سيرة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (31)

ياااا ثكنة عشرة مارس…..

مازلت أدور مثل درويش في حلقة ذكر، أحاول الخروج من دائرة ذكريات الطالبة “حـواء”، تلك الطالبة بمعطفها الأكحل الطويل (وكأنها لم تخرج من قرمبيول الابتدائي؟) نعم كان معطفا بلون أسود يغطي جسمي كله، له ياقة فرو بنيّة، من الصف الأول معهد اشتريت هذا المعطف وحين جاء شتاء 1979، والعام الدراسي الذي ابتدأ في سبتمبر 1978، ليتواصل مع بداية شتاء 79، في حصة التربية البدنية أشارت لي معلمة المادة فجئتها، بنت قصيرة ونحيفة مغطاة حتى أسفلها  وعلى رأسها شال أبيض؟!، سألتني:

أنتي بتلبسي كده ليه، فيه حد غاصبك.؟؟ ولتفاجأ بالرد الصاخب ولكن بهدوء وأدب لأنها معلمتي، ههههه قرأت عليها آية الحجاب وأخبرتها أن لا أحد طلب مني أن البس هكذا بل هي إرادتي الشخصية ولأني……؟؟؟؟

عيشة بنت الحوات.. من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري.

نظرت لي ثم قالت: خلاص يا حبيبتي  مادام ده اختيارك وماحدش غاصبك  أنتي حرة….، نعم حرة وجريئة أقرأ؛ نزار وغادة، و تعرفت على الأدب الروسي  في ترجمات رائعة، قرأت تولستوي وتشيكوف ودستويفسكي، و وجدت الإلياذة في مكتبة ذاك البيت (كان فيللا) الذي يقابل حوشنا، حيث صديقتي “لطيفة” وأنا أتأمل المكتبة و هي تحذرني لأنها (مكتبة بوي) وكل كتبه يعرفها، كنت في السابعة عشرة وكنّا انتقلنا إلى بيتنا الجديد، وكل مساء (تقريبا) أجيء على قدميّ إلى السانية لأحظى برفقة صديقاتي، وفي ذاك المساء عدت بالإلياذة لأغرق في ذاك المحيط، كأنها تعيدني لحكايات أمي، وكأن البحار التي انطوت والخيول التي طارت هي ذاك الغول الذي احتاز (حبّ الرمان) أو كأن شهرزاد تحاول القفز من بين السطور لتنفض عنّي ذاك السحر و تخبرني أني قرأتها أولا وعرفت تلك العوالم الغريبة في سردها العجيب الذي يتناسل وينسل حكاية إثر حكاية،…. يبدو سؤالا مشروعا أواجه به نفسي: هل كانت الوحشة كبيرة وغربتك قاسية حتى تقرأي تلك القصص والروايات وتغرقي في عوالم بعيدة؟ ما الذي كنت تبحثين عنّه..؟! لكن حواء التي تكتب الآن غير معنية بالبحث عن إجابة هذا السؤال، هي تنظر لتلك البنت في معطف أسود وشال يغطي رأسها لونه أبيض، والمعهد تحول إلى ثكنة وثمة بنت ترتبك حين يشيرون إليها (شوفي هاذي أخت امعيتيقة)؟؟؟ من هي (امعيتيقة) آآآه، امعيتيقة التي صار اسم القاعدة العسكرية باسمها  ووضعوا نصبا تذكاريا على قبرها، من هي…؟؟؟ وسأعرف أن أسرتها من مدينة أخرى اسمها (زليطن)، وكعادة الليبيين في تلك الأزمان، يجيء أهلها إلى طرابلس ويعيشون بين أهلها، وفي ضاحية (سوق الجمعة) كان هذا متعارفا جدا، وخاصة في أزمان القحط بعد الحرب العالمية الثانية، يجيء أهالي من مدن تحيط بطرابلس.

هكذا عاشت أسرة هذه الطفلة في (سواني خوال أمي وأبي) تلك السواني المتاخمة للقاعدة العسكرية الأمريكية (هويلس)، والتدريبات على الطيران وسقوط طائرة وأكثر ، تتذكر أمي كيف يجيء الجنود ويجتثون (جبّار النخل)، وحين يتذمر أهل السواني يقول الجندي بلهجة عربية مكسرة: هذي نحلة تكبر وتجي قدام الطيارة..

