قراءات

متعة أن تقرأ قصة

الكاتب الليبي الراحل خليفة التليسي
أرشيفية عن الشبكة

لا شك في أنه مفيد إلى مدى بعيد وممتع هذا القص الذي يسير على نسق واحد أو بأسلوب واحد متميز يلاحظه القارئ مع كل قصة من قصص هذه المجموعة التي ترجمها الكاتب الليبي الراحل خليفة التليسي عن الإيطالية وأعتقد أنه أفلح وإلى حد بعيد من خلالها في اقتناص روح النص وقدَّمَ لنا لويجي بيراندللو كما هو تماما في لغته الأصل – أو هذا ما أحس به على الأقل وأوحت إليَّ به القراءة -، وذلك عائدا إلى إجادة التليسي للإيطالية التي ألَّفَ فيها أيضا معجما مهما إجادة كاملة، ففي هذه المجموعة وعلى عكس الكثير من الترجمات الأخرى التي يضيع فيها صوت المؤلف ولا يبقى إلا صوت المترجم، يتماهى هنا المترجم ويكاد يختفي وراء صوت المؤلف القوي والواضح، يتضاءل كل شيء ولا يظل إلا بيراندللو يطل من وراء سطوره ويتقمص أبطاله وشخوصه، ومما لا شك فيه والحال كذلك أن القارئ سيضع ثقته كاملة في هذه الترجمة المتقنة، بعكس بعض الترجمات الموازية للأعمال الأدبية التي ينتاب القارئ معها إحساسا بأن النص قد أُفرِغَ من محتواه أو أن النص تمت خيانته من قبل مترجمه الذي ضيَّع روحه ولم ينقل منه إلا القشور ولم يلامس جوهره، ولكون التليسي أديب وشاعر وناقد أدبي ساعده ذلك في اقتناص روح النص رغم ما في عملية النقل من لغة إلى لأُخرى من خسائر قد تكون كبيرة أو قليلة بحسب مهارة واستعداد المترجم، دعونا لا نذهب بعيدا ونعود من قريب إلى القصص ذاتها، ولثراء لغة التليسي التي كان لها الأثر الواضح في هذه الترجمة المبدعة التي قدّم فيها المترجم بيراندللو كما يجب وبكامل تألقه الأدبي، ويُحسب للتليسي في هذا المقام إلى جانب أنهُ يتحدث الإيطالية بطلاقة أنهُ ضليع في اللغة العربية التي ألفَ فيها معجما مهما وأظهر اهتماما مبكرا بها ليس في مؤلفاته الأدبية فقط بل حتى في مؤلفاته في التاريخ والنقد ومقالاته المختلفة.

سبعة وعشرون قصة متفاوتة الطول ولا تتجاوز أطوالها الخمس صفحات، كل قصة أجمل من التي سبقتها كما يقال في المأثور الشعبي عند التعبير عن شدة الإعجاب، أظهر فيها بيراندللو مهارة كبيرة في القص ونسج الأحداث وصنع المفارقة ورسم علامات التعجب على وجه قارئه.

بيراندللو الحائز على نوبل العام 1934 لا يقص لمجرد القص ولا يبتعد عن البناء التقليدي للقص بمقدمته ووسطه ونهايته وصعوده نحو بؤرة التوتر قبل أن تأتي الأنفراجة أو تتشكل المفارقة بكل حمولتها من الدهشة والذهول والأنتباهة المفاجئة عند وصول القارئ إلى لحظة الضوء والوميض المبهرة للذائقة، وما كان لبيراندللو أن يقص لولا أنه افتُتِنَ بالقص في تقديري واستمتع به كما افتُتِنَ به من بعده التليسي وكما شملتنا نحن الفتنة ووجدنا متعة غامرة في متابعة عملية القص التي تشبه عملية إلقاء حصاة في مياه راكدة لتصنع دائرة صغيرة تأخذ في الأتساع والتوالد إلى ما شاء القدر لها وبحسب مهارة وقوة الرامي في رميته.

