النقد

مرثية الزوال.. أخر ما تبقى من شيء أصيل في الصحراء

نزوى 5 يناير 1996

رواية التبر للروائي إبراهيم الكوني


لابد من النص للقاريء والناقد، واذا تمت إحالات من النص الى مرجعيته فإن هذه الإحالات إغناء لمخيلة المتلقي ولمنهجية الناقد، غير أن هذه المرجعية للست النص إطلاقا.
 إن نصوص “إبراهيم الكوني” تتحول بقدرة قادر (هو الناقد) – فيما أطلعت عليه من كتابات حول هذه النصوص – الى مصدر معرفي فيما يخص الصحراء والطوارق ؛ فالكثير من هذه القراء ات تنصب عما يكشف عنه النص من فلكلور الصحراء واننربولوجيا الطوارق. وهكذا، هي بحث في المرجعية، قراءة تتخلى عن النص بأن تفككه وتحيله الى مرجع.. فهي قراءة لا تضيف ولكنها تنفي النص، وبالتالي تنفي مصداقيتها كنقد. لكنها تنطق مسكوتا عنه حول العلاقة بين هذه القراءة وذلك النص.
ثمة كتابة تحدد زاوية القراءة أو أنها مكتوبة انطلاقا من هذه الزاوية. إن الكتابة التي تحاكي مثلا “ألف ليلة وليلة” في الأدب العربي، هي في الكثير من الأحيان كتابة لقاريء معين، أو انها كتابة لصيغة سردية تدهشى هذا القاريء ؛ إنها “أرابيسك ” اللوحة التي تشبع عين السائح. فالسرد “الشهر زادي  الذي يهتك الأسرار بإيلاج الحكاية في الحكاية، وإخراج الحكاية من الحكاية، هذا السرد هو نتاج مخيلة قاريء غربي لألف ليلة وليلة، والانصياع لقراءة مثل هذه هو في المحصلة ابتعاد عن الاستفادة من تقنية الحكي في “ألف ليلة وليلة ” واقتراب أو دخول تحت مظلة القاريء المنتج لهذه القراءة، وبالتالي اغتراب عن النص بالانضواء تحت نص آخرا يمكنني أن اسميه حكاية شهرزاد؟ لأن شهرزاد في “ألف ليلة وليلةأ غير شهرزاد المعاد إنتاجها عند القاريء الغربي. وهكذا فإن مثل هذه الكتابة تعيد إنتاج قراءة أكثر منها كتابة وإبداعا. ولهذا فمثل هذا النص.
ليس نص الكاتب المبدع بقدر ما هو نص القاريء إنه لا يختلف بصورة مفارقة – عن نصوص الروايات الشعبية التي يكتب الجزء الثاني والثالث من الرائج منها. أي أنها رواية السوق رواية الآخر.
ويقول عبدالرحمن منيف “لقد ظهرت في السنين الأخيرة مجموعة من الروايات الفلكلورية والتي كتبت خصيصا لقطاع معين في الغرب، القطاع المسيطر على النشر والترجمة والصحافة ومنابر الاعلام، من أجل انتزاع ثقته وبالتالي اعترافه، وإذا كانت القاعدة أن نتوجه الى شعبنا بالدرجة الأولى دون أن نخجل من تخلفنا، وأن نخوض في جميع المشاكل المرتبطة بهذا التخلف، فيجب ألا نظهر اعتزازنا بالتخلف أو أن نجعله وسيلة لتسلية الآخر، لسنا غربيين أو عجائبيين ولسنا امتدادا ميكانيكيا لألف ليلة وليلة.
