سيرة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (24)

حوشنا القديم

(غاستون باشلار) في كتابه (جماليات المكان) يستكشف هذه الحميمية التي تنبض من كل ركن وفضاء عشنا معه وحدث  تماس بين نعومته أو خشونته، صغره أو كبره، انغلاقه أو انفتاحه، هكذا يطل في مشهد حميم (حوشنا العربي) من الباب المقوس والذي تعلوه (خميسة وحويتة وقرين)، عتبته عالية كي تحجز عنه ماء المطر إذا تدفق وفاض (وقظ حدث هذا أكثر من مرة حين كان الخريف والشتاء دافقين بالمطر في السبعينات)، هكذا سأدخل إلى السقيفة وإذا كان الوقت صيفا فسأجد (عالة الشاهي) متربعة على عرش قيلولتنا، والحصيرة مرتع أجساد تهاوت بعد غذاء قد يكون؛ بازين، أو كسكسي بالخضرة، أو رز مسقي. عبق الشاهي يتسلل إلى خياشيمي الرأس خاصة إذا كانت (الطاسة الثانية)، حيث فوح النعناع يأخذني إلى شجرة التوت حيث وريقاته النضرات مختبئات في حمى جذعها الضخم، ونحن البنات لاهيات بالتقاط حبات التوت التي تقطر حلاوتها بين أصابعنا قبل أن تلتقطها أفواهنا الشرهة، أقدامنا تتلون بذاك اللون (العنابي) و(قفاطيننا) تشي عن المكان الأثير الذي تربعنا، ولكن رائحة النعناع التي تعبق منّا تؤكد للأهل صدقنا حين نقسم أن قيلولتنا كانت بين أغصان (التوتة السوادي).

من أعمال التشكيلية عفاف الصومالي

 
أفيق من غيبوبة النعناع لأعبر إلى (وسط الحوش)، حين أقف في منتصفه ستكون (الدار البحرية) عن يميني و (الدار الغربية) قدامي و(دار حناي)، وهي الأكبر والأوسع في ركنها الشرقي، (السدّة) والتي ترتفع عن الأرض بحوالي متر ونصف، مزينة بستائر ومفروشة (بالكليم)، وعلى الجانبين المخدات والمنادير ويتوسطها فراش جدتي المغطى حسب الموسم، فإن كان شتاءً فيكون (المرقوم)، وإن كان صيفا فيكون (الرداء الباصمة). في الركن ثمة صندوق ضخم لونه أخضر ولكن تلك المسامير التي تزيّنه هي ما يشدّ أصابعي لتلهو بملمسها الناعم، و لن أتجرأ على التفكير في فتحه، ولم أفعلها حتى مرة واحدة رغم توفر الفرصة، (أمانة يا حوا) هكذا علمتني أمي، التي حظيت (بالدار الغربية) التي تصليها شمس الصيف قبلاتها الحارة حين الغياب، فتصبح ساخنة وخشب (السدّة) يطقطق فتخاف وهي وحيدة (حين يكون أبي في دورية عمل تقتضي مبيته)، ولكن (الحاجة زكية) تطمئنها أن ذلك هو صوت الخشب وليس صوت خطوات على (الحيط)، وأيضا السدّة وتحتها الخزانة ستكون في دار أمي كما دار جدتي و(الدار البحرية)، الخزانة الحاوية لأسرار وعطايا حسب الدار التي تكون فيها، فخزانة (حناي “صالحة”) وما تحويه غير الذي سيكون في خزانة أمي، أما خزانة (الدار البحرية) فهي حيث (خابية الزيت) الكبيرة والعريضة حتى أن “حواء” الصغيرة  تخافها حين تريد أخذ القليل من الزيت كي تعد (دحية مقلية)، ومهما حاولت فستغلبها هذه (الخابية) ويندلق الزيت على أرضية الخزانة فتركض إلى السانية لتأتي بالتراب تغطي به بقعة الزيت (هههههه)، ولكن أمها ستكتشف ذلك، وتعاتبها لماذا لم تنادها، فتخبرها بأنها كانت مشغولة بإرضاع الصغير الذي  لن يكفّ عن البكاء إلاّ إذا شبع من حليبها، هذا الحليب الذي أرضعت منه (عقربا صغيرا) وجدته وهي تغربل الرمل الذي ستفرشه على قطعة قماش وتلفه ليكون (شمال -حفاض) لأخيها الذي يكبرها بثلاث سنوات، حين وجدت العقرب الصغير لم تقتله بل كما تحكي (شخبت عليه من ثديها حليباً) ثم أخذته خارج (الحوش) إلى (فم الحياش)، وحينذاك وجدت ذاك الشاب الطيب “رمضان …..” فوق (البشكليطة–الدراجة)، وطلبت منه أن يقتل هذا العقرب، والذي كان تردد حين شخب حليبها عليه، (انتَ خوهم وهما خوتك، لا تاذيهم لاياذوك).

