النقد

كـوامـي أيـايـا

(نقد لا يهدف إلى إصدار أحكام..  بقدر ما يهدف إلى كشف بنية النص)

امجاور خليفة اغريبيل

للرواية زمنان, الأول زمن النص أو السرد أو الرواية, والثاني زمن الوقائع أو الأحداث أو القصة, وتأتي صعوبة الرواية في التوفيق بين هذين الزمنين في تقاطعهما وتداخلهما وفي إعادة ترتيبهما وتحريفهما

الرواية لها زمنها الخاص, الذي هو زمن متخيل والذي يختلف عن زمن الأحداث أو الوقائع التي تتحدث عنها.. والرواية باختصار هي فن التلاعب بالزمن والذي يعني وضع حادثة ما في غير موضعها بتقديمها عن حادث سواها أو بتأخيرها عنها.

كوامي أيايا.. هو اسم أديبنا “محمد عقيلة العمامي”, وهو اسم أحد شخصياتها الذي جنح به مركب صيد إلى أحد الشواطئ الإيطالية, برفقة صديقه سلطان فاضل, وهناك تبدأ أحداث الرواية, التي تنتهي بسفر “كوامي أيايا” إلى أمريكا, حيث يدخل السجن بتهمة قتل عشيقته, ويرسل في طلب صديقه “سلطان” الذي ينجح في إسقاط التهمة عنه وتخليصه من السجن, ويعودان سوياً, “كوامي أيايا” إلى بلده غانا, و”سلطان” إلى وطنه ليبيا.

الرواية هي رحلة للبحث عن الذات, تبدأ من شواطئ ليبيا أو أفريقيا وتنتهي إليها مجدداً, ونظراً لأن الرواية هي فن تضخيم الفعل وتكبيره, فقد احتاج الأمر من القاص إلى أكثر من مائتي صفحة من الأحداث والوقائع التي تم سردها لخدمة الفعل الوحيد في الرواية, فعل البحث عن الذات.

زمن الرواية يبدو معكوساً, حيث يأتي سرد الأحداث في تسلسل مخالف لزمن وقوعها, وهذا أمر شائع, بل يكاد يكون صفة لازمة للعمل الروائي عامةً, نراه عمد “الطيب صالح” في موسم الرحلة إلى الشمال, وفي “أبواب الموت السبعة” لأديبنا الرائع “عبدالرسول العريبي”, وعند الكثير من الروائيين غيرهما.

الرواية تبدأ من نهايتها في تسلسل معاكس لزمن حدوث القصة, ولابد هنا من التفريق بين أمرين مختلفين, الأول هو القصة أو الحكاية التي تدور حولها الرواية, والثاني هو الرواية نفسها, التي تعني فن صياغة هذه الحكاية وإعادة ترتيب أحداثها وسردها في زمن آخر مخالف لزمن وقوعها ولاحق له.

زمن السرد الروائي يمارس لعبة فنية فيؤخر ويقدم, يبني عالم الرواية الخاص به, يوهم بالزمن المتخيل يجعل الحاضر ماضياً والماضي حاضراً, يمارس لعبة التداخل بين الزمنين, يبني العلاقة بينهما, تلك العلاقة التي يتحرك الفعل الروائي بها وينهض.

أحداث محاكمة كوامي أيايا.. التي تبتدئ بها الرواية, هي ماضي استحضره الراوي ليجعل منه حاضراً يسرده علينا أي أن ماضي القصة هو حاضر الرواية, وحاضر القصة هو ماضي الرواية البعيد, وهذا ما يقصد به أن للرواية زمنها الخاص, وهو زمن متخيل يوهمنا به الراوي, ولقد كانت عبارات مثل: هذا اليوم, مساء هذا اليوم, صباح هذا اليوم.. كفيلة بإيهامنا بهذا الزمن المتخيل الذي ليس له وجود إلا في سرد الراوي.

الرواية في قسمها الثاني تنفتح في اتجاه الماضي, تختصر اللحظة الحاضرة ويصبح الزمن الماضي, زمن طفولة سلطان, هو الزمن المسيطر على السرد, فمتعة التلاعب بالزمن لازالت مستمرة هنا, فزمن الطفولة هو حاضر القصة وبدايتها في حقيقة الأمر, لكنه هنا ماضي خلقته قوانين الرواية.

إن التطابق بين زمن القصة وزمن الرواية, هو محض افتراض لا وجود له لأن وجوده يعني نهاية الرواية وتحويلها إلى مجرد حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.

إن الانفتاح باتجاه الماضي ضرورة فرضها الفعل الروائي, فعل البحث عن الذات فعام 1967ف الذي أصيب فيه سلطان بعاهة في قدمه, وهو تاريخ له دلالته المميزة في العقل العربي, وهو تاريخ يصلح لأن يكون بداية لرحلة البحث عن الذات, إذا علمنا أن تقويم عاهته بتركيب ساق صناعية له حدث بعد هذا التاريخ بعامين, إذا علمنا ذلك أدركنا أهمية هذا التحريف المتعمد للزمن الذي به تتولد الدلالات, دلالة العاهة كتعبير عن العجز وفقدان الذات ودلالة التقويم كتعبير عن فعل البحث عن هذه الذات, هذا الفعل الذي تقوم عليه الرواية.

في القسم الثالث للرواية والذي عنوانه (شاهي أخضر مغربي) تستمر الرواية في توترها بتداخل الزمنين, زمن القصة وزمن الحكاية وفق نظام حدده الراوي يعتمد فيه على الإرجاع السردي والذي يعني الإشارة إلى حدث سابق للحظة القص هذا الإرجاع هو الذي يجعل للرواية مستويين أحدهما مستوى الحكاية والآخر مستوى السرد, ومن خلال تقاطع هذين المستويين والتقائهما تحيك الرواية نسيجها, فتتعرف على (كوامي أيايا) المواطن الأفريقي القادم من غانا في رحلة للبحث عن الذات هو الآخر, وقصة لقائه بسلطان وذهابهما سوياً على متن قارب صيد نحو الشمال.

تستمر الرواية في خلق مستوياتها العديدة, مستوى لحكاية “سلطان” مع “راشيل” زوجته الأولى اليهودية, ومستوى آخر لزوجته الثانية “أرمانا” المسيحية الديانة في مستوى ثالث لقصته مع ابنة “كوامي” الأفريقية الجذور, كل ذلك يحدث في ظل مستوى واحد للسرد, لأن لدينا صوتاً سردياً واحداً هو صوت سلطان الممسك بخيوط اللعبة الروائية كلها.

تنتظم الرواية بعد ذلك في نسقها, تسرع من وتيرتها, تختصر مستوياتها العديدة, فلا وجود إلا لزمن روائي واحد, تتكثف وتتجمع دلالاتها باتجاه تحقق الفعل الروائي وتفجره, فعل البحث عن الذات, يخرج “كوامي أيايا” من السجن, يلتقي بصديقه “سلطان” وفي لقائهما تلتقي محاور البحث عن الذات في الرواية, تشكل محوراً واحداً يتجه إلى الوطن, يبلغ اليأس أقصى مدى لدى “كوامي”, لم يعد لحياته معنى لا في أمريكا ولا في إيطاليا, يقرر العودة إلى وطنه غانا, تسيطر الوحدة القاتلة على “سلطان” بعد رحيل “كوامي”, يشعر بفراغ رهيب, يتملكه هاجس العودة إلى الوطن.

بعودة “كوامي” و”سلطان” إلى أفريقيا تكون الرواية قد أنجزت فعلها وتحققت دلالات نصها, فالطيور التي هجرت أوكارها بحثاً عن الدفء والأمان اكتشفت أن لا أمان لها ولا دفء لها إلا في أوطانها.

____________________________

صحيفة الجماهيرية- العدد:3985- التاريخ:02-03/05/2003

 

 

 

مقالات ذات علاقة

السخرية في أدب علي مصطفى المصراتي ونماذجها في قصة (قداش هالمعلاق)

المشرف العام

حدث ويحــــدث

صلاح عجينة

رمزية المرأة في رواية (النص الناقص) للروائية عائشة الأصفر

المشرف العام

اترك تعليق