تراكم وحشد - من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.
قصة

ليبوفوبيا ( الخوف من الليبيين)

كنت تخاف الجن، إلى أن اكتشفت خوفاً أعظم من ذلك.

تراكم وحشد - من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.
تراكم وحشد – من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.

اعتدت في صغرك على أن تخشى تلك الكائنات الخفية التي تتطلع عليك حيث كنت، تنتظر فرصة الاقتناص منك،  ولا تعرف أين تختبئ، كنت دائماً ما تبحث عنهم في الزوايا والظلمات لذلك كنت تخشى الزوايا، وكنت تخشى الظلمات، لا تنكر ذلك… لازلت تتذكر القصص التي يحكيها لك جدك في مغامراته مع الكائنات الأسطورية تحت شجرة النخيل القديمة والقمر ينثر ضوءاً خفيفاً على الجريد، كنت تحاول جاهداً أن لا تنظر نحو النخلة لتكتشف الأعين الحمراء تحدق فيك، اعترف أنّك كدت تهلك نفسك خوفاً، هل تتذكر؟ أنا أتذكر، لقد كنتَ في السادسة عشر عندما اخترق الظلام رهبتك وأنت تعتقد أن الكائنات ستتلبسك تلك الليلة السوداء، اجتزت البئر القديمة حيث الحكايات التي تقول أنها دائماً عندما تغرب الشمس تصدر عويلاً لرجل قد مات فيها أو لروح عتيقة تتلبسها، كان البوْل وسط ارتعادك قد بدأ ينزل وأنت تتحرك لوحدك في الجنان الخلفي لمنزلكم عندما شعرت بأن أحدهم يلاحقك، احسست بأقدامه، بدفء هالته في برد الليل، أصبحت خطواتك أسرع، لم تكن تدرك أنك كنتَ تحمل سفرة من كيسان القهوة والمياه لوالدك نحو المربوعة عندما كنت تجري خوفاً ليسقط كل شيء أمامك، تنزلق، وتنكسر المكونات لتحرق يديك بالقهوة الساخنة، وتدخل القطع الخزفية والزجاجية في جسدك، لقد آذيتك مؤخرتك وظهرك ولازالت علامات العملية الجراحية مرسومة فيهما.

كان ذلك زمن كنت فيه تخاف من ظلك، لكن الآن عندما اكتشفت الكائن الذي عليك حقاً أن تخافه، أن ترتعد منه…. أن تقتل نفسك قبل أن يقترب منك، الآن أصبحت تدرك أن كل مخاوف الطفولة من الجن، الكلاب، القطط، الله، الشيطان، الجحيم، الظلام، الإبر، المستشفيات، المرض وما تبىق من الأمراض التي أصبت بها؛ لا تساوي خوفك من هذا الكائن، إنك تراه….إنه يراك، إنك تحتك به أيامك كلها؛ إنّه الإنسان، الإنسان الليبي لنكون واضحيْن.
منذ أن اكتشفت هذا الخوف العظيم وأنت تتخبط في بارانويا يومية تكاد تخنق أنفاسك، العرق لم يغادرك لحظة، الأرق، الإحساس المثقل بأنك في أية لحظة يمكن أن تنتهي حياتك بسببه، إنه يمكنه أن يتقلك بكلماته، بنظراته، بملامسته لك، بأسلحته، بسجونه، بماله، بكل ما يملك ويفتخر به في هذه الحياة، وأنت لم تكن يوماً ذلك الشخص الذي يمكنه حقاً أن يؤثر في مسيرة المجتمع أو يشكل نوعاً أو فكرةً من خطر على حياة أحدهم، تعلمت أن تلتصق في الحائط، لا تعارض، لا تتحدث، لا تفعل أي شيء يمكنه أن يجعل عين المجتمع الذي يحيط بك تسلط عليك، سبحت دائماً في مجرة الوقت تلتفت لكل نفس، بؤبؤك كان منفتحاً كأنه سينفلت من جمجمتك دائماً، يداك دائماً على صدرك تحاولان أن تسكتا النبض السريع لفؤادك، شعرك المنكوش يزداد اضطراباً عندما تغصبك الحياة للخروج من شقتك فقط لتجري وراءها.