وأمّا “امعيتيقة” فهي صديقة (بنت عمي صالحة)، تحكي إنها بنت جميلة بيضا بعيون ملونة، كانتا تلعبان في تلك السواني، وكعادتنا ستروى قصص عن آخر يوم في حياة تلك البنت الصغيرة، كيف ان أمها (تكسكس في الكسكسي) وكانت تريد ان تأخذ من (المبوخ) لكن أمها تنهاها، فتقول هي:

والله ماني ضايقة منه بكل.؟

وتخرج للعب فتسقط طيارة متدرب، وتكون تلك البنت الصغيرة في انتظار قدرها الذي جعل منها طفلة شهيدة، حتى أن تلك القاعدة العسكرية ستصبح باسمها، وقبل هذه الصغيرة سيكون لأخوال أمي أو لأخ جدتيّ غير الشقيق (أمه من ذات العائلة، وأمهم من عائلة العلام).. إذا خال أمي وأبي (معتوق) سيكون له حفيد صغير من ابنه (سالم)  اسمه (عبد الرحمن) وكما أخبرتنا أمي، ان جدته معه يعودان مع لحم كي تشويه سريعا لحفيدها، ولكن طيارة متدرب ستسقط، وستسمع  أمه ذاك الصوت فتنهض فزعة راكضة باتجاه (البير) وعلى (الجابية) وجدت ولدها (محمد) وحناه،  وجدتهما أشلاء حتى أنها لم تستطع حتى أن  تلملمها،  ولا أدرى صحة الحكاية  التي تقول: أن والد الطفل “عبد الرحمن” سألوه عن قبر أبنه حتى يبنوا له ضريحا، لكنه رفض أو ربما لم يعرف أين هذا القبر لمرور زمن طويل،  إذا (فاطمة) وهو اسم شقيقة (امعيتيقة) كان يصيبها الارتباك والطالبات يشرن إليها (شوفوا اخت امعيتيقة)…..

ما الذي يخبئه فبراير….

وقبل أن أدخل أجواء فبراير، لن أنسى أن يوم 31يناير هو يوم ميلاد المبدعة (شريفة القيادي)، شريفة التي قادت هي وجيلها وبخطوات راسخة مسيرة المرأة الليبية المبدعة، الطالعة في نهارات الاستقلال والغارفة من روح مدينة اسمها ( اطرابلس).

هو الشهر الأخير من الشتاء، وكما نقول في الأمثال (الخاش يغلب الطالع) ستكون بوادر الربيع مع هذا الشهر، وأجمل ما فيه _بالنسبة لي_ هي (قرة العنز)، وربما لأن (الماعز) من المواشي التي يحب الليبيون تربيتها و يستمتعون بلحمها في أوائل الربيع، هكذا عرفوا طباعها وغضبها السريع ثم الهدوء، هكذا (قرة العنز) عاصفة ريح ومطر قوية تنسكب ثم ينقشع وجه السماء فيصحو الجو وتتهادى النسائم  تخبر أن الربيع يجيء،  وفي أول هذا الشهر  سأحظى بمن ستؤنس حواء فتغدو أختها وطفلتها وصديقتها، قلت في بداية السيرة أني سأناديها (هالة) لأن أمي حلمت بهذا الاسم، حلمت أنها تنادي بصوت عال (وحق سيدي بوشعالة، كان جتني بنت نسميها هالة) ولكنها لن تخبر أبي ولن تحكي قصة هذا الحلم إلا بعد سنوات طويلة، (برج الدلو)  هو برجها وفبراير  شهر ميلاد صديقات وأصدقاء (سمر، وسناء، وامبارك) برج هوائي ولكنه ليس متقلب مثل برجي (الجوزاء)، ولكن عنصرنا الهواء يوحدنا فنتشارك بعض الصفات وينفرد الدلو  بأخرى،  فبراير   1983م، حيث أول مقالة باسم (دلال المغربي) ثم (يوم 16 فبراير، لتكون  17 فبراير) حكاية رغم قربها كأنها بعيدة، كتبت بعضا من يومياتها  وحاولت أن أرصد بعضا من مشهدها، رأيت الفرح في عيون اشتاقت الحرية، وكانت (17 فبراير) موجة عارمة، (أنا أحكي عن الحرية القريبة) لأن هناك الكثير من العبودية في حياتنا، كيف استطاعت (17فبراير) أن تمنحهم ذاك الشعور بامتلاك الزمام، أن يكونوا قادة مصيرهم.