إن عملية الختان.. قد ترد في سياق رواية – كما أن الاشارة الى اللواط أو السحاق إذا ورد في رواية فلضرورات أساسية. لكن يجب ألا تحجب عنا المشاكل الأكثر أهمية والأجدر بالمعالجة، فقط من أجل إدهاش  الآخر أو استعراض جرأتنا أمامه “إنها مجرد إشارة استدعتها القراءة الى كتابة تستهدف متلقيا يكون فيها الكاتب أداة انعكاس، مرآة مصقولة تعكس وجه الكاتب كما يتصوره هذا المتلقي، وبهذا يشيء الكاتب ذاته، ينفي ذاته.
إنه الكاتب المحروم من ذاته الذي يروج تصورات الآخرين وأفكارهم عن هذه الذات.
يكتب “ابراهيم الكوني ” مرثية الزوال، إنه يعيد كتابة تلك الأساطير المضادة للعار، وبتلك التمائم بالكتابة يواجه الزوال “إن هذه الروايات يرويها آخر الرواة عن الذين ذهبوا في حربهم ضد (رياح القبلى) ولم يعودوا.
إنه يكتب عن آخر ما تبقى من شيء أصيل في الصحراء التي لم تبق من هذا الأصيل إلا أساطير موشومة في الذاكرة أو في كهوف جبال
تاسيلى.
إن مثل هذه الكتابة تاريخ للزوال، تأريخ للامحاء ومواجهة لهما، إنها كتابة على الرمل وبالرمل. كتابة العطب الداخل! تكشف عن أس ار بقيت في السر سكنت الصحراء وأصيبت بجنون هذه الصحراء. فذهبت في هذا الجنون، ضائعة بين الكثبان والسراب والقبلى يمحو آثارها.
إن محاولة اخفاء هذه الأسرار أصابها الوهن وضربها الزوال لهذا أتى الكوني ابنها ابن سلطانها، لنكثر هذه الأسرار في الريح وليكون آخر مقاتل لقبيلة رياح القبلى، يقاتل الموت بالسرد الموصول وبالكتابة لرواية واحدة متعددة الاقنعة:
الخسوف الخماسية، المجوس، الجزاءن، التبر، نزيف الحجر، وكل رواية منها هي كتابة أخرى لنفس الأساطير، الأساطير المضادة للعار بل مراثي الزوال.
ان الزوال في رواية الكوني هو الغريب أيا كان هذا الغريب ومن أين ما أتى، من صحراير في الجنوب أو من بلدة غريان في الشمال، والزوال هو القبول بهذا الغريب أو تداعي الجسد في مواجهته.
ولهذا يبدأ هذا الزوال متى ما انكشفت الأسرار، ان اكتشاف لوحات تاسيلي هو زوال لتسيلي لأن هذه اللوحات صارت ملك الحضارة المكتشفة، لقد فكت رموزها وانكشفت أسرارها ومن لا أسرار له لا قوة لديه، فكل ما لا يخفى عن أعين الغرباء مات.
ولهذا يخفى الكوني أهدافه عن الآخرين لكي يصلها.
بدأ الكوني بالصلاة (الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة) ليواجه الموت بجلال الحزن لا بالنديب والعويل وشق الخدود انها صلاة الغائب، وفي قصة “الى أين يا أيها البدوي ؟الى أين ” صرخة في شكل تقرير يكشف الزوال الكامن في حالة البدوي الذي باع الجمل وترك الصحراء.
ثم نمت شخصيات القصص القصيرة تلك لتشكل لحمة الروايات ولتبدو شخصيات هذه الروايات كشخصيات سرابية وأصوات زائفة فهي أقنعة لشبح، مطاردة يتعقبها الموت أو سكن الموت ردفها وان كانت تقاتل بعناد وفروسية صحراء شرسة إلا أن سلاحها شاهد قبرها.
