قصة

محمد … طفل البلاط!

زمزم كوري

من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.
من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.

1

تحدثت الأم مع ابنها قبل أيام من مجيئه إلى طرابلس، كانت المكالمة طويلة، ومليئة بعبارة: “ماما اندا قالي يا؟” / “هل انت بخير أمي”.

بدأ تعلم الكلام منذ فترة، سعدت الأم كثيراً بأنه يتحدث بلغته الأم “التباوية”، كان ذلك إنجازاً، لا يمكن أن يحدث إذا كان في طرابلس.

وعدته في نهاية المكالمة بأنه سيأتي إلى طرابلس قريباً مع جدته، فرح الصغير كثيراً أخبر الجميع حتى يشاركوه الفرحة، أخبر جدته رغم علمها المسبق، “سأذهب إلى طرابلس”

سأذهب إلى طرابلس … سأذهب إلى طرابلس!

ردد تلك الجملة على مسمع الجميع الصغار، الجيران، الرجال الذين يمرون قرب منزل في طريقهم إلى المسجد، النسوة اللاتي يجمعن البلاستك من مكب القمامة حتى الصبار الذي أصبح منتشراً في كل مكان لم يسلم من صوته الطفولي كان يداعبها في طريقه إلى الخياط مع عمه:

“هووووووي تني طرابلس تيداي”  هووووووي أنااااا ذاهب إلى طرابلس!

المقاسات، سهلة ممتنعة، كل شيء يبدو طبيعيا ً لطفل لم يتجاوز الثانية، اقتطع القماش من قماش عمه، حتى أصبح الأخير ثوبه قصيراً فيما بعد!

الصباح

إنه العيد، فرح الجميع، احتفل المحبين سراً برسائل ليلية مسبقاً، ويحتفل البقية علناً اليوم في كل مكان، في الساحات، الشوارع، المنازل التي لا تغلق أبوابها، ثياب بألوان أفريقية في كل مكان، تخرج أصوات أغاني السودانية من إحدى سيارات:

شباب ثمارا ….. شباب ثمارا 1

شباب غبداء …. شباب غبداء

تتراقص عصي فتلتقط صوراً عشوائية اللحن، سيارة أخرى تنثر أنغام حماسية شيلات خليجية، و”الكيدي”2، كل ألوان الموسيقية حاضرة.

ارتدت المدينة ثوباً جديداً في ذلك الصباح …

“يبدو أنه جميل، أليس كذلك أنظر إلى المرآة” … اخبرته عمته

لم يكن يفكر بشيء، نظر إلى مرآة طويلاً، ثم مسح بيده على رأسه وأبتسم. تنطلق الأفواه في كل مكان “بركا سغهانو … بركا سغهانو”3 إلا في منزل الجدة هناك صوت كناري يردد “تني طرابلس تيداي”

بدأت الأصوات تختفي تدريجياً، تلاشت الشيلات الحماسية مع قرص الأحمر عند مغيب الشمس، بقي الكيدي وأغاني السودانية يتردد صداها في الأفق.

في صباح يوم التالي، نشرت الشمس أصابعها فوق اسطح المنازل، امتدت في تمادي غير مسبق، ارسلت إحدى بناتها “شمسة” تداعب صبياً ينام في باحة المنزل، أصدر الصبي أصواتاً،  يريد منها أن تمهله دقائق قليلة حتى يتشبع نوماً، “شمسة” لا تستجيب، أنها استغاثة بريئة، تدعي عدم سماعه، توغلت بين جلده وثيابه، تدحرج يمنى ويسرى، كلما تدحرج وجدت سبيلاً تتسلل فيه، قام بضجر، أنه مبتل، ثوبه، جبهته وكل ثنية في جسمه، أصابه البلل، وجهه منتفخ، دلك بيديه تلك العينين، نظر في الإرجاء، كان الجميع مستلقياً، يتدحرجون، بحثاً عن البرودة، لكن بنات الشمس تتراقص تحت ثيابهم، لا أحد يعرف من أين تأتي نسمات البرد في الشتاء، وأين تختفي في الصيف لا أحد، ولكن! هو يعرف، لقد علم ذلك منذ أيام، كان سر حتى انكشف ذات يوم، وأصبح الجميع يتناقلها، ذهب بخطواته القصيرة متجهاً نحو المطبخ، عندما وصل قبالة بابه، سقط أرضاً، امتد على بطنه، مد قدميه ويديه، ألصق وجهه على الأرضية، نعم إنها “البلاط” لقد اكتشف ذلك السر عندما أزعج جدهُ في إحدى المرات.

2

كان ابن جده المدلل، أنه الحفيد الذي يحمل اسمه “محمد” يختبئ وراءه مستغيثاً عندما يسبب كارثة في الداخل، الجد متربع في مربوعته، يقلب القنوات الإخبارية، لا شيء يزعجه كصوت حفيد بدأ في البكاء، وأية بكاء، أنه بكاء محمد يفوق وصفه بالصراخ، أنه كطنين إذا أصاب السمع أذهب العقل.