تستيقظ صباحاً مهلوعاً، تجري وراء النافذة لتراقب إن كان ثمة من يراقبك، تبحث في الشقة  عن قطعة قد حُرِّكت من الأثاث الذي تصفه كل ليلة لتعرف إذا ما دخل أحدهم في نومك أم لا، هذا إن حظيت بالنوم حقاً، أحياناً كان النوم أبعد أصدقائك معرفةً بك إلى أن يغافلك الأرق والتعب فتسقط نائماً في إحدى زوايا المكان، تتحرك لتتأكد من الأقفال التي وضعته على الباب، تنتابك راحة تشعرك بلذة، كانت تلك أفضل لحظات حياتك، تتمشى نحو الحمام لتغسل وجهك، تحدق دائماً في المرآة فأنت لا تريد أن يغافلك أي أحد، كنت تغسل وجهك بطريقة مضحكة، تحرك الشيشمة وأنت تنظر إلى المرآة، تحرك يداك تحتها حتى تلامسان الماء، ثم ترفعهما ببطء وأنت لازلت تحدق في وجهك وتغسل بوجهك بسرعة…تلك هي أضعف اللحظات، أنت تعرف أنّ الحمام هو أسوء مكان لك؛ كان كذلك عندما كنت تخاف من الجن؛ إن الجن يسكن الحمامات، المراحيض والمجاري؛ هكذا علموك…ولكنهم لم يعلموك أنّ أغلب الجرائم السينمائية تحدث في الحمام، تعلمت ذلك لوحدك: الحمام، الطريق العام، السيارة، الطرقات الخلفية، المكتب والمقاهي هذه أخطر الأماكن بالنسبة لك، عندما تنهي المهمة…. تتناول وجبة إفطارك صحبة الهدوء، وتفكر أنه عليك حقاً أن تبقى في المنزل لهذا اليوم، لقد تعبت من كل تلك المشاوير الخارجية، العمل، الحياة اليومية، فكرت مراراً كل ليلة أن اليوم التالي هو آخر أيامك في العمل ولكنك لازلت تتحلى ببعضٍ من الشجاعة للخروج، تقف لربع ساعة أمام الباب تحاول أن تقنع نفسك بعدم جدوى الذهاب للعمل، لكنك ستموت جوعاً تقول، تحدثك نفسك أن الموت جوعاً أفضل كثيراً من الموت بسبب أحد مكونات المجتمع الذين ينتظرونك خارجاً: إنّهم متوحشون، قتلة، ممثلون، همج وينتظرون حقاً أن يقتنصوك.