وقد سمعت هذه الحكاية منها حين أخبرتها بعد رجوعي من عرس في (سوق الخميس)، حيث نمنا تحت خيمة (وكان هذا عام 1973م) أخبرتها بأني شعرت بلدغة في أصبعي الكبير أيقظتني، ولم أشعر بشيء آخر رغم خوفي، عدت لنومي ونهضت لأكمل مشاركتي في بهجة عرس في (العرب)، حينذاك قالت أمي: (العقرب اختكم مش حتاذيكم…؟؟؟؟!!).
 
وحين أكون (وسط الحوش)، سيكون ذاك الممر الطويل على يساري، والذي ينتهي بـ(بيت الراحة)، كبير واسع. وحين أتركه خلفي وأعبر سأجد تلك المساحة الكبيرة والتي نسميها (مطبخ)، مازال في ذاكرة البنت الصغيرة شكل الحائط بلونه الرمادي الضارب للسواد، و(الطابونة) على الأرض ثلاث (رشادات كبيرة-حجر كبير) مسنودات على بعضهن، وأتذكر يدي الصغيرة وهي تضع أعوادا جافة ربما شاركت أمي في التقاطها من تحت شجر الزيتون والتوت والرمان، وأيضا من تحت النخل السعف اليابس، مازلت أتذكر (الطنجرة والكسكاس الفخاريين).
 
يرتفع الآن أذان المغرب في سوق الجمعة اليوم الاثنين 25/11

مطر خفيف

بالأمس الأحد غازلتنا المطر قليلا، من خلال شباك المطبخ رأيت سماء ملبدة بالغيوم ابتهجت، غامرت حين الخروج بارتداء معطفي الجديد (هدية)، أحببته وانتظرت الشتاء لأرتديه.

مازالت تلك البنت الصغيرة التي تنام وهي تحتضن ثوب العيد، إذا لبست معطفي وعبر الدرجات التي أنزلها أشعر بالريح الصاعدة وأمدّ خطواتي للشارع، فإذ بقطرات تنهمر، و كدت أفعلها أن أرقص أدور وأدور، وجهي يستقبل القطرات التي تجيء من غيمة، ولكن أعبر الطريق وأمشي ياااااه تذكرت الموبايل نسيته، فعدت أدراجي قبل أن أبتعد كثيرا والقطرات تبدأ في التراخي ولكن (ذهيبة) مثل حمامة وادعة تقابلني، هي السيدة التي كتبت عن (فراشيتها) منذ أكثر من عام لم ألتقها، هتفت باسمها مرة (عمتي “دهيبة”) ومرة (خالتي “دهيبة”)، سلام وسؤال عن الحال ودعوات طيبات…….، وووو أصل (ميدان الشهداء) البهجة تغمرني والمطر المرتقب يأخذني لمدينة قصية، أغازل حمام الميدان أرشّ الحبوب فتحلّق حولي تطير وتحطُّ لتلقط الحبَّ و حواء تزرع أرض الميدان بمشيتها والحمام هديل عشق و(السرايا الحمرا) والبحر بلونه الأزرق الغامق والشوارع؛ ميزران/ الوادي/ بالخير/ وشوارع فرعية: البيضاء/ الخمس/ ترهونة، و(المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية)، والمكتبة ومجلدات (الأسبوع الثقافي)، ما الذي أبحث عنه؟ بين هذه الاوراق والحنين للأصدقاء واللقاء بهم على الصفحات؛ جيلاني طريبشان، أمين مازن، يوسف الشريف. رضوان بوشويشة، أحمد الفيتوري، خليفة حسين مصطفى، ابن الطيب، زكري العزابي، وأسماء أتعرف عليها؛ خليفة خبوش، هدار الديب، ووووو.