المجموعة التي اختارها التليسي وأخضعها للترجمة هي أكبر مجموعة قصصية تترجم إلى العربية – بحسب التليسي – المجموعة التي جاءت في كتاب يقع في مئتان وثمانية وسبعون صفحة وصدرت عن الدار العربية للكتاب عام 1987 في طبعتها الثانية التي اعتمدنا عليها هنا لم يتم تقديمها والتوطئة لها من قبل المترجم ولا من أحد الأدباء المتخصصين في الأدب الإيطالي وكأن مُترجمها أراد لها أن تقدم نفسها بنفسها للقراء الذين ينتمون إلى ثقافة مغايرة فجاءت هكذا كما أراد لها واضعها بسيطة وقصيرة حقا ومحبوكة جيدا وتنم على أن صاحبها ذو خيال صحي وعريض، ونتيجة هذه الخلطة التي ليست معقدة على كل حال هي المتعة التي اقتسمها الكاتب مع كل من قرأوها وخصصوا وقتا للإطلاع عليها، هذا العمل المحفوف بالمتعة منذ بداياته كما يبدو، متعة كتابته ومتعة تلقيه فيما بعد يعد بحق، تذكرة سفر أو جواز مرور إلى الأدب الإيطالي حين مثله أحسن تمثيل وصدّرهُ للآخر المختلف، فلا غرابة في ان يذهب القارئ عقب قراءته لهذه المجموعة إلى البحث عن أعمال أدبية أخرى موازية أو سابقة أو لاحقة لهذا العمل وقبل ذلك لن ينسى بالتأكيد السعي وراء قراءة أعمال أُخرى للكاتب ذاته التي لديه منها مجموعة قصصية بعنوان “قصص بعدد أيام السنة” وكذلك مسرحيات “ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف” و”هنري الرابع” و”ستر العرايا” و”ولكل دوره” و”ليولا” التي انعكست تأثيراتها مجتمعة على المسرح العالمي المعاصر.

كتاب قصص إيطالية.
ترجمة خليفة التليسي.

يأخذنا الكلام بعيدا كل مرة وكل مرة نعود أكثر إعجاباً بالقصص التي لولا المتعة أيضا لما ترجمها التليسي الذي يعد الشغف وحب الشيء مفتاحا للإبداع فيه وتقديم الجديد والمختلف ولأن بيراندللو أحب القصة وأخلص لها بل أنه اشتغل موظفا في بلاطها قدم الفريد والمثير فيها ولأن التليسي أحب القصة والترجمة وأحب الشعر جاءت ترجمته موفقة إلى حد بعيد ولعل أحد أهم أسباب نجاحها في تقديري المتواضع هو تلك الهالة الشفيفة من الشعر التي ظلت ترتسم في أجواء النصوص لا سيما تلك التي كان الريف فضاءها الأرحب ومكانها الأثير الذي تشكلت فيه، ولقدرة بيراندللو العالية على خلق الشخصيات على الورق والتحكم فيها وإدارتها وفقا لخطته في الكتابة والنفاذ إلى سريرتها حتى نظن أنها حقيقية من لحم ودم في لحظة من لحظات القراءة – ينجح بيراندللو في إيهامنا بذلك – لهذه القدرة والمهارة نصيب وافر في عملية بناء القصة حيث لا يترك بيراندللو شخوصه سواء كانت أبطالا أو شخوص مساعدة أو ثانوية كومبارس دون أن يحيط بها ويؤطرها حتى أننا وللمرة الثانية نظن أننا على معرفة سابقة بها.

الغضب والحزن الأشتياق والحب الكُره والفرح هي مشاعر فياضة وقاسم إنساني مشترك أفلح بيراندللو في توظيفها في قصصه لتبدو كما لو انها مشاعرنا الشخصية، والشخصيات هنا تتصرف على سجيتها دون تكلف أو تصنع أو افتعال، شخصيات تغضب وترضى تحزن وتفرح تحب وتبغض بدافع من طبيعتها وفطرتها حتى لكأنها نحن أو كأننا هي، نغضب لغضبها ونحزن لحزنها نفرح لفرحها ونتألم لآلامها، لا لشيء إلا لأن مشاعرها وانفعالاتها صارت معلومة لنا، ويرصد بيراندللو من خلال خيط السرد الرفيع الذي يشد الأحداث إلى بعضها البعض التبدلات المتسارعة التي تداهم الشخصيات من الرخاء إلى الضيق ومن الفرح إلى الحزن ومن الضحك إلى البكاء ومن السراء إلى الضراء وبالعكس كما لو أنها دائرة لا تنغلق إلا بكل هذه الثنائيات المتلازمة، وهكذا حيثُ لا شيء يظل على حاله وحيثُ التبدل أمر حتمي، فكما تهب الحياة تعود لتأخذ وكما تُضحِك تعود لِتُبكي إلى ما لا نهاية.