ثم تشغل محرك السيارة، تربط حزامك، تراقب المرايا الثلاث، وتنضم لزحام الطريق، لا تتلفت يميناً أو يساراً، عيناك على الطريق أولاً ثم على المرايا وعندما يساورك الشك أنّ سيارة ما تلاحقك، تغير طريقك، تدخل الشوارع المليئة بالعاطلين عن العمل، الواقفين على الزوايا، العجزة والأطفال، تحاول قدر الإمكان أن لا تقلق راحة يوم أحدهم، تصطنع الابتسامات الموارية عندما يمر أحدهم أمام سيارتك يحدق في وجهك بعبوس، تصطنع البراءة عندما يحاول مجموعة من الأطفال المشاغبين اعتراض طريقك واللعب على سيارتك، إنّ المكابح هي صديقتك، وعليك أيضاً أن تراقب الشوارع وأن لا يتضح عليك أنك تراقبه في الوقت نفسه، الوحوش….الوحوش يحيطون بك، عندما تصل إلى المكتب تحمد الله قليلاً على سلامتك، لأنّه الآن عليك أن تتعامل مع وحوش أقل حدة من وحوش الشوارع، إن زملائك يملون عليك الأسئلة والكلمات والابتسامات المزعجة، لا أحد يدرك منهم فرحتك عندما تجلس على مكتبك الذي يحميك الحائط المواجه لظهرك، تلهي نفسك بالعمل والأوراق والحاسوب حتى لا يقوم أحدهم بمقاطعتك، لقد تعلمت دائماً أنّه عليك أن لا تظهر للوحوش خوفك منها، إنها تشتم رائحة الخوف، الجن يشتم رائحة الخوف وكذلك هؤلاء، ارتباكك في الحديث معهم قد يدل على أنك خجول ولكن يجب أن لا يدل على أنك جبان، هل تتذكر تلك المرة التي ظهر فيها خوفك؟ عندما رأيت المدير واقفاً أمامك بعينين حادتين وبنية في العراك، كان يؤنبك أو شيء كهذا، لكنك لم تسمع كلماته، كل ما سمعته هو زئيره وكل ما أحسست به هي تلك الرعدة التي جعلت يداك ترتعشان، كان واقفاً أمامك مزمجراً بربطة عنقه وملابسه الإفرنجية ووجهه المحروق، كنت تشعر بيدك المحروقة وتحكها كأنك تستذكر تلك الذكرى الأليمة، أردت أن تهرب لكنه كان يحاصرك، أردت أن تدفن رأسك في خشب المكتب حتى يختفي صوته لكن الخشب كان عصياً عليك، كدت أن تقول له: إنني أستقيل… لا يمكنني أن أحتمل المزيد، توقف رجاءً، توقف لقد تعبت من التمثيليات التي تظهرونها، تعبت من الأوامر، تعبت من أن أشعر بأنني مستضعف في هذا المكان، تعبت….تعبت! لكنك، لم تحرك ساكناً، كانت يداك قلقتان فقط، وكان وجهك يصبح أكثر شبهاً بالطماطم وكان العرق يمكنه إذا استمر أن يملأ حوض استحمام، وعندما غادرك تحركت مسرعاً نحو الحمام لتبول. إنّ حالتك هي عذاب أليم.

لكن كل ذلك يعتبر لعب أطفال أمام الحادثة التي جعلتك حقاً تستعمل كامل حواسك لتنقذك ولتنفذ بجلدك، قل لي: ما شعورك الآن وأنت مقرفص في زاويا من زوايا غرفة نومك لساعات؟
