من أعمال التشكيلية خلود الزوي
قصة

كريمة

من أعمال التشكيلية خلود الزوي
من أعمال التشكيلية خلود الزوي

 

يبدو لي بيتها شاهقا، كأنه أعلى مبنى سكني في منطقة قرجي … يتراجع قليلاً عن رصيف الطريق الرئيسي المشغول طوال اليوم وتتشابك أمامه أشجار الزينة.

سيارات قليلة تركن أمامه.. بابه الحديدي الخارجي كأغلب الأبواب موارب.. يكفي دفعه ليصدر أزيزه جراء معاناة الصدأ الذي يعلو مفاصله.

“حوش كريمة”.. ولم تكن كريمة صاحبة البيت، عدا أنها فرد من أفراده.. الفتاة من بين خمسة ذكور، ولم تكن زيارتي إلا إليها.

أصعد مسرعة الدرجات العديدة المزدحمة، وكأني اصعد منارة في جزيرة بعيدة.. ترتفع معي أصوات السيارات تنهب الطريق الرئيسي بشراسة وكأنها تتصارع معه..يلقي بها الهواء نحوي فأشعر بدنوي من السماء وأتوجس…يتهيأ لي احيانا بأنني سأنزلق في إحدى منعطفات السلم واقع على مؤخرة رأسي.. وأنزف ولن يسمعني أحد جراء ضوضائها..

أصل الى الباب الخشبي، أمسك باليد المعدنية وأطرق الباب طرقتين..
– منو… اشكون
صوت آخر يكاد يلازم الأول… “مين، افتحوا”

صوتان مختلطان بلهجتين متداخلتين… هذا هو بيت صديقتي كريمة.

أمها من مصر وأبوها من الظهرة واصوله من منطقة غنيمة… وكريمة هي ذلك الخليط كله ” “ستي” و “حناي” و “مرت جدي” خالو” وعمامي” ” طنط” و” عمتي”… أسماء كثيرة ووجوه متعددة وقصص متشعبة…

بعد يوم عمل شاق.. أصعد تلك الدرجات المركبة كلعبة “الليجو”، أرتمي على ” الكنبة” إلى جوارها وأنصت إلى حكاياتها، تلف بي أزقة القاهرة ثم تنقلني على بساط الريح إلى بيوت طرابلس.. وبقفزة واحدة أجد نفسي أسبح في بحر غنيمة وأغطي جسدي برمالها الناعمة الناصعة الحارة. تلتفت نحوي وتفتح عينيها ببراءة طفلة “تعرفي.. غنيمة زي صور الشواطئ امتاع الدعايات بالزبط.. روعة”

اتفقنا على الذهاب لكننا لم نذهب إليها.

هذا الخليط الذي يسري في عروق كريمة يعجبني، ولا أعلم إن كان يعجبها هي.. ترى هل عانت منه أم تعايشت معه؟

ذات صيف.. وكان الباب الخشبي مفتوحاً ونسمات عشية طرابلس تداعبنا وتنفخ في أحلامنا اسرت إليّ كريمة بأنها وحتى وقت قريب كانت تنطق كلمة “بحداي” بالميم أي “محداي”.. وإنها اكتشفت مؤخرا خطأ نطقها.. انفجرنا ضاحكتين حتى اردينا اصوات السيارات أرضا.

ومازلت اضحك حتى الساعة كلما تذكرت تلك القصة وقصصا أخرى..

اقترنت كريمة بابن خالها.. الذي عاود كرة الأم.. تعلم السباحة في أعماق غنيمة وسار في شوارع قرجي يلقى التحايا ويتلقفها في خطواته… لكن لسانه ما يزال مصريا مطعما بكلمات ليبية.

تصاعد الزمن على تلك الدرجات، وتفرق الناس بسبب الحرب.. وظلت كريمة وفية لقرجي وأشجار الزينة المتشابكة أمام بيتها، ظلت تقذف بنفسها في بحر غنيمة وتسبح فيه، تداعب موجه وتستسلم له أحيانا وتقاومه أحيانا عديدة ..تجلس على الكنبة وراء الباب الخشبي وتصيح:
“منو …شكون” كلما طرق الباب وتردد أمها من ورائها ” مين”…

كبرت ابنتاها.. وتزوجت البكر من ليبي أمه مصرية.. ليستمر هذا التزاوج وهذا الخليط المحبب السخي.. كأنهما شطرا تفاحة او لب موز وغلافه أو ثمرة منجا ورداؤها أو حبة فول سوداني وشرنقتها… يجدون بعضهم البعض دون بحث.. لكنهم يتفقون على العيش على هذه الارض التي تشرب البحر بدل النيل.


7. 7. 2018

مقالات ذات علاقة

قصص قصيرة

غالية الذرعاني

ليلة بلا عشاء

المشرف العام

العـهـد

المشرف العام

اترك تعليق