النقد

محاولة لصف ازدحام.. ديوان الشاعرة الليبية فريال بشير الدالي: حينَ يُقيمُ القلْبُ مبَاهجَهُ

عاطف محمد عبد المجيد (مصر)

الشاعرة الليبية فريال الدالي ومجموعتها الشعرية مجاولة لصف ازدحام

تستهل الشــاعرة فريال بشــير الدالي ديوانها «محاولــة لصفِّ ازدحــام» الصادر منذ ســنوات عن مجلــس الثقافة العــام الليبــي، بطابوريــن أولهما إهــداءات أولى، وهــي تهدي ديوانها هــذا إلى أبيها/ وطن الحنــان، وإلى أمها/ مَوَاطِن الصبر، وإلى راياتها المتســامقة: حســام الدين، حاتم، عليّ، عــاء الدين، محمد/ رجالاً للوطــن. أما الطابور الثاني فتســميه: توصيف.. قــد؟ وفيه تعبر عن علاقتهــا بفعل الكتابة ومراسمها اللا معتادة:

رطبة لحظات الكتابة

تشي بنشوة ولادة عصية الحرف الجامح..

يرتجف أمام كلماتي

والعالم يرقص على بنْس الآه. انسجام تام

أمــا القصيدة الأولى في الديوان فتجعل الشــاعرة عنوانهــا ليبيا، وفيها تصور الشــاعرة، بإحســاس متدفق ولغــة نقية ورائقة، ليبيــا/ الوطن ككائن حي تتفاعل معه ويتفاعل معها، ويبقيــان هما الاثنان معاً في وضع انسجام تام، لا تعكر صفوه أي شائبة:

متنامية الأطراف تستلقي في دعة..

على مروج قلبي بأزهارها..

الدائمة التفتح

تنبت في النظر عشقاً بلون الأزل

لتمتد إلى ما بعد الأفق..

ثم ترى الشــاعرة ليبيا/ الوطن وهي القلب الكبير الذي يحتوي الجميع بين أحضانه ويُربّت على أكتافهم ويجعــل من ترابــه وثراه فضــاءً متســعاً لهم وبهم يعيشون فيه كما يحلو لهم:

أيها القلب الكبير:

أما زال فيك متسع لي..

أنا فأنثر فيك همومي المتصاعبة؟

ليبيا: عشتِ لنا.

لقد عبَّرتْ الشــاعرة هنا عــن العلاقة ما بين الوطن والُمواطِن أفضل تعبير، ومــا أجمل هذه العلاقة حينما يســودها الحب والــود وتكتنفهــا الألفــة والتناغم. ما أحلــى أن يعيش الإنســان فوق ثــرى وطن يحبه ويعشقه بصدق!

حنين دائم

وفــي القصيدة التي حمــل الديوان اســمها والتي تهديها إلى حنينها الدائم وأظنه الشــعر/ القصيدة إن لم يكن محبوباً آخر، في هذه القصيدة تعبِّر الشــاعرة عن صلة ما تربط ما بينها وبين شــياطين الشعر، التي ربما تلد خواطرها، أو على الأقل توحي بها إليها:

تقاطرت عليّ شياطين الشعر

ترثي انكبات خواطري

فتذرف الحنين أملاً مسعوراً..

يشعل اللحظة بوجد الفراق

وألم عناق بعيد.

ثــم إن قلمها أصابتــه الجراح فيما ينشــد الورق نزيف انكباتها، ولهذا فهي ستصفُّ ازدحامها طوابيرَ! وحين تختزل الغربة حنين الشاعرة الدائم الذي يمكن أن يكون حبيباً بشرياً، أو حبيباً من نوع آخر إن لم يكن هو الشــعر/ القصيدة يناهزها الوله فتتخيله، غير أن الحقيقة تلكزها، ثم تتساءل:

ماذا

لو أطلقت جمهرة مشاعري الهاتفة بك

وبذرت النجوم

التي اغترفتها من الـ(هاتين)

في صدر الكون

ولونتها بومضة

جمعتنا كانت هي الأولى؟

أيضاً تصف الشــاعرة نفسها بالنخلة المغروسة في زمن الحب حين تختــزل الغربة حنينهــا الدائم.. تلك النخلة تراود النجوم عن نفسها..

