المقالة

مثقف السلطة

حسن المغربي

جَبُل مثقف السلطة أو فقيه السلطان كما هو معروف – منذ تأسيس فيما يعرف بالدولة العربية الأموية إلى إنشاء الممالك الحديثة في بدايات القرن العشرين- على الإذعان للقوة الحاكمة والتملق لها سواء من الناحية النظرية التي تعتمد على الفكر والأدب والشعر أم من الناحية التطبيقية المتمثلة في أحكام رجال الدين وفتواهم التي تحث على الحرب والقتال ضد كل من يواجه الحاكم أو الخليفة الذي له سلطة مستمدة من الله ، ونحن لسنا في حاجة إلى تأكيد هذه الموضوعه ، لانها جد مشهورة في تاريخ ممالك العرب ، فمن خطاب معاوية يوم الجماعة ، إلى خطاب أبي جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية مرورا بخطابات ملوك ورؤساء العرب في القرن العشرين قبل ثورات الربيع العربي ، كل هذه الخطابات كانت على وتيرة واحدة فكرا ونهجا ، وللأسف نرى أن المثقفين أو كما يحلو للبعض تسميتهم ( بالنخبة ) هم من يؤيدون هذا النهج أو تلك الرؤية في تشكيل الخطاب أو العلاقة القائمة بين الحكام والرعية ، وذلك من خلال تأكيد آراء حاكمية قديمة مرصوصة في كتب التاريخ بطريقة أكثر عشوائية من أي كتب أخرى ، حيث استقى مثقفو السلطة المعاصرة إنتاج فقهاء السلطة في ظروف معينة وأعصر خاصة ، ومن مثل هذه الآراء التي زرعت في مخيال الفرد – العربي من المحيط إلى الخليج هو الولاء والإذعان إلى الحاكم حتى لو جلد ظهرك أو أخذ مالك ، وانطلاقا من هذا التصور غير المنطقي من جميع النواحي، استخلص بعض مثقفي السلطة قديما أحكاما تتلخص في مقولة (جواز الإمامة بالشوكة) هذا المبدأ الأدغالي بالمعنى المفهوم لسلطة الغاب ، الثاوي في كتابات القاضي الماوردي أكبر قضاة الدولة العباسية والذي عاش في القرن الرابع الهجري زمن الخليفة العباسي القادر بالله، ومن بعده ابنه القائم بأمر الله ، هذا الفقيه الحافظ الذي ألّف في فقه الشافعية موسوعته الضخمة في أكثر من عشرين جزءًا.

وعُد من أجل ذلك أكبر فقهاء الشافعية بدون منازع ، يقول في كتاب ” الأحكام السلطانية ” بعد أن بين تعريف الإمامة وشروط تقلدها ، وكيفية انعقادها، وتوضيح العلاقة بين الدولة والإمامة، والعلاقة بينها وبين الشعب،يقول في أثناء هذه البيانات بجواز انعقاد الإمام بالقوة أو الغلبة ( الشوكة ) ، وقد كان وراء اجتهاداته – على ما يبدو – هو علاقته الوطيدة برجال الدولة العباسية من جهة وبحكام بني بويه والسلاجقة الذين تعرف عليهم بوصفه سفيرا للدولة العباسية من جهة أخرى ، وليس من قبيل الصدفة أو المجازفة حينما نعرف أيضا أن في تلك الفترة بالذات – واقصد الفترة التي عاش فيها الخليفة القائم بأمر الله الذي وصل الضعف به مبلغه حتى إنه خُطب في عهده للخليفة الفاطمي على منابر بغداد – كثرت القلاقل بسبب مناداة حكام الأقاليم بالاستقلال والانفصال عن مركز الخلافة .. ما نريد قوله أن الماوردي كفقيه سلطان كان له وجهان أو كما يقال بالعامية ” معاهم معاهم عليهم عليهم ” ، فمع الخليفة العباسي كان ينادي بطاعة الحاكم وشريعيته ، ومع حكام الأقاليم الجدد كان مع جواز الإمامة بالشوكة . هذا التصور المتأثر كما هو واضح بظروف العصر ومناخاته التي قد لا تكرر بحسب مفهوم ( التاريخ لا يعيد نفسه ) ، استقبله الإمام ( أبو حامد الغزّالي ) المتوفى عام 505ه بدون تمحيص في آليات اشتغاله أو النظر في سبب إنتاجه ، ففي رد الغزالي على أئمة الشيعة وخلافه الشهير معهم في موضوعة : هل الإمامة بالنص أو بالأختيار ، قال لهم – فيما معناه – : منصب الإمامة عند أهل السنة بالأختيار وليست أصلا من أصول الدين ، ولعدم وجود نصا صريحا في الكتاب والسنة ، فهي تجوز حتى بالغلبة والشوكة إذا حدث قتال أو فتنة بين المسلمين ، والغزالي بهذا الجواب هو أراد في نفسه دحض حجج الشيعة الإمامية التي طالما تقول بأحقية سيدنا ( علي ) بخلافة رسول الله من أبي بكر وعمر وعثمان مستندةً في ذلك على حديثي ( غدير خم ) و ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ) ، الإ إن الغزالي وقع في إشكالية تحيل بحسب مفهوم الفلاسفة ” بالتعارض التصوري ” أي بمعنى حينما تُعارض أي قالة يجب أن يُضع في الاعتبار مدى تصور قابيلة عدم تعارض القالة المضاد لها ، فهو لكي يُفند قالة الإمامة بالنص بدلا من مواجهتها بآليات التأويل المنفتح المعبر عنها حاليا بلا نهائية النص ، عارضها بقالة مستمدة أساسا من الواقع السياسي الذي حدث منذ تولية معاوية الخلافة ، أي عارضها بتأكيد مفهوم ( إذا كنتم ( روافض ) ، فنحن ( نواصب ) ننصب الإمام بالقوة والغلبة والقهر ، هذا التفكير المتعصب لمذهب السني هو في حقيقة الامر لا يساعد على حلحلة القضية بقدر ما يساهم في تعقيدها ، لو رد عليهم الغزالي مثلا بقوله إن الإمامة ليست منصوص عليها صراحة في القرآن الكريم ، فهي بذلك اختيار و شورى بين المسلمين من منطلق أنتم أعلم بدنياكم ، وطرح جانبا الدفاع عن قضية صدق أو بطلان خلافة ( أبوبكر وعمر ) ، لوفر على نفسه مشقة تأليف عشرة كتب على الأقل في هذا الشأن من جهة ، وتجنب الحث على الفوض والقتال بين المسلمين وفقا لشعار ( من كان منكم الأقوى تجوز إمامته ) من جهة أخرى .