جلس الجد يشرب الشاهي بهدوء، حفيد مطيع يجلس بقربه، ينظر إليه بتمعن، قلد بعض الحركات، نظر إليه الجد ضاحكاً “اتريد الشاي!”، ابتسم محمد، كان الشاي لذيذ جداً، على غير عادته، لابد أن يكون الزعتر هو السبب قال الجد متسائلاً في نفسه ولكنه تردد مستفهماً “إنهم يضيفون الزعتر في كل مرة”. بعد لحظات، قام الجد، خرج، غاب عن المربوعة لدقائق، ربما لربع ساعة.. عندما عاد بدأ في الصراخ

من فعل هذا؟

تشنجت عضلات وجهه، بدا عِرقاً طويلاً في جبهته، عينيه على اتساعمها، الشاهي مسكوب على صفرة، وعلى الفراش، وعلى ثياب الصبي حاول ملئ فنجان شاي على خطى الجد:

أيها الشقي … محمد … محمد!

أخذ عكوزه من وراء الباب دون أن يفكر في مكانها، نهر محمد، تردد في ضربه، محمد صرخ، كما يفعل قبل أن يتلقى الضربة طالباً النجدة.. لكن! ممن هذه المرة؟ الجد هو من يوبخه، تلك النظرة لم يرها من قبل، رفع الجد عكوزه للأعلى معطياً حفيده وقتاً للهروب، انطلق محمد، سلم قدميه للريح، ارتطم عدة مرات على حاشية باب المربوعة، الصالة، ثم المطبخ، سقط أرضاً، كانت أفضل سقطة في حياته، بكى بكل حرقة، خالطت دموعه تشققات التي تتخلل “البلاط” يبكي تارةً وتارةً يتنهد، خارت قواه، خف صوته، نظر إلى دولاب المطبخ، إحدى الأبواب كانت مفتوحة، الكثير من الأواني، البيضاء وضعت فوق بعضها، ارتفع بنظره للأعلى صنبور المطبخ كان يقطر ماءاً، لأول مرة يسمع صوته بهذا الوضوح، راقب القطرات وهي تسقط واحدة تلوى أخرى، يراقب القطرة تتشكل ككرة، ثم تتمدد من الأعلى فتسقط ثم ينظر إلى فوهة الصنبور منتظراً قطرة التي تليها، برودة الأرضية، نغمة قطرات الصنبور، الضوء الخافت من المطبخ، ظلام يخيم نهاية الممر، وقت القيلولة، سكينة التي تعم المكان … استسلم الصغير للسلطان.

3

جاء محمد إلى طرابلس بعد أيام مضت كسنوات على قلبه الصغير، الطريق بعيد، ومتعب، قبيل صلاة المغرب، أنار ذلك الوجه إحدى منازل المظلمة جنوبي طرابلس، كان بشوشاً، هادئاً، على غير عادته، بدى لأمه طفل أخر غير الذي تتحدث معه على الهاتف، نادته “محمد … محمد” لا شيء سوى ابتسامة، وعينين تتحدثان بجرأة.

تفحص المكان، لأول مرة يتعرف على منزلهم، خرجت العائلة من المنزل أيام حرب طرابلس الأخيرة عندما كان هو في شهره الثاني، واليوم يعود إليها في عامه الثاني.

لعب قليلاً، مع حلول الظلام خارت قواه فاستسلم للنوم. من طفلاً يفترش أرضية المنزل كقطة بحاثاً عن مكان بارد، إلى طفل يهرب من البرد مختبئاً في حضن أمه.

استيقظ في صباح يوم التالي، تحسس وجود أمه، قام من مكانه، بوجه عبوس، يحاول فتح عينيه، لمح وجودها في المطبخ، وقف في الممر، كانت الأرضية باردة، شعر بقدميه، قال بصوت فيه بحة تسبق البكاء:

– ماما … ماما … البيت بارد!

نظرت إليه، بكل فرحة، أنه ابنها الذي غاب عنها لأشهر، اليوم يقف أمام ناظرها، يتكلم، يعبر بكثير من الجمل، والكلمات الحمد لله خرجت من أعماق قلب الأم.

– البيت بارد! …. ردت خلفه وضحكت لقد أصبحت خبير بلاطي عالي المستوى!

ولكنه قال متردداً “البيت باااااارد ….. ” تخلل صوته خرير ماء هذه المرة، نظرت الأم إلى صنبور المطبخ لم يكن الصوت منه:

محمد … محمد … صرخت في وجهه … ما هذا!

____________________________________

1- غبداء / ثمارا: من قبائل تباوية.

2- الكيدي: موسيقى تباوية تقليدية.

3- بركا سغهانو: كل عام وانتم بخير.

مقالات ذات علاقة

تـــكـرار

محمد المسلاتي

الدرويش

محمد محمد الأبي

قصص مهرجان حلب العاشر للقصَّةِ القصيرة جدًّا.

جمعة الفاخري

اترك تعليق