إن نمو الشخصية هو فناؤها فهي تقاتل لكي تندس في صندوقها.. نفسها، شخصيات تعطي العالم ظهرها ليظهر العطب الداخلي، لأن المواجهة عند شخصيات الكون تعني الانسحاب وتحدث بمجرد أن تخرج من صندوق الرمل الصحراء، وهكذا ا لمفارقة (الكونية) ان الجمود هو وسيلة البقاء وان الانسحاب هو وسيلة الدفاع وان الصحراء هي المتراس الأول والأخير هي المهد/ القبر، وان كل دخيل على هذه الصحراء هو الوباء هو الاضمحلال والزوال. انه غريب وكل غريب / عدو.
وعندما تشهر الصحراء الصديق العدو سلاحها الفتاك، الجفاف ويواجه بطل الكوني الموت فانه لا يستسلم للصحراء لتطعنه بهذا السلاح الخارق، انه حين يصل البئر عاريا ولا يملك أي وسيلة للدفاع، للوصول الى الماء لمبارزة الصحراء، فانه يرفع سلاحه الخاص والأخير/  الموت، فيرمي بجسده في البئر. انه في مطاردته المستميتة للغزال يمسك بالزغب.
ثمة احساس عميق باللاجدوى وتاريخي بالعقم.
ويبدو الكوفي ممسوسا بالحكي وبأنه راوي القبيلة، ولهذا لا يعير الزمن أي اهتمام فهو يروي أساطير وخوارق وطبيعة جن، فيها المكان هو الزمن الداخلي للشخصيات ولهذا فللرواية بداية وعقدة وخاتمة لكن ليس للبداية مكان. وقد تكون الخاتمة في الوسط وقد تولد الاشارة حدثا من حدث فتولد حكاية وقد يستغرق الحدث لحظة أو عقدا من الزمن. ان الموت لا زمن له ولكن له شكل / مكان هو الصحراء. إن الكوني يقسم روايته الى أقاصيص لها مفتاح هو الخلاصة، هو الحكمة الكامنة في الفصل أو القسم، هو بيت القصيد، وفي هذا عودة الى الرواة الشعبيين الذين يستخلصون العبرة في الجزء المحكي – كل ليلة – من حكاياهم.
ا – رواية: التبر (التبر: بالكسر: الذهب والفضة، أو فتاتهما قبل أن يصاغا. فإذا صيغا: فهما ذهب وفضة، والتبر -بالفتح -: الكسر والاهلاك. كالتبتير فيهما. والفعل كضرب.
والتبار: الهلاك. والمتبور: الهالك وتبر – كفرح – هلك )
“الحرف الثالث: حرف القاء، مختار القاموس الطاهر أحمد الزاوي – الدار العربية للكتاب 1978 “.
… قطع الوصل بحرف ضامر…
* “- هل سبق لأحدكم أن شاهد مهريا أبلق ؟ “
“لا، لا، لا. اعترفوا انكم لم تروه ولن تروه “.
بهذا المنولوج نلج (التبر) وبهذه الاجابة القطعية تروى الرواية، اننا لم نشاهد هذا المهري الابلق ولن نراه.
فاذا كانت هذه أول رواية -على حد علمي – حول العلاقة بين الحيوان الناطق (الانسان ) والحيوان الابكم (الجمل )، فهل حقا لم نر هذه العلاقة البتة؟
إن الجمل هو الحيوان العربي أو هكذا وسم في تصورات الآخرين.
واذا لم يكن كذلك فان الجمل هو حيوان ديوان العرب أي أننا سبق – كما في حياتنا – ورأينا الجمل يشكل ويشاكل مخيلتنا.
لم نره في صيغة سردية من قبل وبالتالي لا مثيل لهذا المهري الابلق، ولكن العرب صاغوا حيوانهم بأشعارهم، منذ أن وجد العربي في الناقة ملاذ قوة غريبة.
يقول ثعلبة بن صعير المازني:
 