لقد كنتَ تتخذ طرقاتك الاعتيادية للخروج من أرق الحياة نحو الحوش، تنتابك ذكرى والديْك والمشعوذ الذي قال لهما أنك جناً قوياً يتلبسك، لابد أن أحدهم قد ألقى تعويذةً عليك، وذهبا بك إليه ليجدا الحل، أشياء غريبة رأيتها وسمعتها في ذلك المكان القديم المبني بالطوب كحوش جدك، رائحة البخور، الدم والدجاج والماشية والقطط التي تقطنه صحبة ” الشيخ” الذي ظل يحرك لسانه بكلمات من القرآن مخلوطة بكلمات غير معروفة يحاول فيها معرفة ما يحل بك، قال بعد أن قام بحركاته: إنّه ملبوس… بأحد الأسياد، يسمونه ” الخوّاف” لأنّه كان يهرب منهم جميعاً خوفاً، والآن تلبس ابنكما ولا يريد الخروج حتى لا يمسكون به، الأمر معقد… لا أعتقد أنه سيخرج لكنني سأحاول معه، وبعد جلسات وجلسات قال الشيخ: لا فائدة… ستتطور حالته عن قريب، تعود بك الحياة لمجاريها عندما ارتطمت قطة ما في طريقك بسيارتك، لم تفلح المكابح فدهستها، اكتشفت أنّك قد انحرفت على الطريق التي تتخذها لتجد نفسك أمام نقطة تفتيش أمنية، كنت دائماً ما تتحاشى نقاط التفتيش، إن بها أسوء الليبيين هكذا سمعت في المواقع الإلكترونية التي تتصفحها في الانترنت، قصص رهيبة سمعتها عن هؤلاء وعن غيرهم من حملة السلاح…. تناسيت أمر القطة، وجدت نفسك في زاوية ضيقة. أوقفك الفتى حامل الكلاشنكوف، كان يرتدي سروال جينز، شعره مشعث، لحيته كانت تحاول أن تخرج بأي ثمن لكن بدون فائدة، يمشي على فردتي الشبشب وموجها السلاح بقربك آمراً إياك بأن تفتح النافذة: من أنت؟ من أين أتيت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ما الذي تحمله في السيارة؟ هل هي ملكك؟ أين هو مسقط رأسك؟ هل تعرف فلان؟ هل هنالك أية ممنوعات؟ هل تحمل سلاحاً ما؟ كان يملي عليك سيلاً من الأسئلة دون توقف وكنت تجيبه مرتعداً، حتى توقف قليلاً عن الحديث ليشتم مابداخل صندوق السيارة، عاد إليك ليقول لك: اركن سيارتك يميناً…إن هناك أمر ما فيها، أشعلت سيجارة، كنت لا تدخن إلا حينما يساورك القلق، دائماً ما كنت تفعل ذلك، الآن يداك خرجتا عن سيطرتك وكانت السيجارة ترقص في الهواء بين إصبعيك، أخبرك قائلاً: ما بك؟ لماذا ترتعد؟ لاحظ انفعالك، رفع السلاح نحوك…ازداد خوفك، ازدادت نبضات قلبك ثم صاح في أحد زملائه ليساعده في قضيتك، كان يصيح فيك بأن تبقى بالسيارة حتى يأمرك هو بالخروج وينتظر زميله ليقترب، كنت هلعاً.. بدأت تتمتم بكلمات من قبيل ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وتقرأ آيات من القرآن، تلك الحلول التي تعلمتها عندما ينتابك الخوف من الجن ولكن، كان جسمك ينتفض داخل السيارة وتحاول أن تدفن وجهك في المقود وهو يهددك، نظرت إلى مرآة السيارة ورأيت صديقه يقترب، كان أكبر…أكثر توحشاً، تذكرت مديرك بالعمل، الرغبة في الهرب الشديدة التي كانت تواجهك وهو يصيح في وجهك، فجأة دون أن يكون لك أية قوة قررت قدمك أن تضغط على البنزين وتحركت السيارة بسرعة، كدت تموت مرة أخرى… اخترقت الرصاصات زجاج السيارة ولكن سرعتك الجنونية كانت في نجدتك، لم تكن قادراً حقاً على معرفة ما يجري، كأن شخص آخر يتحكم بتحركاتك، كدت ترتطم بسيارة أخرى وكدت أن تنهي حياتك، ظللت تنظر برعب نحو المرآة تعتقد أن أولئك المسلحين سيلحقون بك لا محالة، إنك انتهيت…منذ أن قررت أن تهرب منهم، لقد أعلنت للجميع أنك تخافهم، والآن يستطيعون أن يشتموا رائحة خوفك.

