من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

مدينة مضطربة

محمد إبرهيم الهاشمي

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

توجه نحو المكتب، اليوم سيتسلم الإدارة ويكون المدير الجديد، يقال أنه حقوقي ويمقت التعذيب ويريد تغيير ما هو سائد، هذا ما يدور منذ أيام في الإدارة. وصل المكتب وطرق الباب، جاءه الصوت من الداخل تفضل، فتح الباب ودخل. وجد المدير الذي سيستلم المهام منه وملفات العمل جالسا وراء المكتب وعلى وجهه ابتسامة لا تُخفي ما به من دناءة. نهض من مكانه وتوجه نحوه. صافحه المدير القديم و جلس مقابله على أحد الكرسيين اللذان يكونان عادة أمام كل مكتب. بعد وقت ليس بالطويل تبادل الاثنان خلاله بعض العبارات العامة دخل كلامهما في صلب الموضوع الذي ينبغي أن يتحدثا عنه. سَأل المدير القديم مباشرة…

– ما الذي تنوي القيام به تحديدا؟
– أريد إجراء بعض التغييرات على طريقة العمل.

نظر إليه المدير القديم لبرهة من الزمن وهو مدرك لما يقصده المدير الجديد بقوله هذا، ولكنه مدفوعا برغبة في خوض هذا الحديث سَأل:

– وما نوع الأشياء التي تريد تغييرها؟
– التعذيب المرضي، الإهانات المذلة، التحرش.. وهذه الأمور.

أصبح وجه المدير القديم مقطبا و بانت على عينيه و نظراته أمارات الضيق والانفعال. وبعد وقت ليس بالقصير ولا الطويل تكلم مجددا:

– يمكنك قول ما تشاء عن أسلوب العمل وعن النزعة الإنسانية و كل هذه الترهات، ولكن لولا أسلوب عملنا هذا وما نقوم به لما كان الأمن ولا النظام بهذه الوتيرة المستقرة.. قد نكون حسب رأي الكثيرين مجموعة من الأوغاد المحبين لتعذيب من يقع تحت أيدينا، ولكن نحن الاستقرار و الأمن في أي دولة…

ابتسم المدير الجديد ابتسامة أراد من خلالها تلطيف الأجواء وأردف يقول:

– الخدمات التي يقوم بها الجهاز معلومة للجميع ولا أحد يستطيع إنكار دوره الوطني، ولكن بالتأكيد تتفق معي على وجود بعض التجاوزات التي يجب أن تعالج.

– وهل هنالك شيء محدد تريد أن تبدأ منه؟

– لم أدرس جميع الملفات بعد، ولكن أفكر في إلغاء قسم مُدّعي الجنون.

ابتسم المدير القديم ابتسامةً جعلته ينسى ويتجاوز الضيق الذي كان يشعر به، ولكنها رغم كل شيء نفس الابتسامة التي تشي بالدناءة…

– و لماذا تريد إلغاء هذا القسم؟
– أريدهم أن يبدؤا حياة جديدة، أن ينشؤوا عائلات و يستقروا.

انطلقت ضحكة مجلجلة من فم المدير القديم، ضحكة لم يسمعها منه كل من في المكتب طوال المدة التي قضاها مديرا لهذا الفرع من المخابرات العامة. ولكن سرعان ما انطفأت هذه الضحكة بنفس السرعة التي انطلقت بها، ولكي يكون المعنى أدق والصورة أوضح توقفت فجأة كأن شيئا قطعها، والحق أنَّ شيئا لمع في دماغ المدير القديم هو الذي أوقفها.. ولكن الابتسامة ظلت على وجهه
تكلم المدير القديم – معظم مدعي الجنون لا يستطيعون الزواج والإنجاب، معظمهم يعاني من مشاكل صحية تمنعه من ذلك، صحيح أنهم متفانون في جمع المعلومات ويحبون عملهم، ولكنهم ينغمسون في العمل لأنهم ببساطة لا يملكون شيئا آخر يقومون به. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى الناس تخشى الحديث أمام الجدران ولكنها لا تخشى الحديث أمام المجانين، فأي سوء أو وشاية ستأتي من فاقدي العقل.. لذلك سيظل هؤلاء الأشخاص موجودون مادام الجهاز موجودا…

وقد يتساءل البعض عن السبب الذي جعل ضحكة المدير القديم تتوقف فجأة، ما هو الشيء الذي لمع في دماغه وعكر عليه هذه الضحكة.. والشيء هو ذكرى ما حدث قبل أسبوعين… فقبل أسبوعين تم القبض على طالبة بالسنة الثالثة بالجامعة بتهمة انضمامها لمعسكر الأعداء وتقديمها معلومات سببت الكثير من المتاعب. ومعسكر الأعداء هنا ليس عدوا خارجيا ذات مطامع استعمارية، وإنما هي مجموعة محلية أخرى ترى المجموعة التي قَبضت على الفتاة أنها جماعة من الأعداء التي يجب إقصاءها وسحقها.