واذا خليلك لم يدم لك وصله
 
فاقطع لبانته بحرف ضامر
 
ان العلاقة بين الشاعر العربي وناقته، علاقة القوة في مواجهة الوحدة، والناقة كما يشير ثعلبة البديل القائم لبقية العلاقات. ان الناقة ليست وسيلة اتصال بل هي عند الشاعر الوصل ذاته، فالناقة هي حيوان الصحراء وفيلسوفها، هي رمز القدرة والبقاء، فهي الحركة والثبات وهي الصبر والغدر.
بل إن ناقة الشعر العربي هي سراب الصحراء، معادل الشر، الشعر الذي هو الوجود من حيث هو قوة فاعلة والشعر الذي هو نتاج الجن فهو قوة من خارج الشاعر في نفس الوقت.
هكذا يبدو أن:
 
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
 
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
 
هي حديث طرفة بن العبد عن المرأة الذي لا يحقق فكرة الصلة والاندماج قدر ما يحققه حديث الناقة، لأن الناقة أرفع عند طرفة من الجنس وأكثر سموا من الانسان، فناقة طرفة هي المناعة عن الآخرين.
 
لكن اذا كان طرفة قد جعل من ناقته قرينة والقرين كما تقول القواميس هو زوال الوحشة ووضوح القصد والدخول في قلب الآخر وهو ا لمصاحب والشيطان المقرون بالانسان لا يفارقه، فالسؤال: لماذا وجد طرفة شبهه في الناقة؟
يقول طرفة في معلقته:
 
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
 
وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدي
 
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
 
وأفردت أفراد البعير المعبد
 
إن طرفة أفرد عن القوم الذين انفرد عنهم وهو الذي كان يعيش معهم في ظاهر الأمر غير انه ليس منهم، ولهذا فتمرد طرفة عن العشيرة ليس هو المقدمة لافراده كبعير أجرب، بل هو النتيجة. لأن لطرفة الشاعر ذاتا تجنح للانفصال فلا تقبل إلا ما تريده، وما تريد المستحيل. طرفة يعاني مشكل الموت الذي يغفل عنه الآخرون:
 
فان كنت لا تستطيع دفع منيتي
 
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
 
إن تفرد طرفة جنوح لمواجهة مستحيلة، فهو يرى الموت ساكنا في السكون في الارتكان والارتهان للثوابت، والعشيرة ثوابت ساكنة، بنيت بأوتاد تضرب في الأرض.
لهذا يمضي طرفة الى الطرف الآخر الى الناقة.
 
وإني لامضي الهم عند احتضاره
 
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
 
إن ناقة طرفة هي القرين الذي يركن اليه دون أن يسكن اليه، انه في عدو معه في مواجهة عدو يكمن في المكان، وهي تستوعب البناء والتشييد مثل قنطرة الرومي دون أن تكونه. إنها الملجأ الأمين الذي لا يأمن من الموت لأنه الموت ذاته ؟
 
أمون كألواح الاران نصائها
 
على لا حب كأنه ظهر برجد
 
إن الناقة هي الوقاء والاحتماء مثل الباب المنيف الممرد، وبيوت الوحش في أصول الشجر:
 
كقنطرة الرومي أقسم ربها
 
لتكسفن حتى تشاد بقرمد
 
إنها قنطرة وجناح النسر، السقف المسند والظهر العالي وهي الكهف الذي ذكر في معرض عظام العينين. ان طرفة يواجه قدرا متمثلا في ثبوت الآخرين وسكونهم ويواجه هذا القدر بالناقة بيت الوحش، الكهف:
 
على مثلها أمضى اذا قال صاحبي
 
ألا ليتني افديك منها وأفتدى
 
ويخال طرفة نفسه يمسك بزمام الموت وهو يمسك بلجام الناقة ويخال انه في تابوت حصين وهو على ظهرها لأنها عنده ملاك الموت الذي يسير به حثيثا إليه. ولهذا فناقة شعر طرفة ليست من ناقة الناس كافة إنها كناقة صالح التي في عقرها الريح الصرصر غير أن ناقة معلقة طرفة حمالة الموت:
 
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
 
لك الطول المرخى وثنياه باليد
 

الروائي إبراهيم الكوني وروايته التبر.


الاشارات لغة الرواية
* التبر تقول في القراءة الأولى انها رواية الابلق وان الانسان بهيمة يقودها القدر الذي يمسك بسوطه التبر.
سندخل في حوار معها حول هذا القول وحول الكيفية التي تم فيها القول:
زعيم قبائل آهجار القبائل العريقة التي تستوطن جنوب شرق الجزائر يقدم مهرا صغيرا هو الابلق هدية لاوخيد ابن شيخ امنغساتن سليل اخنوخن العظيم زعيم آزجر شيخ قبيلة امنغساتن في القرن التاسع عشر الذي لعب دورا رئيسيا في صد الغزوات الفرنسية التي كانت تستهدف التوغل في الصحراء الكبرى.
الهدية مهر ابلق،رشيق،ممشوق القوام، نبيل، شجاع،وفي جمال متعال، فناؤه كامن فيه لانه متفرد، يسمى في صيغة المفردة المكتفية بذاتها في صيغة الوصف لا صيغة الاخبار.
الهدية / الابلق رسول – مثل الودان في رواية نزيف الحجر – وهو النصف الالهي الذي انقرضت فصيلته منذ مئة عام. الابلق المنقذ والروح التي بعثها الله، رسول النجاة، سفينة الحرية.
هذا ابلق التبر الخلاص المستحيل الذي يزول بالتبر.
هذا الابلق هو المعشوق الأول… ثم الأخير لاوخيد، انه السر الذي يجب اخفاؤه عن أعين الغرباء “رأى صداقتهما في الزمن الأول، قبل أن يولدا، قبل أن يكونا نطفتين في رحم الأمهات، قبل أن يكونا خاطرا، عاطفة في قلوب الآباء”.
انه السر في الرواية حيث الراوي هو الابلق وضمير الغائب هو أوخيد، والسرد يبدأ بجملة اخبارية مقتضبة حول هدية زعيم آهجار ليدخل في منولوج لاوخيد حول الابلق (في صورة السائل والمجيب )،لينتهي بالرواية لوصف دموي عنيف لمقتل أوخيد في لغة تستعمل المفردات الصوفية لتضيف غموضا شفافا حول علاقة “حياة العاشقين فيها الموت “. واذا تابعنا الرواية كبناء فنلاحظ انها دائرة مغلقة فيها، النهاية تكمن بالبداية وان كان السرد يأخذ مسارا تصاعديا للحدث رغم الانكسارات المقصودة في وتيرة هذا التصعيد، ورسم الدائرة كالتالي:
البداية:.. هدية – عشق – انفصال
الابلق…  عشق – مرض – اخصاء
نذر – شفاء – رهن
أوخيد… عشق – تمرد – جوع
رهن – انفصال –  هدية
الخاتمة… هدية – موت
* ان الابلق يكشف لاوخيد عن ذاته فيحدث هذا العشق الذي يصير انفصالا:
“ماذا سأفعل في النجع الموحش مع هؤلاء الوحوش بدون الابلق.”.ولقداكتفى اوخيد بنفسه، اكتفى بالابلق. وسنلاحظ أن الاطراف الأخرى أشباح الرواية وانها لا وجود لها حيث صار الابلق هو الوجود،انه هوية اوخيد. انه الجمال الذي لا يعادله أي جمال حتى ولو كان جمال آلهة تانيت.
واذا كان عشق أوخيد لهذا الجمال يؤدي الى الانفصال فان عشق الابلق يؤدي الى المرض الذي ينتهي بالاخصاء. انه سلالة قدرها الانقراض.
غير أن شفاءه من هذا المرض يتم بزهرة الجن، نبات (أسيار) أو السلفيوم كما يشير الكاتب في الهامشى والسلفيوم نبات يشفي من كل الأمراض كما تشير كتب التاريخ وانقرض في ليبيا منذ العصر الاغريقي وكان المحصول الذي عرفت به البلاد آنذاك أي أنه نفط ذلك العصر.
وقد أشار الى علاج الابلق من الجرب بنبات آسيار الفقيه المتصوف موسى الذي قدم من المغرب الأقصى وأحد أتباع الطريقة القادرية، ويتم التخلص من آثار هذا النبات (زهرة الجن ) أي الجنون عن طريق النذر للاله الصحراوي القديم الذي فك شفرته في ابجدية التيفناغ أحدالسحرة الأفارقة.
هكذا فان العلاقة بين اله التيفناغ والساحر الافريقي وآسيار (السلفيوم ) المتصوف موسى والنذر هي التي كانت وراء الشفاء.
 ولكن الثمن الأول لهذا الشفاء تيه أوخيد في الصحراء حتى يصل حافة البئر وحافة الموت ليتم انقاذه.