عند ذلك ماذا فعلت؟ لقد ظللت أياماً محبوساً في البيت ظناً منك أن الجميع سيهاجمونك لا محالة، لقد تعرفوا على رائحتك ومهما فعلته لإخفاءها لن تنجح، جربت كل العطور والروائح وجربت أن تخفي الرائحة النفاذة لخوفك ولكن بدون فائدة، مضى شهر على حبسك لنفسك، قاومت الشعور بالجوع والحاجة لضوء الشمس والممل والخمول، حاربت العطش في آخر الأيام دون أن تحسب حساب الحياة ونفاذ خزينتك من المؤونة، عشت على الخبز القاسي وماء الشيشمة وأشياء لم تتوقع أنك ستأكلها يوماً وحدها، حتى انتهى كل شيء…. لكنك أحسست بالآمان، ركبت قفلاً إضافياً للمنزل، حبست ضوء الله عن نفسك وعشت على ضوء الحكومة الذي يختفي أحياناً حتى لنصف يوم، وفي الظلام كنت تستذكر طفولتك التي خفت فيها من الظلام، أشعلت في كل مرة شمعة وجعلتها أمامك وأنت جالس في زاوية غرفتك التي لطالما أحسست بالآمان فيها، تمنيت أن يزورك أحد أقاربك لكنك تركتهم جميعاً بعيداً عن المدينة بحثاً عن لقمة العيش…. فكرت في ميزانيتك من المال، في الشقة المستأجرة التي تبقى أربع أشهر على نهاية إيجارك السنوي لها، في حاجتك لشراء بعض المؤن، وفي حاجتك للعمل، خوفك قد جعلك محصوراً في زواية وكل الضوء الذي تحتاجه هو شمعة لا لترى طريقك ولكن لترى من في طريقك، وسيجبرك إن لم تعمل على أن تهيم في الشوارع هارباً، أن يلقي بك في أحضان الكائنات التي تخافها، إنك تعيش في معضلة يا صديقي….الأسهل، الأسهل أن تتخلص من خوفك أو من حياتك، ها ما رأيك؟ ولكن يمكنك الاتصال بأحد أقاربك الأحياء، لا…لا، ليس هنالك ضامن لك بأنك سترتاح لهم، ثم ما الذي أتى بك للمدينة سوى خوفك من قريتك؟
وتشجعت أخيراً، أخرجك الجوع لأنك لم ترد أن تموت، ملأت جيوبك بالنقود وأسرعت تتحرك ليلاً نحو أقرب دكان، كان عليك أن تجتاز الشارع المظلم وفي حمى تحركاتك مررت بمجموعة من المتسكعين الذين كانت أصواتهم تتعالى، جاهدت لأن تلقي عليهم السلام:
ال…س…س….س….س….سلامووو، ع…ع…ليكم.
قهقه الجمع، وكرر أحدهم أسلوبك قائلاً لك :
و…و….و….ع…ع…ع…عليك السّ…س….سلااااام. هاهاهاهاهاها
وكان عليك أن تخنع رأسك نحو الأرض وتحرك قدماك أسرع، عند انعطافك بعيداً عنهم ألقيت نظرة للخلف لتتأكد أن لا أحد منهم يتبعك، إنك تريد أن تصل للدكان في أسرع وقت ممكن، دون أية أضرار…. دلفت إلى المبنى والعرق يملأ جبينك ونفسك يكاد ينقطع، كان البائع يدور حواراً مع أحد الزبائن حول ” الفتى الذين وجدوه ملقىً بجانب براميل القمامة، أمام المسجد… صباحاً” وعندما نظر لك ابتسم ونادى باسمك وقال لك ” كيف حالك؟ أين….لم نعد نراك؟ هل أصبحت تشتري من صاحبنا؟ قلت لك أنه يبيع بالحرام” ولكنك لم ترد أن تدخل في نقاش مع أحدهم، إنك دائماً منصت، إنك لا تناقش ولا تشارك أفكارك ولا تريد ذلك، لا تريد أن يعرف الذي يبيع بالحرام أنك تعرف بأنه يبيع بالحرام فيحاول أن يفعل بك شيئاً كالفتى الملقى في براميل القمامة، ابتسمت ثم بحثت عن المؤن التي تحتاجها لأسبوع، وبقيت تنصت للبائع يحكي القصص السيئة عن المكان الذي تعيش فيه، ابن فلان… جارك، يبيع الحبوب المهلوسة، إنه مجرم، فلان… أحد جيرانك البعيدين ألقي القبض عليهم لأنه كان أحد أفراد مليشيا ما حاربت مليشيا أخرى والسيدة حياة تشتغل بالدعارة وقيل أنها تحمل فايروس الإيدز ومن الجيد أنك تبقي قضيبك حيث هو، وأنت تمسك علبة التونة تفحصت بلد المنشأ، تاريخ الانتاج وانتهاء الصلاحية، المواد المضافة وكل شيء، كان صاحب الدكان قد اعتاد على تأخرك في شراء شيء ما؛ إنك لا تريد أن تمرض أو يتم تسميمك من هؤلاء، واشتريت كل ما تحتاجه وحاولت أن لا تجعل عينيك وعيني البائع أن تتصلا حتى لا يرى ما الذي فعله شهر كامل بك وأنت محاط بالجدران، شكرته سريعاً، وضعت المال في جفل وتحركت نحو الحوش، وكانت الرحلة مؤلمة حقيقةً…إن كان هنالك من يراقبك سيضحك حتى الموت من تصرفاتك وحركاتك والتفاتاتك ولكن ما إن يستمع لأفكارك سيقتله الضحك.

