المقالة

ما الذي تعنيه الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ؟

بسبب انشغاله بالجروح النرجسية والشروخ الكيانية التي تعانيها الثقافة الغربية، وتركيزه عليها، لم يعط مقال (حين تكون.. الأنا.. نية سيئة) التفاتا كافيا لتمحور الثقافة الغربية حول وثن.. الأنا.. الغربية، المعبر عنه .. بمبدإ الفردية.. الذي لا يستعصي استشفاف عرجه وانحرافه من خلال العديد من الأفكار والشعارات التي اعلنها بعض من مفكري الغرب وفلاسفته، كمثل قول هوبز: – (الإنسان ذئب الإنسان) وإعلان سارتر (الآخرون هم الجحيم)، وكذلك عبر تشاؤم شوبنهاور وعدمية نيتشه وعبثية البير كامو، ناهيك عما شهدت كبرى عواصم الغرب في ستينيات القرن الماضي من أصداء لتلك الأفكار من احتجاجات شبابية ومن ظهور عديد الصرعات المعبرة عن الرفض لواقع الغرب وثقافته تمثلت في استشراء البوهيمية وغيرها من حركات التعبير عن ذلك الرفض مثل الحركة الهيبية التي رفعت في مقابل تغول تلك الأنا شعار.. اصنعوا الحب لا الحرب.. ويجئ الإصرار على تاكيد القول بعرج مبدأ الفردية الغربي بالعرج من واقع ما اقترفه ذلك المبدأ من تغريب للإنسان عن الإنسان.. نفسه والآخر.. وذلك من خلال فصمه للأواصر الإنسانية الجوهرية والأساسية والتي لا يتحقق بدونها ارضاء نزعة الإنسان الفطرية إلى الإجتماع والإنتماء، من مثل علاقات الأسرة والقرابة والجوار، واستبدلتها بعلاقات المصلحة التي شيأت الإنسان وحولته إلى سلعة تنحصر قيمته فيما يملك وجعلت منه ترسا في آلة الإنتاج الإقتصادي، ذلك الواقع الذي لم يعد.. بفعل المد العولمي الراهن.. محصورا في الغرب، بل امتد كوباء ثقافي وحضاري وأدواء نفسية واجتماعية وأخلاقية ليطال كل المجتمعات ويحدث آثارا فيها، وذلك كاف ليجعل من الإنتباه إليه ومواجهته واجبا عينيا على كل إنسان، خصوصا وأن العولمة لاتكتفي بوضعه في مواجهة الفردية العرجاء، بل تصر على أن تحشره بينها وبين ما يحمله من مكونات ثقافته الإجتماعية والدينية والأخلاقية الخاصة من مبادئ وقيم ومواضعات وأيديولوجيات لا تتوقف عند رفض الفردية، بل تنكر على الإنسان أدنى حق في الإستقلال.. إن في وعيه أو في سلوكه.. ولا تعتد به أو ترى له اعتبارا إلا منضويا تحت جناح عشيرة أو فئة أو طبقة أو أيديولوجيا، لتطحنه بذلك وتمزقه وتضاعف من آلام اغترابه وضياعه، وتلك وضعية اذا بدت أشبه بحالة برزخية بين طرفين متناقضين، فإنها في الواقع تجل لجحيم ذانك الطرفان معا، جحيم يزيد من أواره أنه حصار بين نقيضين لا يمكن التوفيق بينهما، ولعل فيما نطالعه وما يثيره بعض الأغرار المنبهرون ببهارج الثقافة الغربية وشعاراتها البراقة من صخب أجوف لا يتفق حتى مع ما يتتكئون عليه من تلك الشعارات الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان ولا يبرر ما يدعون إليه من إنحلال وابتذال تحت تلك الشعارات من مثل الدعوات الإباحية والمطالبات الصفيقة لشرعنة المثلية وتقنينها، والمزاعم الإلحادية الإستعراضية، وتلك أمور لا يتوقف أثرها عند حدود ما تثيره في النفس من شفقة على أصحابها وما تدعو إليه من سخرية واستخفاف بهم إلى التأثير فيمن لا يختلفون عنهم كثيرا من حيث السذاجة والرحالة الفكرية، ليس إلا تجسيدا لحال من يحاول الخروج من تلك الوضعية واستجارة من الرمضاء بالنار، بحيث لايعود أمامه من خيار غير أن يستسلم لحصاره المشرع على كل احتمالات الضياع والاغتراب وفقدان معاني وقيم وجوده وحياته، أو أن يبحث جادا عن مخرج له من تلك المتاهة.