لكن الابلق الذي تم شفاؤه يقدم كرهن لفك أسر امرأة وابن أوخيد من جوع الصحراء،واذا كان عشق الابلق للناقة نتاجه الجرب فان عشق أوخيد لحسناء أيربلاد السحر والسحرة – “الصحراء الواقعة بين مالي والنيجر ونيجيريا” – يؤدي الى تمرده على أبيه الى لعنة الأب وفي “اللعنة أيضا يوجد سرأ أنها”تدفع الى المنفى والنجاة في المنفى.وهذه اللعنة هي التي تستخدم سكين الصحراء الجوع.
إن أوخيد يعطي بظهره لعالمه،ففي الوقت البن ي يقتل فيه أبوه على أيدي الغزاة الايطاليين يدخل الواحة التي جميع سكانها عبيد لأنهم الفلاحون الذبيى “الله وحده يعلم ماذا يجول في رؤوسهم “.
إن الصحراء تطبق حصارها بجيوش الجوع على الواحة مستخدمة أدوات فعالة:
” الوهق: الزوجة المقدسة… الملاذ ” الدمية: الدرية، الخلف “الأبناء حجاب الآباء الأبناء فناء  ألآباء ” المهدي المنتظر
* الوهم الكاذب: العار، أساطير الأولين.
وليس من فكاك من هذا الحصار الا بالرهن، الابلق رهينة ابن أير (دودو) التاجر صاحب التبر وابن عم الوهقة الزوجة المقدسة. ابن أير يريد استرداد ابنة عمه، محبوبته بالحيلة ومن أين للبدوي اوخيد ان يعرف الحيلة: الابلق أو الوهن والدمية وأساطير الأولين: “هذا عار لم تسمع بمثله الصحراء من قبل حتى أكثر العبيد عبودية لم يبع زوجته مقابل حفنة من التبر”.
ان التاجر دودو ينهي اسطورة البدوي اوخيد بهدية، حفنة تبر.
فالتاجر الايري يدفع ثمن افتكاك ابنة عمه،لا شيء بدون مقابل، فالتاجر يتاجر بجوع ابنة عمه وابنها التي “جاءت من آير مع أقاربها هربا من الجدب الذي حاق بتلك الصحراء في السنوات الخمس الأخيرة”.
(الذهب هدف كل انسان منذ أن يولد الى أن يموت باستثناء الفاشلين والدراويش ).
– ولكن يقال انه ملعون ويجلب الشؤم.
-ماكان ينبغي أن ترهن مثل هذا المهري لدى غريب، فمثله يخفى عن عين الغرباء.ولكن ما فات مات.)
* الموت كامن في الهدية. الابلق تلقاه هدية،التبر تلقاه هدية بعد أن فك رهن الابلق، التبر عار، الهدية عار، العار الوهم الكاذب أساطير الأولين:
قيم الصحراء النبل والفروسية والصبر. العار ألم القلب “ليس في الدنيا مخلوق أضعف من الجمل في تحمل ألم القلب “.
لم يستخدم الكاتب تكنيك الحلم الا حينما واجه اوخيد الموت حيث أتاح هذا التكنيك للكاتب ان يكشف العلاقة بين اوخيد والفضاء الذي يتصل بالابدية، بالآخرة.
ان ثالوث الحلم / الموت: الظلمة، السقف المهدد بالانهيار، الكائن الخفي يكشف ويكشف عن ثالوث اوخيد: العراء، الافق،الفضاء وثالوث عقل اوخيدة:
الاسلام الصوفي (القادرية)، الوثنية (تانيت ) قيم وتراث الصحراء “في النهار رأي رسوم الأولين،كان الجدار العمودي للشقين مزينا بالصور الملونة”.
إن أوخيد يهرب للحلم أو الحلم يأخذه اليه حين مواجهة الموت، حين كاد اوخيد أن يغرق وهو صبي “رأى في الحلم جمرات الموقد تسبح فوق ماء وفير دون أن تنطفيء،ثم وجد نفسه يسبح بجوار الجمرات المنطفئة، فاختلط الحلم بالحقيقة لما صحا من نومه “، وكذلك حين ذهب أوخيد الى نصب المجوس من أجل انقاذ الابلق من الجرب، في الليل، توسد الحجر ونعس، رأى الابلق يغرق في الوادي، كما يتوسد الليبيون القدماء – وحتى الآن – قبور آبائهم لأجل الرؤيا والشفاء من المرض.
* اذا كان التبر يجلب الشؤم فانه يجلب العار أيضا وهنا يكون لابد من القتل، ان اوخيد يقتل دودو لكي يقتل اوخيد، وموت أوخيد ليس مثله شيء،لأنه موت الكشف أي الخاتمة التي هي رسم البداية، هدية زعيم اهجار، الابلق الذي انقرضت فصيلته منذ مائة عام والذي تم اخصاؤه.
ان الموت يحاصر اوخيد في شكل رجال يبكون من أجل الحصول على الغنيمة واذا بكى رجل في الصحراء طلبا لشيء فلابد أن يناله يوما، وفي الجبل آخر ملاذ للخلاص، وفي كهف يرى رسوم الأولين رسوم تسيلي حيث يطارد الصيادون الودان، وفي هذا الكهف “نام جالسا ثانيا ركبتيه الى صدره ” نام نومة الجنين في رحم أمه.