ها أنت ذا إذاً، ستعيش لأسبوع آخر بعيداً عن الجوع والماء المالغة، ماذا ستفعل بعد ذلك؟ ستعود لنفس الدائرة، سوف يخرجك الجوع مرة أخرى، عليك حقاً أن تتوقف عن هذا الهراء، اسمع عندي لك أفكار رائعة تعلمتها من خلال استماعك لقصص الإرهاب التي يلقي بها هؤلاء القوم، إنني أعرف قصة بعينها ستجعلك تتشوق لأن تجربها، نشتري حبل… نربطه بالثريا، نربطه جيداً، محكماً نربطه، ثم نصنع حلقة بعقدة يمكنها أن تتحمل وزنك، نضع كرسياً تحت الثريا ونلف رقبتك بالحلقة، نحكم إغلاق الحلقة وندفع الكرسي، سترتاح صدقني…وستنتقم من الجن الذي يسكنك بحيث تجعله يموت معك، ها؟ إنني أعرف دكان ممتاز يبيع أمثال هذه الأشياء، هيا لنخرج مجدداً…شغل محرك السيارة وسأخذك في آخر رحلات العذاب بعيداً عن هذا العالم، على الأقل ستكون الكائن الليبي الوحيد الذي يمكنه أن يقتلك، لن يتعين عليك أبداً أن تنصت لهم وهم يقتلونك بكلماتهم، منتجاتهم، عراكهم، أسلحتهم، نظراتهم، خرافاتهم، نواياهم أو حتى سماءهم.
وخرجت، ركبت السيارة وتحركت في الطريق…. كانت شمس النهار تكاد تحرق جلدك الذي نسيَ ملمس أشعتها، كنت تسير بسرعة فائقة حتى لا يتمكن أحدهم من ملاحقتك، توقفت على الدكان، دخلت مسرعاً، اخترت أفضل حبل لديه، دفعت النقود، وخرجت وعدت مسرعاً للمنزل، المشقة المشقة وانتحار رائد الرعب، تمكنت أن تتنفس الصعداء عندما ربطت الحبل وجهزت كل شيء، أتيت بالكرسي وصعدت، كنتَ تحاول أن تجد سبباً منطقياً لك في عدم خوفك منهم، إنهم أناس طيبون، هكذا قيل لك، إنهم حفظة القرآن، شعب نية يعيش أيامه مغلوباً على أمره مثلك، إنهم مسلمون ومسالمون والقصص التي تسمعها لا تشكل سوى شيئاً بسيطاً عن الحثالة الذين يعيشون معهم، إنهم عائلتك، أخوتك، أخواتك، أعمامك، عماتك، أخوالك، خالاتك، زملائك في الدراسة والعمل، وكل شيء… هل تتذكر؟ هل تتذكر أنك لم تكن تخاف منهم من قبل بل كنت تخاف من الجن فقط؟ إنه الجن الذي يسكنك هو من يجعلك مرعوباً منهم لا شيء غير ذلك، ربما عليك أن تحاول أن تشنقه هو بدل أن تشنق نفسك، وضعتَ الحبل حول رقبتك، مر شريط حياتك كما يمر على الجميع في نهاية حياتهم، أحكمت إغلاق الحبل، وأسقطتَ الكرسي وأصبحت تطير في الهواء…ها، إنك تشعر به، الموت يقترب، أنفاسك تتوقف….تنقطع، إن عضلات جسدك تحاول الهروب كعادتها، لكن الآن لا مفر، دقيقة أو اثنتان وستفقد حياتك وسترتاح، هل تتذكر كيف كانوا يقولون عن المرضى الذين ينال منهم الموت ” لقد ارتاح” سيقولون عنك الشيء ذاته، كان مجنوناً والآن ارتاح….هيا يا صديقي، ارتاح، اشششش….لا تقاوم، اششش…غب.
