قصة

ما حدث بالتفـصيل

التقيت به مرة أخرى.. كان أشدَّ نحولاً من المرة السابقة.. وجهه مظلم، ليس لأن الشمس لوحته، بل لأنه يعكس ما في داخله، شعره مرتبٌ ومسرحٌ إلى الخلف ويبدو -من شعيرات كثيرة ملتصقة بخيط من العرق يسوّد حافة ياقة قميصه- إنه قد قصه للتو.. عيناه غائرتان ومضطربتان ونظرته مشتتة وقاسية.

كانت السماء ملبدة بالسحب والريح تهب بقوة، والمدخل مزدحماً وصاخباً بالضجيج حيث تختـلط أصوات الشباب والنساء بصراخ الأطفال وأصوات السيارات العابرة.. رأيته يمشي وسط نهر متدفق من الأجساد وسيجارة مطفأة تتدلى من زاوية فمه اليسرى، حدق كل منا في عين الآخر مباشرة فحياني برفع حاجبيه، ثم اختفى وسط دوامة الأجساد المحتشدة.

حينذاك كنت أمضي سحابة يومي في حديقة الحيوان، جالساً على مقعد خشبي، مستغرقاً في تأمل كائنات تعبر عن وجودها بالدوران حول نفسها، والتململ والتحديق ببلاهة في كائنات تتطلع إليها، ظاهرياً أشبه غيري. لكن في أعماقي كنت مثلها، أدور حول نفسي، وأتململ وأحدق أيضاً في من يتطلع إليَّ. وبينما كنت أراقب أثر الانفعالات على أسد استفزته مجموعة من الأولاد، كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة.. وتناهى إلى سمعي لغط رجلين جلسا على مسافة وطفقا يتجادلان حول كرة القدم، وحينما كان لغطهما يعلو، مرّ فجأة من أمامي وسار خطوتين تقريباً، ثم وقف حتى لامس كتفي كتفه وأخذ يمشي معي وبعد فترة صمت قال:

– لنذهب، أكاد أختنق هنا.

جلسنا في أول مقهى صادفنا، طلب قهوة، وظل جالساً وهو شارد يفكر في شيء ما، يلف بين أصابعه سيجارة وأخيراً أشعلها وقال:

– حين وقفت إزاء تمثال الفتاة، وأمعنت النظر طويلاً في ملامحها الخلاسية أحسست بأني خفيفٌ رشيقٌ دافئٌ كما لو أن شمساً أشرقت في قلبي بعد أيام مطيرة وباردة.. في ذلك الصباح هاجت في نفسي ذكريات بعيدة، حتى شعرت كما لو أني “كمال” الذي كنته يوماً ما، حين لمحتها غارقة في تأمل التمثال، سيطرت عليّ طريقتها في التأمل فبادرتها بسؤال:

– لماذا الجسد في الفن مفعم بالحياء والنقاء ؟

نظرت إليَّ طويلاً ثم التهمت التمثال بعينيها قبلَ أن تنظر إليَّ مرة أخرى وتذهب.

عاد التعب مرة أخرى.. وألقوني في مصحة كريهة سيطر فيها عفن الدواء والبول على روائح الذكريات.. وما كان يدفعني إلى الصراخ ومحاولات الانتحار، تلك الريح القذرة التي كانت تداعب شعري وأنا أحاول أن أجمع ملامحها على اللوحة كأجزاء لغز مهشم، كنت أشعر وكأن في كل جذر شعرة دودة تنخر مخي.

كان يتكلم طيلة الوقت دون أن ينظر إليَّ، وفجأة رمقني بنظرة خاطفة ومكث هكذا لا يحرك ساكناً ثم احتسى قهوته واستأنف قائلًا:

– حياتي مؤلمة، وإذا جمعتها تتحصل على كولاج من العفن البشري.

كنت أستمع إليه بلا حركة، وأنا على وشك أن أسأله عنها، لكنه مد لي سيجارة وأشعلها وأستف نفساً عميقاً وقال:

– تحطم تمثال الفتاة بقادوم كبير، وألصقوا التهمة بي، ثم وجدوا الفتاة مقتولة بعشر طعنات في جزئها السفلي واتهموني بقتلها.. ودليلهم الهش نسخٌ مبعثرة من كتاب برغوي قاتل البنات.

وقف ونظر إلى الطقس في الخارجينذر بالمطر، إذ يسمع زئير رعد بعيد.. رمق الرواد الذين أخذوا يبرحون المقهى قبل الأوان، ثم جلس وقال:

– لست أنا صدقني.. إنهم هم.. ليذهبوا إلى الجحيم الآن.. وليتركوني وشأني، اصعد مرتفعات الحياة الوعرة بمفردي، هائماً على وجهي ككلب نخر الدود أذنيه، مصطدماً بلا اكتراث بعيونهم المدجنة المهزومة، ورؤوسهم الغائرة في أعناقهم، إنهم هم الحثالة الذين لا يعرفون شيئا سوى نهش بعضهم البعض، والخاسر يمسح مؤخرته بيده ويهرب.