هكذا كشف له الموت انه عاش محاصرا، سجينا مخنوقا لأنه مقطوع والويل للمقطوع ان “الحمادة الآن مطوقة بالغزاة الطليان ينتهكونها من الشمال وقبائل آير تنتهكها من الجنوب “. وكشف له الموت انه لم يحي لأن “الانسان قادر ان يحول حتى صحراء الته الواسعة الى سجن ابشع من سجن القائمقام التركي الذي رأى اطلاله في (أورار)،وكشف له الموت أن الابلق هو الخلاص المستحيل، فآثار الابلق هي التي تهدي الاعداء الى مقر اوخيد. وكشف له الموت انه أخطأ حين “أودع قلبه لدى صديق، لدى الابلق، فلحقته اليد الآثمة، يد الانسان “.
إن الخاتمة هي الحلم الذي عذب اوخيد منذ طفولته وصباه، و”عرفه قبل أن يرى بيتا مبنيا، قبل أن يزور الواحة، وثالوث الحلم هو الظلمة، السقف المهدد بالانهيار  لكائن المجهول.
ان الموت يكشف لأوخيد أن الظمة هي حياته وان السقف المهدد بالانهيار هو الابلق، أما الكائن الخفي فانه ينكشف ولكن بعد فوات الأوان لأن اوخيدمات.
مات اوخيد مقسوما بين جملين قويين فيما أخذ ورثة دودو رأسه الذي “لن يستطيع الان أبدا أن يحدث أحد بما رأى”، لكنه الرأس الكافي لأجل أن يحصل ورثة دودو على التبر.
ان اوخيد آخر الاساطير لأن اوخيد اتخذ من الابلق ملاذه والابلق سلالة انقرضت. لقد خيل لأوخيد ان الجمال والحرية في الابلق ولم ينتبه الى ان الابلق قبل أن يخصى هوآخر سلالة المهارى التي من يملكها ا”لن يشكو من نقص القيم النبيلة” ولكن من يملكها ميت لا محالة ومنقرض مثلها.
إن أوخيد لم يعط ظهره للعالم ولم يهرب من مواجهة الغزاة ولم ينفك عن مهام القبيلة حين جعل الابلق الأجمل والأنبل بل فعل العكس لأنه بهذا الانضواء كتب ملحمة الزوال. لأن الصحراء لم تعد هي الصحراء ولا القبيلة هي القبيلة، لقد مادت الارض تحت اقدام اوخيد ولم يكن يمكن لاقدام الابلق ان توقف هذا الزلزال.
* اننا أمام عمل روائي يتميز ببنية الحكى التي تهتم بتفاصيل الحدث والتي – تستبعد وصف جمالية المكان لصالح جمالية النفس، والحكاية كبنية تتناسل كما عرفناها في الف ليلة وليلة، ومن هذا التناسل يتم نسج حوار داخلي مستمر يكشف من خلاله الراوي شخصية اوخيد فيما بطل الرواية هو الابلق، هو حوار اوخيد، لأن الابلق هو الراوي المسكوت عنه، فالكتابة في رواية (التبر) تدور حول حيوان وهي تنطق هذا الحيوان، الجمل الحيوان الكتوم، فالابلق في الرواية ليس فقط بطل الرواية الفعلي ولا هو الراوي وحسب بل ان الكاتب ابراهيم الكوني يجعل منه أسلوب نسج خاصا للرواية حيث نلاحظ أن الرواية تخفى اسرارها عنا ولا تنكشف هذه الاسرار الا في حالة تدفق فجائي يأتي به السرد كالسيل العرم و غضب الجمل الذي يفصح عن مكنوناته.
انه عمل يتميز بالكشف عن العلاقة بين الصحراء الكائن المسكوت عنه في الحدث،وبين الجمل،ككائن يسيطر على جسم العمل الروائي، وبين اوخيد المفعول با لكائنين.
هكذا يبدو أن الثالوث هو سمة لعمل الكوني المأخوذ بمثلث تأنيت والمأخوذ باعادة كتابة الاساطير التي تحكيها مخيلة جموحة ولكنها معقلنة بزمانها، زمن الاسطورة. ان هذا العمل يحدد العلاقة بين الانسان والطبيعة، الطبيعة التي أعطيناها ظهرنا مقابل حفنة التبر.
تبقى ملاحظة أن اوخيد عاشق الابلق يعيد اسطورة امريء القيس عاشق الخمر الذي قتل أبوه وهو يعاقرها فيما جاء الغزو الايطالي للصحراء ومقتل ابي اوخيد على ايديهم ليكشف ان اوخيد اللامنتمى الصحراء هو طرفة العصر.

مقالات ذات علاقة

قراءتي في رواية توقف نمو

المشرف العام

صاحب البوق الألماني يعزف المزمار الليبي

المشرف العام

رواية حبروش لعبدالرحمن شلقم تروي غرائب الذاكرة الليبية**

سالم أبوظهير

اترك تعليق