من عمق الحياة ينتقي بيراندللو شخصياته المتأزمة في الغالب ليعرض علينا أمالها وأحلامها هواجسها ومخاوفها ليعرض علينا عزلتها المتفاقمة ومحنتها، شخصيات طازجة طالعة لتوها من قلب الواقع ومن جحيم اليومي ِّ قد نراها في الشارع أو في أي مكان ولا نرى فيها شيئا غريبا سوى أن قلم بيراندللو يرينا مدى المحنة التي تعيشها الشخوص ويرسم لنا حدود مأزقها الوجودي، وتلك الشخصيات التي تؤثث القصص ليست واقعية مائة بالمائة بالضرورة، أي أنها قد تكون شخصيات متخيلة وغير موجودة في الواقع الفعلي ولكن اللغة الحيوية والسرد المحكم والمشوق يجعلانها شخصيات منخرطة في الواقع بكفاءة بل ومطلوبة، وإن كانت غير موجودة فإننا كقراء نتوقع وجودها ولا نستبعد أن نلتقي بإحداها يوماً ما بل أننا نلتقي كل مرة بما يشبهها في المعاناة ويضاهيها في زخم التجربة الحياتية غير أننا لا نتمكن من كتابتها كما كتب بيراندللو شخصياته التي لو أنه افتراضا جمعها حوله وظل يحاورها بقية عمره لما وصل معها إلى أرضية مشتركة أولاً لأنها تختلف عنه اختلافا جذريا وتنوعها يثبت ذلك وثانيا لأنها ستحاكمه على الزج بها في أتون المعاناة وجحيم المحن دون أن يستشيرها ولو أنه ترك لها الخيار لرفضت لعب الأدوار التي فصّلها عليها، ولا يقتصر الأمر لدى بيراندللو على القص وتشكيل المتعة بل أنه يتعدى ذلك ويبدو من خلال قصهِ المتواتر كمحلل نفسي لديه القدرة على تشريح شخوصه واستخراج أهم ما يميزها نفسيا عن طريق تحليل سلوكها ودوافع تصرفاتها والغوص عميقاً في دواخلها لاستجلاء رغباتها وتلمس مخاوفها الدفينة وترصد تطلعاتها المخبوءة في أقاصيها ومجاهلها وبيراندللو لديه من المهارة ما يؤهله للوصول إلى هذه الأعماق والمجاهل والظلمات التي تنطوي عليها النفس البشرية وتلك خاصية تميز بها القاص صحبة القليلين من القصاصين الذين استثمروا هذه التقنية المهمة في القص والتي إن وجدت في قصة فإنها ستسبغ عليها من الكثافة والزخم الشيء الكثير بعكس من ليس لديهم الوعي الكامل بعملية القص من القصاصين الذين يكتفون بالسطحي والعابر فيما يخص سرائر شخوصهم الذين لا يدخلون معها في مغامرة اكتشاف وحفر، وبقدر ما هي مفيدة القراءة هي ممتعة وجاذية، إذ ثمة قصص بنهايات مفتوحة على التأويل وقصص تنتهي في اللحظة المناسبة حتى أننا نحس بابتذالها وانهيار كل ما سبقها لو أن القاص أضاف إليها كلمة واحدة بعد نقطة النهاية، هذه هي قصص بيراندللو.

وفيما يخصني تعد هذه القراءة للمجموعة القراءة الثانية أو القراءة الأستعادية، إذ سبق لي أن قرأتها منذ عقود ولكل قراءة مذاقها فللقراءة الأولى نكهة البدايات والأكتشاف والدهشة البكر وللقراءة الثانية ترويها وهدوئها ونضوجها وبالتأكيد متعتها التي لن تنقص منها كوني قرأتها سابقاً، سيما وأنني لم أتسرع في القراءة ككل مرة وأقرأ على مهلٍ كما يقال لأنني خصصتها لأوقات الأنتظار عندما وضعتها في السيارة وبين المشاوير المتعددة والتي لا تكاد تنهي أختلس لحظات للقراءة وأستثمر فترات انتظار خروج أبني من المدرسة أو مشاوير التسوق التي أحس بأنها ثقيلة عليً بهذا الفعل القديم الجديد والذي أعتقد أنه الشيء الوحيد الذي أُجيده وأبرع في اختياره كل مرة فغالبا ما تكون اختياراتي مُخالفة للصواب إلا فيما يخص القراءة التي رافقتني أزمانا وأزمانا تغير فيها المرء من حال إلى حال، ترك عادات واكتسب أخرى جديدة وسقطت منه اهتمامات في مسيرة عمره وتبنى أفكارا مغايرة فيما بقيت هذه العادة عصية عن التبدل وعن الأفول، وبذات الشغف الذي بدأت به هذه العادة أو الهبة أقرأ اليوم وأستمتع رغم أنني لا أندهش كما في السابق وأصبحت أكثر موضوعية وعقلانية وابتعدت عن الرومانسية بقدر، ألا أن المتعة ظلت سمة أساسية في قراءاتي وأعتقد أنها ما يدفعني في كل مرة لأن أسحب كتابا أو عملا أدبيا من أحد الرفوف وأنهمك في قراءته كما لو أنه أول وآخر عمل أقرأهُ.

مقالات ذات علاقة

السلام على منصورة

يونس شعبان الفنادي

راهن الروائية الليبية: يقظةُ نفوسٍ مقهورة

فاطمة غندور

فلسفة الشعر عند محي الدين محجوب

سالم أبوظهير

اترك تعليق