وفي القرن التاسع الهجري عاد ( ابن خلدون ) إلى تأكيد مبدأ جواز الإمام بالشوكة والغلبة ، وعذر ابن خلدون في تلك الفترة كان مقبولا إذ كان بدافع تأصيل الوحدة او التعبئة لها بين الدولايات الإسلامية المتصارعة ، لكن إرث أجداده الذين شغلوا في الأندلس وتونس مناصب سياسية كبيرة كان دائما هاجسه باعترافه شخصيصا في مذكراته التي تحدث فيها عن استعانة أهل دمشق به من أجل التفاوض والسلام مع الحاكم المغولي تيمورلنك الأعرج حينما كان مقربا من السلطان أبي عنان ، وقد شغل قبلها وزيرا عند سلطان بجاية، كما كان من اكبر المساهمين في الدعوة بين القبائل للسلطان أبي حمو الزياني حاكم تلمسان الذي انتهت بارسال أخاه يحي بن خلدون ليكون وزيرا له ، ناهيك عن توليه منصب قاض قضاء المالكية على أيام سلطان الظاهر برقوق لمدة 15 عاما حتى وفاته سنة 808 ه ..

هذه الإحالات والنماذج التاريخية نقدمه هنا ليست بدافع الطعن او التشهير بفيلسوف العرب والإسلام الذي قال عنه ” لينين ” ذات يوم : (ترى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف )، وإنما نقدمها هنا لتأكيد حقيقة واحدة كانت لها الدور الأهم في إنتاج الآراء الفقهية المتعلقة بالحكم والسياسة على الوجه الخصوص ،هذه الحقيقة هي إذعان المثقف العربي منذ أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض إلى أيامنا هذه إلى السلطة الحاكمة ، ومن خلال استطلاع بسيط يقام في الممالك العربية مثلا ، تجد جل المثقفين العرب يتجهون نحو مركز الجابذ ( السلطة ) ، ويهللون لها بالتقديس والتكريم تارة ، وبالدعاية الحضارية والثقافية تارة أخرى ، كأنهم يريدون القول : اسمعوا يا عرب .. الممالك هي المتحضرة والتي تساعد على الرقي والبناء والإزدهار ، أما باقي الأنظمة السياسية كالجمهوري مثلا غير صالحة لشعوب بدوية جُبلت على الطاعة العمياء والتبعية التامة منذ فترة يجهل مداه ..

وتأسيسا على ما سبق يتضح إن معظم الآراء الفقهية القديمة التي تحدد العلاقة بين الحاكم والرعية هي قبل كل شيء آراء استخلصتها عقول بشرية في عصور معينة تختلف من نواح عديدة عن عصرنا الحالي الذي يتميز بإمكانات ورؤى لم تكن متاحه لهم ، وأن الحاكم سواء أكان ملكا أو واليا يجوز الخروج عليه متى أخطأ ، ولا تجوز ولايته بالقوة والردع والسيف ، وإنه غير مقدس لكونه بشرا ، لان الواقع والطبيعية والدين لا يضفي على الرسل والأنبياء صبغة التقديس فما بالك بملوك لديهم شهوة جامحة ، ولذة قد تكون أحط من لذة الحيوان

مقالات ذات علاقة

الحركة لا تتم إلا بالتغيير

منى بن هيبة

التليسي والأعرابي

بدرالدين المختار

الشهيد المزيف

إبراهيم بن عثمونة

اترك تعليق