وضع إصبعه الصغرى في كوب القهوة، ولعق رغوة الحليب ثم امتص إصبعه وقال:

مرة كنت جالساً في مقهى وطلبت قهوة بالحليب، زمت النادلة شفتيها ونعبت:

– نبيع قهوة فقط.. وذهبت

غرقت في ضباب أفكاري هنيهة ثم صرخت:

– أين الحليب..؟

عادت مسرعة وفتحت أزرار قميصها العلوية، أخرجت ثديها وسكبت قطرتين في الفنجان. تغير طعم القهوة وأصبح كمذاق السياسة.. قمت وأفرغت محتوى الفنجان على المنضدة وناولتها نصف دينار، سحبت سحاب بنطالها ووضعته هناك، وطرحت نفسها أرضاً فاجتمعوا حولي وضربوني..!

وحدث مرة أخرى أن كنت في مطعم البرق وكان مزدحماً عن آخره والضجيج كما لو كان نملاً يمشي على حبل أعصابي المتوترة طلبت لحم رأس مشوي فتأخر الطلب.. كانت الطلبات تتردد من نادل إلى آخر، والصخب يزداد انفجاراً ويزداد الطنين في رأسي. روائح البطاطس المقلية والعصبان والدجاج المشوي تختلط برائحة المطعم العطنة.. رفعت رأسي فواجهتني مروحة معلقة في السقف يلطخ أذرعها براز الذباب وهي تدور محدثة صريراً كتكسر العظام.. تناولت من جيبي علبة السجائر وقبل أن أشعل واحدة سقطت من يدي وسط الأوراق وأعقاب السجائر. نظرت بتركيز إلى صورة امرأة تكشف عن منبت نهديها مثبتة على مرآة كبيرة، وجهها شاحبٌ وكأن ألماً في قلبها. أناس يخرجون وآخرون يدخلون، وجوهٌ مرعبة.. أطفالٌ ذبلت ملامحهم قبل الأوان.. نادل بذراع واحدة يحرك كبداً مشوية.. آخر بلحية قذرة يدخل أسياخ السجق، وفجأة وسط الزحام الشديد فقدت السيطرة على نفسي، واستولى عليَّ دوارٌ غريبٌ وما أتذكره الآن رجلاً مسناً شوَّهَ وجهه البرص، كان يلتصق بي، عبَّ زجاجة بيبسي وهو يسعل سعالاً حاداً ثم اندلقت من بين شفتيه كتلة مخاط مصحوبة بدم وقعت على ظاهر يدي، تناولت آخرَ منديلٍ في العلبة ومسحتها وانتشر بعد ذلك خبر وفاته مسحولاً بالأقدام.

أشعل سيجارة وأبقاها منتصبة على المنضدة وقال:

– لست أنا. أليس كذلك ؟. لكن لماذا ألصقوا التهمة بي.

ثم دنا مني وهمس:

– حسناً، ذات صباح ماطر دخلت الفندق الكبير فعاملني العامل بقسوة، وادعى أن ثيابي وسخة قذرة، أمسكت بنفسي من خناقها كي لا أرتكب حماقة، لكن واجهة الفندق تحطمت.. أحزر ماذا فعلوا ؟ مشطوا الشوارع شبراً شبراً حتى عثروا عليَّ واحتجزوني لأيام.

سكت وعبس وراح يجعد علبة السجائر بيديه، ثم فجأة هبَّ واقفاً خلع معطفه وألقى محتوى فنجان القهوة في وجهي وصرخ:

– خذ. اشرب قهوتي يا رجل.

ثم جلس ودخل في نوبة ضحك طويلة وقال ضاحكاً:

– ترفض أن تشرب قهوتي يا رجل. سامحك الله، لست مصاباً بذات الرئة.

ارتدى معطفه وأردف:

– لكن من يراني يدعي بأني قمت بأشياء سيئة.

وأخذ يضرب مسند الكرسي بقبضتيه حتى فصله ثم وقف وقال:

– انظر، لو قمت بضرب إصبعي في إست النادل البدين هل تعدُّ ما سأقوم به منافياً للأخلاق ؟. أو أن أمسح واجهة المقهى بهذا المسند، انظر.

وهشم الواجهة، ثم توجه نحو رجل دخل المقهى وغرق في دخان سيجارته فأوسعه ضرباً بالمسند شجَّ رأسه وانبثق دمه، ثم راح يذرع المقهى بخطواته الواسعة وهو يركل ما في طريقه ويهوي بالمسند على الذين يحاولون الاقتراب منه وهو يضحك ويصرخ:

– اشرب، القهوة على حسابي يا رجل.

وضعت ذراعي في الجبس لأسبوعين وحين شفيت قدمي وتمكنت من المشي ذهبت إلى زيارته في المصحة. قال الموظف وهو يعطيني ظهره:

– لقد مات مصعوقاً بالكهرباء آو بالأحرى قتل نفسه بنفسه.

مقالات ذات علاقة

إذاعة صوت القلب

صفاء يونس

الدالـيا.. قصة معاناة ليبية – ح 1

حسين التربي

جنية “دزيرة” الملوك

محمد دربي

اترك تعليق