والواقع أن بحثا بهذا المعنى لا يبدو ذَا حظ من جدوى إلا أن يجئ في إطار الثقافة الخاصة التي يتجذر فيها الباحث نفسه، بمعنى أن جدوى بحثنا لا تبدو ممكنة إلا بانطلاقه مما ندعوه ثقافتنا العربية الإسلامية، التي لانجد خطوة في ذلك الإتجاه أكثر سدادا من.. الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، والتي رغم نبل الدافع الكامن وراءها وسمو قصدها تخفق في إصابة الهدف الذي أرادت أن تصيبه، لا لشئ إلا لأن الخطاب الديني ليس في حاجة إلى تجديد بأي معنى ووفق أي مفهوم، فلن نجد فيما ندعوه ثقافتنا العربية الإسلامية ولا في أية ثقافة غيرها أكثر جدة وحيوية وحداثة من قول الحق تعالى ( إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر – 9 – و ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) البقرة – 254 – و ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) المائدة – 4 – إنه ليس خطابا منغلقا على نفسه ولا متحوصلا حولها.. بحيث لا يرى أو يستوعب ما يجاوز غير ظروف الواقع الذي شهد بداية تجليه وأول إعلان له عن نفسه، مما يضطره إلى حملها في تحركه في إطار الزمان والمكان ليحلها في لحظة مستقبلية يبلغها، بل أنه يجاوز حدود الزمان والمكان معا وينفتح افقه رحبا ليحضن الأبد والمطلق، وذلك بحكم طبيعة منظومة المبادئ والقيم التي يتأسس عليها، والمؤهلة دون غيرها من المبادئ والقيم لإنتشال كل لحظة تتحقق فيها من أسن وموات الزمن الذي لا يحظى بذلك التحقق، والتي يمكننا أن نستدل على ملامحها في فترات الإنحطاط والتراجع والإنحسار الثقافي والحضاري في تاريخنا العربي الإسلامي، مثل سقوط الأندلس والظروف والأحداث التي هيأت له وفترة الاستعمار التركي والإستعمار الحديث وواقعنا المعاصر بما شهده ويشهده من أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية تجسد التخلف وترسخ جذوره في واقعنا وحياتنا ونفوسنا كذلك، ومن بروز لصيغ ثقافية وفكرية شائهة تدعي زورا أنها تجسد الإسلام وأن ما يصدر عنها هو وحده الخطاب الديني الحق، وهي على أي حال تفتقر السند من الدين ومن العقل أيضا، ولعل أبرز ما يكشف زيفها وتهافت ما تدعيه، قصورها عن استيعاب عن استيعاب الوجود والحياة الإنسانيين، وعجزها عن التعبير عنهما والإفصاح عما ينطويان عليه من المبادئ والقيم السامية وذلك بمقابل ما بمقدور الخطاب الديني الحق من الاستيعاب والافصاح اللذين يتيحان للوجود والحياة بلوغ أقصى تحقق لهما من خلال المعنى يضفيه عليهما ليحرر الإنسان من ثم من أسر الراهن قيود الزمن ويسمو به إلى آفاق تتجاوزهما وتسموا بهما، وتلك هي آفاق المعنى الوثيق الصِّلة بالمطلق والمقدس الحقيقي، وهو معنى يتعذر بلوغه وتحقيقه اللهم إلا من خلال منظومة المبادئ والقيم التي يتمحور حولها الخطاب الديني الحقيقي، وهو كذلك المعنى الذي تقصر دونه كل الخطابات المذهبية والطائفية التي لايجاوز طموحها وإمكانياتها محاولة تجيير الدين لمصالحها ومصالحها المحصورة في آفاقها الكامدة والخانقة، وذلك من خلال إفراغ خطابه من دلالاته الحقيقية وتحويله إلى مجرد شعارات جوفاء.

ووفقا لهذا الفهم فإن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني هي دعوة.. ودون إغفال نبل مقصدها وسموه.. غير ذات معنى، وإن لم يكن بد من تبرير لهذا القول، فليس غير التأكيد على أن خلطا.. ينبغي الإنتباه إليه.. بين الخطاب الديني الحقيقي الذي هو خطاب واحد ووحيد، وهو تحديدا ذلك الذي يخاطب الإنسان منذ مستهله ( إقرأ بِسْم ربك ) وبين خطابات إن لم تزعم أنها هو فلا أقل من تدعي صدورها عنه، هو ما جعل تلك الدعوة تخفق في إصابة هدفها، إلى ذلك فإن للحق وجه واحد لا يطاله أثر الزمن ولا خطوبه ولكن لا عداد ولاحصر لوجوه الباطل وأقنعته، وتلك حقيقة تبرر القول بصدور كل الخطابات تتمظهر بمظهر الخطاب الديني الحق عن نوايا أنوية استحواذية تهدف إلى التمكن من الخطاب الديني وتجييره لمصالحها الخاصة التي يجئ إستعباد الإنسان الذي هيأ له ذلك الخطاب كل إمكانيات التحرر وإذلاله والتسلط، وفي ذلك معنى أن تكون.. الأنا.. فردية مجسدة في فرعون أو طاغية ما، أو متورمة إلى.. مذهب أو طائفة أو أيديولوجيا.. نية سيئة. الأمر الذي ينفي الاعتقاد بحاجتنا إلى تجديد الخطاب، في مقابل تأكيده لحاجتنا الفعلية والملحة إلى إعادة قراءة ذلك الخطاب وفق المنهجية التي يتيحها لنا منذ مفتتح الوحي القرآني.

مقالات ذات علاقة

ما فعل السفهاء بنا

سالم العوكلي

معاقل تعذيب الأطفال في ليبيا

محمد علي المبروك

سرقة الإعلام الليبي

المشرف العام

اترك تعليق