عذرا لكل المحمولات الكبيرة، مازلت أحكي عن الحرية بمعناها البسيط والقريب، مجتمعنا خانق وقاسٍ وزادت العولمة من شعور (التشيؤ)، هكذا انطلقت الحناجر هاتفة وارتفعت هامات الرجال التي أحنتها الظروف والمواقف، خرجوا ظانين انهم يسعون لذاك الحلم (ثورة سلمية) وأن (ميدان الشهداء)  سيكون مثل (ميدان التحرير)، ما الذي  حدث ولماذا صارت وسارت (17 فبراير) في اتجاهات عدة، تلك حكاية مثل حكايات (حنانينا) حين تفجؤنا (الغوال) في الحكاية فنقرفص مثل (فئران مذعورة)، نفتح (كويفنوا) السيارة لجندي غامق السمرة طويل عريض في (جزيرة فشلوم)  يفتشه ويغلقه بقوة،  نواصل العيش ونتسمع وقع الحكايات، كأننا عشنا في (فيلم سينمائي) كأن كل أولئك الشباب الذين هتفوا للحرية وأرادوا وطنا مجرد (فئران تجارب)، هل تفهمين يا صديقتي ، هل تفهمني يا صديقي، أنا أحكي عنهم جميعا، نتواجه ضد بعضنا البعض كلّ منا (يغني على ليلاه) وكأنها ليست (ليبيا واحدة)، أظنني سأكتفي وأضع نقطة نهاية هذا السطر، وفي فبراير الجميل جاءت لبيتنا (هالة) والتي سيسميها أبي على واحدة من (بنات السانية)، بدأت حياتها الجديدة وغادرت البلاد، فكان تسمية ابنته عليها علامة على اواصر القربي والحنان الذي يجمعنا في ظلال الزيتون ويقيتنا برطب النخل الذي سيغدو ثمرا في خوابينا.

حواء طالبة منتسبة….؟؟؟

وهل أنسى حلمي و ثمة صديقة ثمينة في حياتي اسمها (جميلة)، سألتني ماذا تريدين: اللغة العربية أم الفلسفة؟… تلكأت في الإجابة لأن لي قراءات بسيطة في الفلسفة ولكن عقلي اللجوج كثير الأسئلة ينسجم معها، ولكن اخترت (اللغة العربية والدراسات الإسلامية) وجاءتني صديقتي بأسماء المواد المقررة والكتب التي تحوي المنهج، ولكن ثمة زوبعة في الأفق وتفتيش في حجرتي وحينذاك ظهر الذي حاولت أن أخبئ خبره ولا أخبر إلاّ أبي لأستأذنه؟؟؟ كانت أمي على دراية بالموضوع أخبرتها أنه مجرد شهر في العام لأداء الامتحان فقط، أمّا الدراسة  فهي هنا في حجرتي (واني قاعدة مُدرسة يام)، (ماهو خوتك يا بنيتي…؟)، وحدثت الزوبعة ليخبرني ذاك المتشفي أنهم سيوقفون قيدي ويلغون تسجيلي..؟؟ بكيت ليلة كاملة ونهضت لأواصل العيش واتجهز ليوم دراسي، كنت لا أزال في مدرسة البنين، معلمة الصف الرابع/ رياضيات، وفي (جنان الحوش) كانت (عالة الشاهي) وغير بعيد كان (بوي) يقرفص على الأرض يلملم باقة (دكار نخل) رائحتها عبقة وطعم الطلع يظل في حلقي (نشرب طاسة الشاهي) وأبدأ الكلام (ونشرق بدموعي) فيقول بوي: (ما تعدليش عليهم أنت بنتي اني.. اقري قرايتك ولما يجي الامتحان امشي)…

لأخرج بقلب مفعم بالبهجة و روح ضاجة بالحلم، أمشي على مهل في ذات الطريق التي عبرتها خطواتي الصغيرة تلميذة في (قرمبيول اكحل وحقيبة وخطى متوهجة إلى المدرسة)…..

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (44)

حواء القمودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (35)

حواء القمودي

للتاريخ فقط (6)

عبدالحميد بطاو

اترك تعليق