ولكنك استيقظت مجدداً، كان رأسك يؤلمك، قطع الزجاج مرمية حولك وهناك خيط من الدم ينبع من رأسك، جسدك يؤلمك، رقبتك تؤلمك، وأنفاسك تؤلمك رغم أنها عادت للتدفق في رئتيك من جديد، آه هل تشعر بالراحة في صدرك الآن؟ شعور الاختناق…سيء، سيء جداً، ولكنك تخلصت منه، هل يمكنك أن تتذكر ما حصل؟ الحبل على رقبتك، الثريا منزوعة ومتكسرة فوق رأسك ولا وجود لها في السقف الذي تحدق فيه، لكن هنالك شيء مختلف…شيء غريب داخلك بعيداً عن الألم، هناك إحساس جديد لم تشعر به من قبل، وسمعت الجرس يرن، جاهدت نفسك على النهوض وتمكنت من ذلك، توقفت أمام الباب وحاولت أن تسترجع شعور ما كان يأتيك دائماً وأنت تقف هذه الوقفة: ما هو يا ترى؟ ابتعدت الأفكار عنك عندما سمعت الصوت وراء الباب يناديك: افتح. عرفت صاحبه، إنه صاحب الحوش جاء لتحصيل مال الإيجار، سلمت عليه، دعوته للداخل، سألك: ما بك؟ يبدو أنك دخلت في شجار ما مع أحدهم؟ قلت له: لا ولكني سقطت من عليْ، لا عليك. حادثته بكل سهولة، هل كنت تفعل ذلك من قبل؟ ضحكتما وشربتما الشاي ودخنتمنا السجائر وقص لك قصص عن أحد المستأجرين الذي كان يتاجر بالسلاح في شقته، وأنه حاول أن يقتله عندما أراد أن يحصل المال منه، خرج المستأجر سكيرًا يصيح في وجهه: البيت لساكنه يا قواد، الله ومعمر وليبيا وبس؛ ضحكتما معاً على العنف الذي حول المجتمع، قال لك أنه لأول مرة لم يغضب حتى الحنق لتأخر أحد المستأجرين عن دفع الإيجار بل ضحك وأصر على أن يخبرك بالحكمة ” تبلدت مشاعرنا” هززت رأسك موافقاً، وأعطيته مستحقاته، آخر ما لديك في جيبك من مال. ستبحث عن عمل آخر صحيح؟
وخرجت، شغلت محرك السيارة وأردت أن تضيع في الطريق دون أن يخالجك أي شعور، كانت عضلات جسدك تريد أن تنعطف في أزقة عرفتها لكنك امتنعت عن ذلك، تحركت واثقاً من نفسك، عيناك كانتا تنظران للمرايا بين الفينة والأخرى وعندما تتذكر أنه لا يتعين عليك فعل ذلك كنت تذكر نفسك أنه عليك أن تركز في الطريق أمامك، هناك شيء ناقص…هل هذه هي الحرية؟ هل تحررت فعلاً؟ خالجتك فرحة عارمة، نزلت في مقهى ما… طلبت قهوة وجلست تستمع باللحظات، كان المقهى بالقرب من سوق شعبي في العاصمة طرابلس، سوق مليء بالناس وصياحهم وضحكاتهم والفتيات والمقهى مليئة بالرواد، قاطع كل تلك الصياحات صوت إطلاق نار، شعرت بالقلق لهنيهة ولكن سرعان ما ابتسمت ” هاهم، يمارسون حياتهم اليومية كما يجب، تبلدت مشاعرنا”، لفت انتباهك شاب يسرع خارجاً من أحد أزقة السوق ناحية القهوة ويرمي بالبضاعة أمامه، كان يجري ناحيتك….ثم خرج شاب آخر يصيح به ساباً وشاتماً، كنت تضحك من المنظر، بدا الجميع خائفين من الموقف، البعض هرب من المكان والبعض أخذوا يبحثون عن مكان آمن ولكنك كنت تجلس في المقهى تحتسي قهوتك وتدخن سيجارتك ولا شيء يهم بأن يزعزع ثقتك بنفسك، كفاك العيش في خوف، لن يحدث أي شيء، مجرد شابان يتلاحقان بالسلاح، لا شيء آخر…. صوت صفير رصاصة مرت بجانب أذنك جعلتك تتوقف عن شرب القهوة، حدقت في الشاب الذي يحاول الهروب وهو ينعطف جانب، ويلمس كتفك ثم يختفي، ولكن آخر ما رأيته وأنت تبتسم… المسدس في يد الآخر وهو يطلق رصاصة الرحمة في رأسك.

مقالات ذات علاقة

خيوس..

زكري العزابي

فرج

حسن أبوقباعة المجبري

الأبكم…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق