في بعض الأحيان قد تجتذبنا بقوة تلك الاختلاجات التي نستشعر فيها بحنين عنيف إلى بهاء الطين وألفته ..هذا الخاطر استدرجني إليه طفلي آسر ذو الأربع سنوات ، والذي لأمر في نفسه صار تواقا لسيمياء الأرض ، حين خاطبني في توسّل ( بابا اشريلي تراب ) .. وهو هنا لا يستخدم أية مجازات شعرية تتجاوز إدراك طفولته ، بقدر ما يعني ترابا حقيقيا كذاك الذي تحسسه بشغف أنامله البريئة عندما ذهبت به ذات مساء للتنزّه في حديقة الحيّ ( نبّي تراب يا بابا ) ،كم تبدو هذه العبارة جارحة وملحة وغامضة حين تنساب رقراقة وحارة على لسان طفل .. ولا سيما بالنسبة لنا نحن سكان الشقق ،الذين تواطأنا مع الضيق والاختناق والظلمة والضوضاء ، وصرنا مع مرور الزمن ننأى كثيرا عن التراب ، ننسى شكله وعبقه وحرارته وطعمه الآن فقط ، وبعد أن استوقفتني عبارة طفلي آسر ، بدأت أدرك جيدا بأن ثلاثة أرباع ما يعانيه سكان الشقق الضيقة من قلق وتوتّر ينشأ تحديدا عن غياب التراب . فلم تعد حواسنا على تماس مع هبات الطبيعة .. فها هي الجدران تنطوي على رئة أحلامنا محمولة بمشاكلها وهمومها وقضاياها .. جدران مقيتة وعازلة تفصلنا عن نبض الطبيعة وأنفاسها ورائحتها ومذاقها، كل شيء يحيل إلى ضجيجه ، حتى الصمت لم تعد له تلك النكهة التي كنا نستشعرها من لدن الطبيعة الآمنة فكرت جادا في تلبية رغبة الصغير آسر ، واستبدال شقتي بمنزل ارضي متواضع ، يجمع في حنوّ بسيط ، بين هبة الأرض وضوء الله .. بحيث يتكرّم دونما أبّهة لاحتضان حديقة صغيرة تستجيب لخيال بريء تربّى شغوفا على تراب الوطن . ولكن الطامة أن التراب في طرابلس وضواحيها بدا مستعصيا وعنيدا ، وصارت سوقه تولي ظهرها للفقراء من محدودي الدخل ، بحيث لن يكون في وسعي شراء بضعة أمتار تصلح لإيواء وتربية تلك الحواس الصغيرة .ومن ثم يصعب الاستجابة لرغبة طفل صار أكثر إلحاحا في امتلاك مساحة رحيمة من تراب بلاده الطيبة ، لكي يتمرغ على أديمه ويتحسسه مستنشقا رائحة وجدان الأرض التي يحنّ إليها. هل صارت مسألة العودة إلى الطين صعبة إلى هذا الحدّ ، لتمسي مجرد الرغبة في امتلاك حيز صغير منه في عداد المعجزات السبع .. وكأن السعي لتحقيق مثل هذه الأحلام المشروعة بات يندرج في قائمة الترف الإضافي لحظة أن تغدو العين بصيرة واليد قصيرة ، وأننا حتى لو افترضنا بعدم استحالتها ، إلا أن لغة السوق تؤكد كل يوم بأن المسالة متعذرة جدا بالنسبة لمحدودي الدخل الذين لم يعد في وسعهم الحصول ولو على حيز بائس من تراب الوطن الذي يحبونه ويؤمنون بمعتقداته ويقدسون رموزه ويعشقون سيرته . فهل أمسينا فجأة خارج أجندة الوطن ؟ وأن من يملكون المال هم وحدهم من يتمتعون بخيراته ومباهجه . بحيث صار كل التوق ينأى عن حواسنا ، بما في ذلك التراب الذي خلقنا من بهاء حكمته .
المنشور السابق
المنشور التالي
مفتاح العماري
مفتاح أحمد عبد السلام العمّاري .
اسم الشهرة : مفتاح العمّاري .
ولد في بنغازي 16 يوليو 1956 .
يكتب الشعر منذ منتصف عشرية السبعينيات ، وله أيضا انشغال بكتابة السرد والمقالة .
حضر العديد من ملتقيات الشعر ومنتديات الأدب والفن في ليبيا وخارجها .. مثل مهرجانات المدينة / أحمد رفيق المهدوي /المربد / ربيع الفنون : القيروان / شعراء المتوسط : لوديف / ربيع الشعراء : باريس., وغيرها من المناسبات الثقافية والملتقيات الشعرية في تونس / الجزائر / المغرب / سوريا /مصر / الأردن / اليمن ،وغيرها .....
نشر نتاجه الشعري والأدبي منذ منتصف عشرية السبعينيات من القرن الماضي ،في عديد الصحف والمجلات الوطنية والعربية .
قدّم إلى المؤسسات والهيئات الثقافية الوطنية بعض المقترحات الثقافية التي تنصب في خدمة المشهد الثقافي الوطني .. تتلخص في تصورات وأوراق عمل لجوائز وإصدارات أدبية .
شارك في عضوية العديد من لجان تقييم مسابقات الشعر والكتابة الأدبية للمواهب في ليبيا .
تحصلت مسرحيته ( برج العقرب ) على جائزة العرض المتكامل خلال الدورة الثامنة لمهرجان المسرح الوطني . سنة 1999 ف .
صدر له :
1. قيامة الرمل .شعر 1992/ الدار الجماهيرية / طرابلس .
2. كتاب المقامات / شعر 1993 دار الملتقى – ليماسول .
3. رجل بأسره يمشي وحيدا / شعر 1993 دار غربة – بيروت .
4. السور / مسرحية 1996 الدار الجماهيرية طرابلس .
5. فعل القراءة والتأويل/1996 مقالات في النقد الأدبي الدار الجماهيرية طرابلس .
6. منازل الريح والشوارد والأوتاد / شعر1996 / الدار الجماهيرية – طرابلس .
7. ديك الجن الطرابلسي / شعر 2000 . الدار الجماهيرية _ طرابلس .
8. رحلة الشنفرى / شعر 2000 / الدار الجماهيرية . طرابلس .
9. جنازة باذخة / شعر 2001 / مجلة المؤتمر .
10. مشية الآسر / شعر 2004 .مجلس تنمية الإبداع/ بنغازي .
11. عتبة لنثر العالم / مقالات/ مجلة فضاءات 2005 طرابلس .
12. نثر الغائب / سيرة شعرية 2007 / الهيئة العامة للثقافة / طرابلس
13. برج العقرب / مسرحية 2007
14. مفاتيح الكنز / قصص وحكايات 2007
15. السلطانة / شعر . 2007
16. نثر المستيقظ .نصوص .2007
17. فن العزلة . مقالات 2009
18. فسيفسائي . شعر .2009
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك