النقد

لماذا تبهرنا كتابات الكوني؟

(كل بيتٍ أقمناه خارج أنفسنا بهتان، وكل أربابٍ عبدناهم خارج قلوبنا أزلام)

من رواية: بيت في الدنيا، وبيت في الحنين

الروائي إبراهيم الكوني.
الروائي إبراهيم الكوني (الصورة: عن ليبيا المستقبل)

1. السؤالٌ يطرح نفسه، وأنت تتابع كتابات “إبراهيم الكوني”: لماذا تبـهرنـا؟.

لن تكون الصحراء جواباً شافـياً، كونها ميزت نصه، حتى سمي لها أدباً وكتابةً، كما البحر والمدينة في حَوَريها وأزقتها، وبيدين مجردتين لن نكتب شيئاً عن السماء.

سأجد الكثير ممن يؤيدون فكرة الصحراء تميزاً في كتابات “الكوني”، لكن الصورة التي نعرفها للصحراء هي ذاتها ولم تتغير، وأن زادتها تقلبات الطقس قسوة وغباراً، فالرمال في حركة دائمة، مخادعة نظرنا الساكن، والشمس تستمتع بالشساعة فتتمطى كما طاب لها وتستعر.. ما الجميل في هذا السكون الأصفر؟، والبعيد الخادع اليلاعبك لعبة الملاحقة، حتى يرميك في صدر بألف ألف نهد اسمه الرمل، صادياً مشقق الشفتين والقلب.. وحتى وأنت تستجير بالجبال أو الصخور الناتئة فيها، فأنت تهرب إلى نار الصخر، وساكنيه البهم، وعازفي مزامير الليل.

أين الأمان القادر على التسرب روعة1 في نصوص “الكوني”؟، الأمان اليحوّل الصحراء معيناً لا تنضب حكاياته، فتدب الحياة في الصفرة الموحشة، وتسكن الألفة تلال الرمال، وتغدو الأودية احتفالاً صاخباً.. كيف تحولت الصحراء هذه الصورة المبهرة؟.

2. أحب الوقوف أما النصوص، حتى لحظة غفلةٍ منها، أتسرب فيها تحت الثياب، متعلقاً بالحزام.. من هكذا منطقة يكون الوقوف آكد على حقيقة التركيبة2 التي وقفت تتأملها، في حجم الثياب إلى الحشو (الجسم)، وكذا نسبة رسم أبعاد الجسد (كأحد وحدات الإبهار)، كما ستنكشف الحشوات (إن كانت) التي تظهر استقامة الكتفين، وارتفاع الصدر ودقة الخصر، فالجمال المتقصّى في الصورةِ أمامك، في ستره مجموعة من الحشوات، السهل تغييرها تبعاً للحال.

أقترب أكثر، لأقول هي محاولة للتسرب تحت الثياب، لتتبع منبع الإبهار، دون حاجة للتعويل على ما ترسمه الثياب (في هذا المقام، اللغة هي الثوب الذي يظهر فيه النص كجسد قائم، أما السرد فهو آلية انحدار الثوب وتصميمه)، معيدين في تسربنا: لماذا تبهرنا كتابات “الكوني”؟.. هذا لن يمنعنا من التوقف عند الثياب، من باب قياس حدة الإبهار في سَترِ الجسد، وتعمده آليته، يقول “الكوني” في رواية (الفم): (اختباء قرص الشمس وراء شجرة الأثل مناورة!!، اختبار قرص الشمس وراء الجبل منفى!!)3.

3. هل يرصد “الكوني” حالة واقعة، أم يؤسس؟!!

آثرت أن أبدأ من هذا السؤال، طالما الأسئلة مفاتيح العبور والظفر بالنتائج.. ومبدأ السؤال هو فرضية أناقش فيها رواية “الكوني”، كنص سردي مكتفٍ، ومنغلق في حدوده فيما يقدمه من قيمة إبداعية (كأدب)، إذ أفترض أن النص يعوّل على قيمة موازية تحدد اتجاه النص ومسيرته في إنتاج الكاتب، هذه القيمة الموازية، هي القيمة المفترض أنها سر التواصل والاتصال كحالة إبهار، ويمكنني توصيفاً تسميتها بـ(القيمة الاجتماعية)، كبعد يتحقق فيه الكاتب، في هدفين اثنين: أول يوغل فيه داخلياً، وثانٍ يتقصى فيه ما يكون.

4. لا فرق بين الثلج والصحراء، كلاهما شاسعٌ سقفهُ السّماء، وكلاهما يلتهب، لكن بطريقته.. هكذا يتحول الصحراوي إلى ثلجي، يرتدي المعطف بدل الجلباب الواسع، والطاقية بدل العمامة، والشال بدل اللثام.. قد تكون مفردات مرادفة/متقابلة، لكنها في المرحلة الثلجية أكثر التصاقاً وسكوناً، وهي خارقة في ثـقلها وإلحاحها، أما قدرتها فتـقف عند الجسد دون المحيط.. بصورة أخرى يكون الثلج صورة للسكون، ككيان يتأكد في ثباته والتصاقه بمكانه.

في رواية (الفم) يقول: (رأيت أن أجعله ابناً للصحراء، حتى لا يصير فلاحاً تستعبده الأرض)، الفلاح تستعبده الأرض (تستغله لخدمتها)، والصحراوي تلاعبه الأرض (تستغله لتسليتها). الحقيقة تقول أن كلاهما مستعبد، فالفلاح يجدُّ لأجل العطاء، والصحراوي يسعى لأجل الحرية، والتحقق النسبي للجد والسعي كافٍ لإشباع الحاجة المتقصّاة.. يمكن قراءة هذا التركيب بشكلٍ مغاير، فالفلاح يرى أمانه في التصاقه بالأرض، كثابت يتحقق فيه الوجود (الأمان من الضياع/التشتت)، أما الصحراوي فيرى سياحته في الصحراء ملكاً وانطلاقاً، يحقق فيه وجوده (الأمان من الثبات/القيد).. مستوىً آخر نعيد فيه القراءة، على دلالة المعرفة، في تعويل الفلاح على النظر تحقيقاً لمعرفته، دون الصحراوي المعوِّل على اللّمس4.

وللوجود الحقيقي للاتصال بالأرض (المكان)، في صورة عن صورة الفلاح، صورة اختيارية (نفترضها في واقع حقيقتها)، فإن الصحراوي لا يمكنه إلا أن يرحل، قدماه من تتحسسان الأرض، لا اليد كما يضرب بها الفلاح ويشقها (خالفَ الناموسَ ومزقَ جسدَ الأرضِ بالمحراث، استبدلَ المهريَ بالحمارِ، والسرجَ بالبردعةِ، والسيفَ بفأسِ الحقل)/رواية: الفم.

ويختار الصحراوي الرحيل، فيرحل وفقاً لشروط المكان، الواقع تحت شرطه/سلطته، فيوغل في داخله، بعيداً، وأكثر مما يجب، الوقت أداة الساكن، وهي أيضاً أداة الرّاحل في المضي أكثر، حتى تتعرف القدمُ طعم الدرب، وتآلفه حد التوحد. وكونها رحلة داخلية (شعورية/ تمثل في تحققها الهدف الأول)، فإنه أكثر انفتاحاً وحرية للمضي أكثر، والحشد، الذي يستدعي فيه الكاتب كل ما يعيه، بنية إدراك الفعل حقيقة، في صورة الواقع بكل تفاصيله. وهو ملمحٌ يتأكد في النص الروائي للكاتب، فالتفاصيل والوحدات الصغيرة لا تغيب، إنما قوية الحضور، بقدرة الكاتب على استدعائها واستثمار المساحة المعرفية المتوفرة، وتفعيلها.

الصحراوي الرحال في طبعه، الملازم أخطام الإبل، لا يقنع للمكان، مستفيداً من الزمن في دورة الحياة للمضي أكثر، وإن أعاد الدرب، فهو يعرف أن الصحراء لا ثبات فيها، و”الكوني” يؤكد هذا الفعل في الذهاب في التوحش أكثر، وهو يؤكد هذا الطبع باستشهاده بجزء من مقدمة “ابن خلدون” في الجزء الأول من رواية (السحرة)، فالترحال إضافة أنه استهلاكٌ للزمن، فهو يحقق استهلاكاً موازيا هو المكان، فلا ثبات له. “الكوني” وهو يجمع في الصحراوي الكاتب5، يرى الزمن المستهلكَ في ثبات المكان رحلة، رحلة يعود فيها إلى الداخل، أكثر من مجرد عودة للذكرى، تتحول إلى حالة من النشوى والتصعّد، يستدعي لها ما تحمله ذاكرته، وما يتوافر لها من معارف تعين على رسم معالم الترحال بدقة، والتأسيس لهذا الترحال، في التأسيس للمجتمع الذي يعمل فيه، فيكون هذا المجتمع رديف الترحال في موروثه الاجتماعي وطقسه الحياتي والعقائدي، والذي عليه الإخلاص للصحراء التي منحته الوقت للمضي والحياة.

5. كان الإيغال داخلاً هو الهدف الأول، أو المتحقق الأول في فقد الترحال، والاستعاضة عن الحضور، في الحضور المعدّ/ المحضّر، المحتـشدةُ لهُ كل المعارف وتمظهرات الصحراوي في بلاده البعيدة، هو الإيغال الذي مكنه من الإمساك بأطراف الحكاية، ومعرفة دروب سيرها وتصاعد أحداثها، حد أن أوجد حكاياته الخاصة، بعدما عرف أن أبطالها يجوبون الصحراء كل يوم، وأن ما يمنحه لمفرداتهم من قداسة، حي حقيقة يعرفونها، وتعرفها الصحراء. (اليوم لا يريد الفارس أن يعبر الصحراء لحضور ميعاد تقيمه الحسان، اليوم لا ينوي آكّا أن يبلغ أقاصي الأرض استجابة لهوى السباق، اليوم يفر من الخطر، من القيد،…، مهريه النبيل لا بد أن يقرأ النية، ويقدر جسامة الخطر فاركض يا جملي، فر، طر، اخرق الفضاء)/ رواية: السحرة-ج1.

توازياً والرحلة داخلياً، التي ترتسم فيها معالم الرحلة أكمل ما يكون، وتتكون في صورة يسفح رملها الوجه، وشمس تـُقيل، كان لابد من فعلٍ يتقصى الحدث، ويقيس أثره.

هذا الفعل يعمل فيه الكاتب على قياس درجات التواتر في نصه، بنية تلمس حدود التواتر ومناغمته (توافـقياً)5 في ذائقة التلقي، وهي مسحة تستفيد من الواقع في تمظهراته، في إعادة إدارته لمصلحة الحكاية، هذه الإدارة يفسرها الفيض اللغوي المحسوب في السرد القادر على إذابة الفروق، وإعادة إنتاج المعارف والموروث، فلا إسراف في الوصف، ولا قبض في رصد الحركات والانفعالات، توازن كفيل بتحويل النص إلى صورة تجزم بحقيقيتها (الإنسان لا يستطيع أن يدعي البطولة، ولا يستطيع أن يعطي نفسه حق حمل الرسالة، أو الفوز بلقب “الإنسان” إذا أصابه الوهن إلى الحد الذي يشفق فيه على نفسه)/ رواية: بيت في الدنيا، وبيت في الحنين.

هذا القياس يعيد الكاتب إلى النقاط البعيدة، مُوجداً بعداً زمنياً (تاريخياً) للحكايات، وأيضاً معالم محدده وواعية لمسيرته، فيعمل بالبحث في الحضارات وما أنتجته وما أوجدته من تراث، هذا ما يُوجِدُ حالة الألفة مع روايات “الكوني”، فلا يحس المتلقي بالغربة أو عدم المعرفة السابقة بشخوص الحكاية، أو بالتراث الخاص أو المعتقد، إنه في هذا الكم الروائي يجد وحدة تاريخية، تحقق الأصل الواحد (تأصيلية)، والعمق الذي تعود فيه كل الحكايات (البعد التاريخي)، كما وتقدم صورة عن غنى التجربة.

6. ألمحت في البداية معللاً، أن الإبهار تحققه (القيمة الاجتماعية)، التي تحققت في هدفين اثنين: الإيغال المحقق لفعل الترحال، والتقصي بتحقيق هذا الترحال. وبالتالي أوجد “الكوني” المجتمع الذي يتقصاه، فرسم معالمه وحدد وجوهه، وطرائق ترحاله، أوجد مجتمعاً متكاملاً تاريخاُ وحاضراً، ومن بعد قعد ليرصد حكاياته، ويعيد نشر أساطيره. موجداً نوعاً من التواطؤ المسبق بين المتلقي والرواية، الذي تمت تهيأت الصورة أمامه، فلم يعد ترهبه الصحراء ولا الرمال، إنما صار يستأنس حرارتها متسربة في رملها بين الأصابع، كما وسينصت لعزيف الليل في ضوء القمر.

أخالف البعض، وأختار أن أسمي هذه التجربة الإبداعية بالتأسيس بدل الدأب، لأن التأسيس ينبع من إيمان مطلق بالقضية المعول على تحديد معالم قاعدتها، وهو جهد “الكوني” لرصد كل التفاصيل الصغيرة، والحالات الخاصة، إنه المجتمع الذي يعيد تكوينه، في اعتبارنا ما تمثله الصحراء له من ذاكرة.

ولم تكن الصحراء لتكتسب هذا الألق والأمان، لولا القيمة التي يتلمسها القارئ في هذا المجتمع، في حكاياته الصغيرة، وأساطيره التي لم يعمل “الكوني” على منح شخوصها قدرات خارقة، إنما استغل قدرة الإنسان في توجيهها للفعل في حدودها القصوى، في الحدود التي يستطيعها المتلقي ذاته، حتى استثماره لطاقات الجن كان استثماراً منطقياً، فلم تحمل القصور ولم تحول التراب ذهباً، إنما تحركت في نطاق من المعقولية التي تجعلهم أكثر قرباً، نازعاً ما يحيط اختلاطهم بالإنسان من رهبة وخوف، وإن كان فهو الموروث المتعلق بالمرجعية الثقافية لشخص النص.

هذا القيمة الاجتماعية، الراصدة، تقدم صورة مغايرة للمفترض، المفترض الممكن من الحياة في ظل الظروف الصحراوية القاسية، هذه القيمة تظهر مجتمعاً أكثر تسامياً وتصالحاً مع ذاته، إنه مجتمع مؤمن بالقدر الذي يحياه، ويتعايش معه بطمأنينة، هذا الإيمان يظهر في المعتقد المتوارث المتداول، الذي يمثله الناموس كمنهج يحدد ويقوم، وتعد مخالفته خروجاً (لأن الناموس يقول في وصية من وصاياه، إن الصحراء لا تستسلم إلا لعشاق الآفاق، الذين لا يرون للمتاهة وجوداً، لأنهم لا يحيون في الأرض، ولكنهم يسكنون الفراغ المعلق بين الأرض والسماء)/ رواية/ بيت في الدنيا، وبيت في الحنين.

“الكوني” يبعد عن شخوصه صفات القسوة، ويحولهم إلى عشاق، على درجة من درجات الوجد، الخلوة والتوحش مسحتهم بمسحة جعلت منهم متصوفة بالفطرة، يتأكد الإيمان فيهم بقوة.

7. لقد استطاع “إبراهيم الكوني” أن يحقق غايته، استطاع أن يحول هذه (القيمة الاجتماعية)، من درس اجتماعي عادي ممل، إلى حالة إبهار وانتشاء، قادها برفق وتمكن، موجداً لغته الخاصة، المحددة المتزنة، البعيدة عن الإسراف في الوصف، والتفصيل، والشح في الرصد. إنما عمل “الكوني” على تحديد الحدث، ورسم صورته الخاصة بطريقة أقرب إلى أسلوب العصور الوسطى في الرسم، التي تعتمد إظهار الواقع بصورة متوازنة، فتستفيد من طاقة الرسام والمنظر المعول عليه، وهو يضفي مسحة من القداسة بما يسرّبه من إيحاءات عقائدية، وفلسفية، وهي تظهر بوضوح في تراكيب مغلقة يمكن استقطاعها من جسد النص لأجل الإفادة من توجيهها، وهي غاية الحكمة أو التجربة، إذ يمكننا الوقوع على الكثير من هذه الجمل والأنظمة المغلقة. إن الكوني لا يعمل منطلقاً من حماسة مفرطة، إنما حماسة عاقلة وخطط لها.

إن الكوني وهو يقدم لنا الصحراء، لا يقدم لنا بقعة جافة، إنما بقعة غنية، بما يخلقه مجتمعها فيها من حياه، فيتحول عسفها إلى قدر، واستمرار ساكنيها وصبرهم إلى صلاة، وهي لن تمحي دروبهم، فآثارهم آكد لمعاودة الرحلة، ولنعيد قراءة “الكوني” من جديد.

______________________________

هوامش:

1- الروعة، ليست مقياساً فنياً، بقدر ما هو تعبير مجازي، يقصد منه توقع صدى التلقي.

2- ربما يكون استخدام (التركيبة) منفراً، لكن القصد منه تحقيق صورة المقابل كونه مجموعة من الوحدات، التي تؤلف في اجتماعها جسداً قائماً، هي في حقيقته تركيبة.

3- لن أكون مضطراً لذكر معلومات الاستشهاد أو بيانات النص المضمن، فهي ترد _أي الاستشهادات، والتضمينات_ تلبية لحاجة الكشف، لا الاستشهاد بنية التدليل.

4- قد يراها البعض بطريقة معاكسة.

5- الكاتب هنا، يعمل على إعادة تدوير الحدث أو الرحلة لصالحة، إنه يستأثر بالقص لمصلحته، مسيطراً على أحداث وشخوص الحكاية/حكايته.

6- التوافق/المناغمة، تعبير فيزيائي يقصد به التناغم الحداث بين رنينين/موجتين أو اهتزازين.

صحيفة القدس العربي.. العدد:5200.. بتاريخ: 16/2/2006

مقالات ذات علاقة

ملحُ الفكرة !!

عبدالباسط أبوبكر

عالفرح مصبحنى..ديوان الفرح والبهجة

إنتصار بوراوي

أطروحات فلسفية في رواية (من أنت أيها الملاك) للروائي ابراهيم الكوني

المشرف العام

2 تعليقات

حسين بن قرين درمشاكي 26 أكتوبر, 2020 at 17:57

الأديب الكبير الشاعر الفذ /رامز رمضان النويصري Ramez Enwesri.. أجدتم صديقي ..نعم لنعيد قراءة “الكوني” من جديد.
تحياتي..

_درمشاكي_

رد
المشرف العام 27 أكتوبر, 2020 at 16:37

الشكر موصول لك أخي

رد

اترك تعليق