تفتح صدرها لرصاص الوقت..

ترقص على أنفاس حنينها

كانبناء حلم..

تكبكبه الوحدة كتلة

من نعيم يتلظى!

ومن الملاحظ في هذه القصيدة أن الشــاعرة تولي اهتماماً واضحاً بمفردات لا يكثر الآخرون استخدامها، غيــر أنها على الرغم مــن هذا، وظفتهــا بمهارة داخل أسطر قصيدتها الشــعرية، من هذه المفردات: انكبات، مجروح، بــدلاً من جريح، انكتابــي، اعتمال، تلكزني، كانبناء، تكبكبه.

لغة موسيقية

وفــي لغة رومانســية هي أقرب إلى الموســيقى من الشعر تخط الذات الشاعرة (تفاعل) التي تناجي فيها محبوبها الذي أقفلت كل قطرات دمها على اسمه، بينما يقيم القلب مباهجه لأنه فاض بحبه له:

سماني الهوى فرسه

والسماء طفلتها المائية

فأهدتني الأرض مدارها.

ومن القصائد المكتملة البناء في هذا الديوان قصيدة هجرة التي تُساوي فيها ما بين الانتماء إلى المحبوب أياً ما كان والوطن اليوتوبي:

الانتماء إليك = وطناً يوتوبياً

يستقر في الذات

يتنقل بين طقوس الوقت

يدشن مشروعاً آخر.

كذلك لا تقل قصيدة أحلمك جمالاً عن هذه القصيدة:

حين تبخر الفارس

انتحر الحصان

فسقط الليل مغشياً عليه

واستقال الواقع من الجمال

الآن لأحلمك!

وترســم الشــاعرة في قصيدة تأبين صــورة حية تنبض بالحياة الشعرية لبعض القصائد التي تتقدم، وهي تحني ظهورها حاملة رايــات العجز بين الثكالى لتؤبن ســكَّر المعنى المحترق في بوار الروح! وهل ثمة مــن إجادة في التصويــر أكثر من هــذا؟ وفي قصيدة بؤر تنسج الذات الشــاعرة علاقة ثلاثية بينها وبين المحبوب مــن ناحية وبينهــا وبين الزمن مــن ناحية أخرى:

عندما تشتعل اللحظات

ينطفئ الزمن

أبحث عن بقيته

أقتات بفتات الأيام!

أرمم الوقت لأنشغل عنك!

وتعبّر كذلك عن آلامها التي تمارس ســطوتها عليها أحياناً في قصيدتها من ملامح الطالع:

الزمن يتمادى

المكان ينحسر

واحتقان الحزن

صراخ أخرس يبتلعني في جوف الآه.

قصائد الومضة

في هذا الديوان تلجأ الشــاعرة إلــى كتابة بعض القصائد القصيرة التي اصطلح على تسميتها بقصائد الومضة، وهي تمتاز بقصرها الشديد، لكن دون إخلال بالمعنى، بل مكتملة البناء اللفظي والشــعري، خاصة وهي ترتكز في الأساس على التكثيف والحذف عوضاً عن الإضافة. ومن قصائــد الومضة هناك ثلاث قصائد جاء مكانها في آخر الديوان، وقد أحســنت الشــاعرة صنعاً إذ فعلت هذا، خاصة أن هذه القصائد الثلاث من أجمل قصائد الديوان، ولن أُعلِّق عليها حتى أدع القارئ يستمتع بقراءتها بعيداً عن أي مؤثرات خارجية:

بؤر

في غمرة الحنين

ترتدي الروح ثوب اللهفة

فلا تخلعه ولا يبيد!

عطش

قطرة لا تروي

وعلى شواطئ اللحظة دموع..

شامخة

لا تسقط

ولا تستكين!

صفحة

كادت تدمع

(السماء)

لكن نزيف اعتصامي

لحس عن خدها الفريد

قطر البداية!

مقالات ذات علاقة

التَّذَوُّقُ الأَدَبِيُّ وَإِبْدَاعِيَّةُ التَّلَقِي

خالد السحاتي

فاجعة ما بعد الحلم الواعد .. قراءة أولى في رواية الكلب الذهبي

رضا بن موسى

تهاني دربي توقد شمعتها ”شعر يعربد بك“

المشرف العام

اترك تعليق