مجلد إثر مجلد، أكتشف عالما ثريا، “محي الدين اللباد” في خبر عن ذهابه إلى فرنسا بعد أن أنجز الناحية الفنية للصحيفة، الفنان “محمد حجي” وعوالمه الثرية، وووو، كيف تتحول متابعة وتحقيق ونقد إلى فسيفساء، كيف وكيف، أجد: جمعة بوكليب ومنصور بوشناف وعائشة إدريس المغربي وأم العز الفارسي وعلي الجواشي وعاشور الطويبي، الجميع يكتب الشعر؛ ومصباح عباس وعبد الله زاقوب سنوسي حبيب ورمضان الشلوي وسالم العبار وسالم الهنداوي، ونجم الدين المحجوب، شريفة القيادي ونادرة عويتي وصبرية عويتي، شاعرة وكاتبة متوفزة تملأ فراغ (ليلى سليمان).

حين أخرج من عدد كأني كنت في كوكب آخر، أتأمل ما  حولي وأتساءل: أين أنا؟

التفت لأجد (مجلة الشورى)، فأبحث في مجلداتها عن تلك القصة الأثيرة (وكانت الشمس شاهد عيان) لـ”عمر الككلي”، فأجد مقالة له، ونصا للـ”جيلاني طريبشان”، وأعود لأغوص من جديد مع (الأسبوع الثقافي) فأجد تخطيطا لوجه الاستاذ “عبدالحميد الجليدي” رئيس تحرير مجلة (كل الفنون)، محمد القمودي و تيسير بن موسى، فاتح الشهاوي و وووو، نجم الدين الكيب والصيد بوديب وعلي فهمي خشيم، وكراسات؛ خليفة التليسي وعبد الله القويري، وإرهاصات حنين للقراءة والوطن، وشريط الذكريات مع “محمد الأسطى”، ثم مع “أحمد زارم”، كيف قُتلت هذه  الصحيفة، كيف أطفئ النور  وصمت الكلام وانسحب الضوء، أسئلة بعض إجابتها قد أجده في مجلداتها وقد يظهر مثل تخمين وسؤال يبحث عن إجابة.

من أعمال التشكيلية عفاف الصومالي

بنات الملاحة

هو (حوشنا) والمطبخ الذي ستطرأ عليه التغييرات، من (الطابونة والحطب) إلى (البابور والقاز)، حتى يجيء (الغاز)، والمطبخ ملحق به ممر صغير ينفتح على (البراكة)، وما أدرى “حواء” الصغيرة بهذه (البراكة)، الخراف الصغيرة (السعي أو الغنم) مرة ومرة أخرى البقرة (المعشرة) التي تنتظر وننتظر معها لحظة الميلاد، وعادة يكون ليلا.

أتذكر شتاء ممطرا و(صقع هلبة) وليل، وصوت أبي وأمي وأجازف بالخروج من دفء البطانية إلى (وسط الحوش)، أركض وهناك في (البراكة) أجدهم ومعهم (سيدي بوسنينة)، الخبير في هكذا حالات، تنهرني أمي بعد التأكد أني غير مبللة، لكني أظل قلقة حتى أطمئن أن (العجل) قد شرفنا في ليل شتائي، وأني حين أنهض سأتلذذ بطعم (اللبي).

وتلك (البُراكة) تفتح على السانية وهناك يسارا (سزنة الدجاج)، وقبالتها (براكة صغيرة) للخرفان وغير بعيد ثمة حفرة كبيرة وعميقة، مليئة بأرانب بيضاء ورمادية، لتمتد (شراكات) مبتهجة بكل الألوان والثمرات، وغير بعيد هو البحر هي (الملاّحة) يرشنا ملحها العفي العبق فنغدو بناتها (السمحات اللي يصب علينا الملح).
 
 
 
 

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (42)

حواء القمودي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (5)

حواء القمودي

الراحلة القيادي: هذه أنا .. كأي امرأة أخرى

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق