الواحد والعشرين.. وهو يكتب القصة كما له هوًى كبيرٌ بالشعر , تأليفه وحسن إلقائه، و يمتاز بشجاعته الأدبية وبفصاحته وبراعته في التقديم والتعليق في الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية.. كما اتّضحت قدرته على معرفة الأدب الشعبي الغنائي.. كما يمتاز جمعة الفاخري بكثرة الحفظ وسرعة البديهة والتأنّي، مما أسهم في نمو شخصيته وانتشارها بسرعة.. ألف أكثر من ديوان شعر، منها: (اعترافات شرقي معاصر) وأكثر من مجموعة قصصية منها: (صفر على شمال الحب) و(رماد السنوات المحترقة) وغيرها.
نهج في قصصه نوعًا من الرومانسية الجديدة، شقّ إليها طريقا غير الذي كنّا نعرفه من كلمات الحب الموروثة والعبارات العاطفية المؤثرة والآمال المبالغ فيها.. تشعر وأنت تقرأها أن العبارات تنثال عليه دون أن يصطنعها أو يتوقف لاختيار كلماتها، وهذه ميزة الشعراء القصاصين.

الشاعر جمعة الفاخري
الشاعر جمعة الفاخري


وقد أبدع جمعة الفاخري في مواقع عديدة من مجموعاته القصصية؛ فهو يكتب القصة الواقعية المحتوى في البداية ثم لا يلبث أن يلبسها ثوبا من الخيال المجنّح وصورا ناعمة الملمس، من تلك التي تحسبها مألوفة في واقعيتها إلا أنها واقعية قدمت على طبق من ذهب.. يتّضح هذا مثلا في قصة (دروب) عن رجل خمسيني يخاطب نفسه عبر تيار الشعور، وكان جالسا على كرسي في مقهى وقبالته كرسيّ خالٍ، يقول على لسانه :
” كان من المفروض أن يُملأ بامرأة يحتويني عطرها، ترسلني عيناها إلى جزر المحبة والابتهاج.. تمنحني يدا دافئة رقيقة.. تغفو بيدي مثل عصفور.. تربتُ أصابعُها على رعشة القلب نفسها.. تهديني أصابعها حدائق وجداول وأزاهير زاهية ندية.. تمنحني عقد أمنيات قزحية.. تحقن عمري المثلج بدفء الحياة الذي لا يريم “(1)

جمال الأسلوب لم يؤثر فيه هذا الهتاف وهذه الخطابية، إذا ما استثنينا عبارة (الذي لا يريم ) التي كانت نشازا على هذه الترانيم الموسيقية، فإن كل عيب يختفي في خضم الكلمات الجميلة وكأن ليس لها وجود، أول مرة تتحول الخطابية الممقوتة في القصة من ميزة سلبية إلى ميزة إيجابية، قد تحدث المفارقة، ليس هناك شيئا ثابتا، هذا يذكرني بالنقاد الذين لا يعتبرون كلمة (أيضا) كلمة شعرية حتى وردت على لسان أبوبكر الشبلي فكانت ذات وقع جميل حيث يقول :
رُبّ ورْقاءٍ هتوف في ا لضُّحى ذات شجوٍ صَدَحتْ في فَنَنِ
ذكرتْ إلفا ودهراً سالفاً فبكتْ حُـــــزْناً وهاجتْ حَزَني
فبُكائــي ربمــا أرّقــها وبُكاهـــا ربــما أرّقـــني
ولقد تشكو فمــا أفهمُها ولــقد أشْكــُو فما تفهمُني
غير أنّي بالجـــَوى أعرفـُها وهــي أيضا بالجَوى تعرفني

فعبارة الفاخري تتميز ككل بميزتين ؛ ميزة الواقعية الملموسة في موضوعها، فهي تخص الجميع، فمن منا يخلو من هواجس الأحلام الوردية.. وميزة أخرى وهي التقديم الرومانسي الشّفاف ” فثمة فرق بين من يتناول زاده في العراء وبين من يتناوله في شذى الورد والياسمين”(2).

ومعظم قصص جمعة الفاخري نلمس فيها المسحة الشعرية الواضحة، ذلك لكونه يحمل نفسا شاعرة رقيقة، فتظل الرومانسية الشعرية مجسّمة حاضرة، ذلك كما نلحظه في قصة (صفر على شمال الحب).. ومضمون القصة يدور حول شاب تعرّض لحادث فأحاله إلى مُقْعَد، أحبّ ممرضته بالمستشفى، استمالها فلم تتضح مشاعرها نحوه، وقد رمز لها عن حبه في عبارات شعرية عدة مرات فلم تنتبه لها.. وقد اتضح أنها كانت تلاطفه إشفاقا عليه.. وذات يوم أحضرت طبقا من المرطبات، وزعته وقالت : إنه من أجل خطوبتي، ومن يومها اختفى الشاب من المستشفى، وأصبح الحب الذي يتغنى به صفراً على الشمال، وترك الشاب رسالة يناجي فيها نفسه الشاعرة بقوله:
” أيتها القصيدة الأخيرة، لقد تعبت وأنا أحاول أن أصطادك كقصيدة مدهشة
أعلقها أيقونة على جدران أيامي المظلمة..
لكن يا للمرارة فشلتُ فشلا ذريعا !!
ما أقسى فشل الشعراء.. إنهم يموتون حين تمضي القصائد عن حياتهم..
شكرا لحبِـّكِ.. شكرا لعينيكِ.. لقد أتعبتني كثيرا فقررت أن أغتالك… اغتالني… أغتال ما بيننا بالسفر.. و..د..ا..ع..اً”(3)
وفي مجموعات الفاخري القصصية تتميز كثير من القصص بذكريات الطفولة، وهذا النوع يعد من أنواع التجديد في القصة الليبية القصيرة، إذ لا نجد هذه الميزة متوفرة بكثرة في قصص الروّاد.. ومن أمثال تلك القصص هذه الحوارية من قصة (الكابوس):
” أمرني بتسميع سورة (المسد).. تلكأت.. قضيت اليوم كله أحاول حفظها متوسدا فخذ جدتي التي ظلت تحشو وسادتي بالخرق البالية وبقايا ثيابي الرثّة فيما كانت تلومني على تركي الجديان تسرح وحيدة من غير راعٍ..!(4).
كذلك نجد هذه الروح الطفولية في قصص : المحروسة ـ الزيارة ـ الصورة ـ القادم ـ لعبة العشاء) وغيرها مما يستقيم معه عمل دراسة كاملة لهذا النوع من القصص.
________________________________________
(1) جمعة الفاخري ـ رماد السنوات المحترقة ـ دار الأندلس الإسكندرية 2004 ـ ص13.
(2) إدوارد الخراط ـ القصة والحداثةـ مركز الحضارة العربية (ب ـ ت) ـ ص17.

(3) جمعة الفاخري ـ صفر على شمال الحب ـ دار البيان 2003 ـ ص27.

(4) امرأة مترامية الأطراف ـ ص19.

مقالات ذات علاقة

تحت مجهر الفنادي

رامز رمضان النويصري

أخضر يابس السبر الموجع في أعماق الفرح المؤجل

نيفين الهوني

قراءة في كتاب  “سيرة وتجربة”  فتحي عبدالكريم المريمي

عبدالسلام الزغيبي

اترك تعليق