نعود الآن للفتاة وما حدث لها…

في غرفة الاستجواب، أنكرت الفتاة أي ارتباط أو علاقة بالمجموعة المسماة مجموعة الأعداء، ولأن المدير القديم لم يقتنع بأقوالها وكان بحاجة إلى ما يثبت حدسه، بأن هذه الفتاة تنتمي إلى الأعداء.. بعد تفكير لم يدم طويلا أعطى أوامره أن يمسك اثنان بالفتاة ويقوما بنزع ملابسها وأن يتقدم باتجاهها شخص ثالث ليوهم الفتاة بأنه جاء لاغتصابها، ولكي يزيد من ألق فكرته اختار أن يكون الشخص الثالث من يتقدم باتجاه الفتاة، أحد هؤلاء مدعي الجنون من يعانون مشاكل صحية، شخص يعاني من عجز في الانتصاب. حتى لو طُلب منه أن ينتهك الفتاة بعضوه لن يستطيع، ولكن الفتاة لا تعلم ذلك، وهنا تكمن متعة الأمر.. .

عندما بدأ تنفيذ الأمر وبدأ أفراد الجهاز تنفيذ ما تعودوا على فعله، سقطت الفتاة مغشيا عليها وماتت. توقف قلبها ما إن أمسك بها الرجل الثالث… وهذا هو السبب الذي جعل المدير يتضايق، هذه الذكرى وهذا الحادث الذي لم يكن من المفترض أن يصل إلى ما وصل إليه.. حيث كان السبب الرئيسي لاستياء الإدارة العليا في الجهاز، والدافع الأساسي للرغبة في تغيير بعض طرق العمل وتحسين أوضاع الجهاز…

أكمل كل من المديران القديم والجديد تبادل الحديث عن ملفات العمل وما يجب القيام به، وهما يحتسيان الكوب تلو الآخر من الشاي.

***

جالسان أنا وهو هنا في أحد المقاهي بوسط المدينة، رجل تعرفت عليه هنا في المقهى قبل ثلاث، كان يعمل بالجهاز وترك عمله، وكان يحدثني عما حدث، عن السبب الذي جعله يترك العمل داخل جهاز المخابرات.

الطقس كان ممطرا هنا أمام المقهى.. في البداية كان المطر خفيفا مما جعل الناس تصطف في طوابير طويلة أمام المصارف دون أن تكثرت لهذا المطر، وشيئا فشيئا اشتد هطول المطر للحد الذي لم تشهد المدينة مثله من قبل، وبالأخص في هذا الوقت من السنة حيث يكون الطقس عادة دافئا ودون أمطار، كان المطر من القوة وشدة الانهمار بحيث لو كان شخص يسير وفي يده كوب لأمتلئ الكوب بعد أربع خطوات فقط.. لم يستطع كل المصطفين في الطوابير أمام المصارف أن يجدوا ملاذا يقيهم المطر، ولأنهم لا يستطيعون العودة إلى منازلهم بدون الحصول على نقود ولا يُعلم متى تتوفر السيولة مرة أخرى، اختاروا مرغمين ومكرهين البقاء في أماكنهم بانتظار أن تفتح المصارف أبوابها…

يتكلم الرجل الذي كان سابقا يعمل بالجهاز – حصل الأمر قبل أسبوعين عندما جاؤوا بفتاة متهمة بأنها تعمل لصالح مجموعة من الأعداء ليتم استجوابها، وتختلف طريقة الاستجواب حسب مزاج المُستجوِب، و لكن معظم الأشياء مسموح بها من أجل الحصول على المعلومات. وقد اختار المدير أن يرهبها بالاغتصاب ذلك اليوم.. ولكن الأمور سارت على غير ما هو متوقع و توفيت الفتاة أثناء ذلك، لم يتحمل قلبها هذا الأمر، توفيت بمجرد أن أمسكها من هو مطلوب منه إرهابها… عندما رأيت الفتاة سقطتُ في مكاني، كانت تشبه أمي إلى حد كبير…

– ولكن ألم تقل لي بأنك ترعرعت وكبرت في دار الأيتام ولا تعرف من هم أهلك.

– أجل ولكن من أطلق عليها أمي، امرأة تعمل بالدار وهي المسئولة عن تنشئتي، لم تكن تقوم بوظيفة، كانت بالنسبة لي أمي عندما صحوت تقدمت بطلب بإجازة مفتوحة، ولكن بالنسبة لي تركت العمل.. أخشى أن تكون الفتاة ابنة أمي.

وبدأ في البكاء… لم يدم بكاءه طويلا كان دمعا سال من عينيه في صمت، أخذ يمسح عينيه وقال:

– غريب أمر القلب، تكون جالسا ودون سابق إنذار تجد نفسك تذرف الدموع. ربما القلب مجرد إناء ذات قدرة محدودة على الاستيعاب، عندما يمتلئ يخرج مالا طاقة له على حمله إلى الخارج.

فكرتُ في أن أسأله لماذا لا يسئل عن الفتاة فربما لا تكون ابنة المرأة التي يطلق عليها أمي. و لكن قبل أن أفعل ذلك توقفت سيارة أمام مقهىً محاذٍ للمقهى الذي نجلس به و نزل منها رجل…

ما إن رآه الرجل الجالس بجانبي والذي كان يحكي لي عما حدث و جعله يترك عمله في الجهاز، والذي تعرفت عليه هنا في المقهى قبل ثلاث أيام، حتى توقف وتوجه بخطى مسرعة نحو الرجل النازل حديثا من السيارة وأطلق عليه ثلاث طلقات وهو يصرخ. قتلت الدنيء.. قتلت الحقير…

كان المقتول المدير القديم لجهاز المخابرات العامة…

مقالات ذات علاقة

فوارق

أحمد يوسف عقيلة

ذكرى وذكرى

عبدالرحمن امنيصير

سقوط..

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق