سرد

كتالوج حياة خاصة

حدث  في يوم من الأيام، عندما كان طول اليوم 30 ساعة وعدد أيام الأسبوع يتراوح من 5- 13 يوم، أن اشترى (اللاحقون) سلاحاً من كل حجم ونوع، ليستمروا به في حرب بدأها (السابقون) كان السلاح رائعاً وفي وقته المناسب، وكان أحد الجنرالات الشجعان نجى من الموت مراراً لأن لحظة موته لم تحن بعد، وخاض معارك منذ تخرجه لم يعرف أحداً نهايتها، هو من تحمل عبء تلك المسؤولية الوطنية، وهو من اختاره سلاحاً يناسب احتياجات  المواطن، كصديق صدوق حين يدافع وكعدو لدود حين يهاجم ويقطع إرباً.

دون كيشوت

نزل جنرال الحروب المستمرة إلى ساحة السلاح الكبيرة التي تشبه معرضاً للموت، وتفقده جملة وتفصيلاً، كان ينظر بإعجاب ويتنهد مستذكراً المتبقي من المهمة، لم يعد أمامه سوى البحث عن جيش جديد ليتحقق الحلم، تلك هي الخطوة القادمة، قطع  فاخرة حديثة من كل الأسلحة التي رأها في المجلات العكسرية وحلم بها في حياته، لا تليق إلا بجيش قوي، جميع أفراده من الأسود،  حتى طاقم الطبخ ومن يجرون عربات نقل الموتى، يجب ألا ينتمي لجيشه إلا الأقوياء، هذا ما حدث به نفسه وهو يسير أمام الدبابات الجديدة ويتخيلها في أرض معركة خاضها ويدرك أن سبب عدم انتصاره فيها هو عدم وجود هذا النوع المتطور منها، كان يسير بقامة يحاول أن تكون منتصبه وكرش تهدل على ما تحته، يشبك ذراعيه  خلف ظهره، وعلى بعد خطوات منه يمشي حارسه، الطويل النحيل، ينفخ الهواء بدلته الخضراء ويلتصق بقفصه الصدري الناتئ، ويحرك قبعته عن رأسه، كان الحارس مجداً في حماية سيده العجوز، يقف على بعد خطوات منه ويتوقف حين يتوقف الجنرال عند إحدى القطع وينحني ليري شيئاً ما فيها، كان كمن يتساءل عن موضع (الفريتشا أو المرميته) يكح الحارس لأنه لا يوجد شيء يقوله للجنرال المهتم بتفاصيل لا يراها غيره، ويقول يرحمكم الله، عندما يعطس الجنرال ماسحاً أنفه بكم بدلته المزدان بالأزرار النحاسية.

كان الحارس لا يحرك رأسه، لكنه ينظر لأشياء أخرى، غير التي ينظر إليها الجنرال في ساحة السلاح الجديد، السماء مثلاً وأشعة الشمس ونواصي أبنيه أصيبت بالقصف، بل أن طول نظره يذهب إلى نبش الغرفة المهدمة في بناية  مقابلة ويقلب محتوياتها، سرير زوجي وصورة غير واضحة الملامح معلقة علي الجدار مالت لكنها لم تسقط، وأغطية وأمخاد غير مرتبة، يبدو أن البناية قصفت والناس نيام، سقطت خزانة الثياب المفتوحة على النافذة وكبت بعض محتوياتها إلى الشارع، يقول نظر الحارس، أين السكان، هل مازالوا في الدنيا أم ذهبوا إلى الأخره، يحاول أن يمضي وقت حراسته الممل في توقع ماحدث لهم، ويتوصل مابين كحته وعطاس الجنرال، إلى أنهم قضوا تحت الأنقاض، إن لم يكن ثمة مخرج آخر للبناية  غير الذي ُسد بركام البيوت المجاورة، كيف لهم أن يهربوا  كلهم من ذات الباب وفي نفس الوقت

دعاه استنتاجه ذاك إلى أنه في المستقبل – وبالطبع إذا تركته الحرب حياً – سوف يشيد بيتاً بعدة مخارج ولن يفكر في السلم الأهلي واللصوص عندما يصمم خارطته، فليست أحوال الدنيا سلم دائم يستطيع فيه اللصوص دائماً أن يقوموا بعملهم، دون أن تقبض الشرطة عليهم، لكن لو ترك أمرهم للمخابرات لما كان هناك لصوص في الأوقات العادية وانتهى أمرهم ولتغيرت نظرية المواطن في بناء بيته و أصبح بمقدوره النجاة في أوقات الحرب داخل بيته بدلاً من الهرب منه خوفاً من سقوطه.

سعل الجنرال فقطع الحارس توارد أفكاره قائلاً له: يرحمكم الله سيدي، لكن الجنرال لم يرد بالرد المعهود يهديكم الله ويصلح بالكم، إما لأنه لايريد أن ينزل إلى مستوى حارسه، أو أنه لم يسمع ماقاله له الحارس أو أنه لم يسمع بأبي هريرة راوي حديث العطاس، أو أنه رد في سره، أو كان مشغولاً بأفكار عظيمة عن الحرب والرجال جعلته لا يستطيع قطعها للرد على عطسه. أو ربما جعله مشهد الراجمات الرهيبة في الساحة الممتدة لايرد، وفوهات المدافع والسيارات الضخمة المتأهبة للقتال، فلمشهدها حقاً مهابة، سوف تزداد عندما يكون لها جيش يستخدمها ويوجهها حسب أمرة رجل واحد، إنه هذا العجوز الهرم الذي لا ُيعرف شيء عن طريقته في إعداد الخطط الحربية – غالباً الأمر غامض وليس سري- يفرش خريطة وينظر إليها ساعات طويلة وفي كل مرة تزداد العلامات على الخريطة ويزداد  وجوم الجنرال وتقطيبه،  ذات مرة عندما كان الحارس يحرسه  خارج غرفة القيادة، كان الجنرال قد عقد اجتماعاً طارئاً مع نفسه ذلك النهار واستمر يدون ملاحظات هناك وهناك في مفكرة خاصة ويضع بعض العلامات عند أماكن محددة في الخريطة، كان منهكماً جداً رغم أن انحناءته الطويلة على الطاولة، تضغط على كرشه وبالتالي على امعائه وتجعل فساءه مسموعاً  في الغرفة الكبيرة الخالية إلا من التكتيكات العسكرية، كان لا يشعر بشيء من خلفه فهو مشغول بما أمامه.

دخل الحارس بصفرة شاي أعده من تلقاء نفسه، لم يظفر بكلمة شكر من القائد المشغول جداً أو حتى بإلتفاته، تلك اللحظة داهمت الحارس فكرة عنقودية، دعته لاختلاس النظر إلى الخريطة الكبيرة وتقسيمها إلى أجزاء وحفظها ثم إعادة تركيبها لفهم بما يفكر الجنرال وكيف يفكر، وعن هذه الفكرة ولدت فكرة أخرى وهي وضيعة ومتواطئة جداً تتضمن بيع الجنرال وخريطته وخطته للعدو، قد لا تصبح كذلك إذا حظت بمن يروج لها على إنها رغبة سامية في إنهاء الحرب وإرساء السلام.

أما الفكرة الثانية التي جاءت مع صفرة الشاي فيما الجنرال منهمك في توزيع  قواته وتنظيم صفوف جيشه على الخريطة ولا يستطيع النهوض بكرشه المتهدل على الطاولة بسرعة أو خفة، هي أن يقوم الحارس باغتياله لانهاء الحرب والعودة إلى قريته وبناء بيته القوي المتين، متعدد المخارج، لكن هذه الفكرة لم تجد لديه حماساً فهو لا يشعر بأن قتل عجوز سيفيد شاباً في مطلع حياته، فالموت الطبيعي سيتكفل بسل روحه بالسعال قريباً، فلماذا يتحمل هو مسؤولية موته، وقد تداخلت هذه الفكرة مع فكرة أخرى مؤداها وماذا يضمن له أن قتل الجنرال سوف ينهي الحرب حقاً، فالجنرال قد يموت ميتة طبيعية لكن الحرب لا تنتهي مع ذلك، كانت هذه الفكرة أقرب إلى إيمانه بأنه لن يصبح مجرم حرب ليتحول الجنرال إلى شهيد،   فالموت الطبيعي موجود ويمكن أن يقوم بهذه المهمة، وهو إن كان مقتنع بقدرته علي هزيمة جسد العجوز فإنه يعترف بأنه  لايقوى حقاً على مواجهة عينيه، وإذا ما وجد القناعة يوماً لقتله فإن ذلك سيتم فعلاً من الوراء ووجه الجنرال إلى الخريطة، إنه يدرك بشكل تام إن التاريخ ينتظره حتى يفعلها كي يقول فيما بعد بأنه قاتل، فيما لا يقول التاريخ، الشيء نفسه عن الأسباب غير البشرية للموت.

ارتعشت صفرة الشاي بين يديه وهو ينظر لوجه الجنرال الجامد وقد ظنه مات على تلك الهيأة، وجاءته فكرة أخرى ًأكثر حدة من الأفكار الأولى، لكنها عن جيش الجنرال وليست عن الجنرال، وكان مؤداها من أين سيأتي الجنرال برجال يصنع بهم جيشاً بعدما مات أكثر من نصف سكان القرية؟ بل أن النساء اللواتي يعتمد عليهن اقتصاد الحرب من الرجال، نقصن إلى حد مخيف وصارت قلتهن تهدد بكارثة حقيقية تضع القرية في مهب الانقراض، والجيش في عداد الأموات.

من أين سيستورد الجنرال جنوداً للأسلحة الجديدة؟ بل إنه وإن استطاع استيرادهم من بلدان أخرى لايفعل بها الرجال شيء سوى أن يذهبوا للقتال دون عقيدة، فمن أين سيأتي لهم بالعدو الذي يقاتلونه وينتصرون عليه بقيادته هو، ونصف سكان القرية العدوة لهم ماتوا ونساءها يوشكن على الانقراض تحت الأنقاض.

وخلاصة الأمر في القريتين، لم يتبقى من جيشهم القديم العرمرم سوى أحد عشر رجلاً، ولم يعد يملك جيش العدو إلا خمسة عشر رجلاً لا قائد لهم!

سعل الجنرال فوق الخريطة فتأكد الحارس بأنه حي، قال له ليرحمكم الله سيدي، وحياه برفع اليد وخبط الأرجل بالأرض وضمهما وهز الجسم قليلاً للأمام، بعد أن وضع صفرة الشاي على الطاولة المجاورة وخرج بجزء من الخريطة في رأسه.

ذات استطلاع، التفت الجنرال إلى ما ورائه في منتصف الساحة الكبيرة، فالتقت نظراته بنظرات الحارس، ارتعب الحارس وانتفض قفصه الصدري لكنه تذكر أنه لم يكُ يتسلى تسليته المعتادة (وضع سبابته في أنفه وتحريكها) كان ينظر إلى أنفه ويحاول أن يراه فقط، ياله من  فتى محظوظ حصد رضى أمه كاملاً، لأنه في لحظة مباغتة الجنرال له لم يكن يفكر في قتله ولا يقضم أظافره أو ينكش أنفه، دعوات أمه له نفعته، رحمها الله واحتسبها عنده من الشهداء حتى وإن كان سبب موتها في الحرب، رفسة عجل وليس قذيفة،  عندما هربت ذات قصف من بيتها إلى زريبته وكان هو يهرب  من الزريبة إلى البيت.

تجاوز نظر الجنرال ماوراء الحارس من مدافع مشرعة الفوهات، متأهبه بشراهه لدك معاقل العدو، إنها قويه جداً، بينما زرائب العدو هشه تسقط من مجرد ريح قبلي بالعجاج، فما بالك بحرارة قذائف وصواريخ جديده مستعده لتدمير كوكب من الأشياء الصلبة، هذا ماسوف يحسم المعركة و يعجل بالنصر، فما النصر إلا قصف ساعة بهذا العتاد.

اقترب من أحد المدافع  الصغيرة وأدخل يده بفوهته اللامعه وتحسسه كساق امرأة، قال الحارس ربما قال الجنرال في نفسه إن هذه السيقان الجميلة يجب أن تدخل الحرب، فدون استعمالها ستتحول إلى محض أعشاش للطيور والحمام،  يجب اعطاء الأوامر بإغلاقها كلها ريثما يحصل على جنود ويعد جيشاً، حتى  إذا تطلبت حمايتها تخصيص جنود يطلقون النار على آي  طائر  يمر في السماء.

تطل الساحة الكبيرة (هدف  الطيور) على مقبرتين من الخلف، إحداهما مقبرة الشهداء وهي الوحيدة حظت بالتشجير، ومن الطبيعي أن تكون أشجارها مسكونة بكثير من الطيور، التي ستغير منازلها لتصبح أكثر أماناً بمجرد أن تكتشف فوهات مدافع عاطلة، أما المقبرة الأولى القديمة فلن يشكل قربها مشكله للأسلحة العملاقة، موتاها عاديون لم يحظوا بزراعة الشجر، جلهم  قضى في حوادث سير وبالرصاص العشوائي وأمراض يعتبرها العالم عادية لكنها في وطنهم مميتة، توقفت المقبرة عن النمو بعدما انتقل إليها السكان تدريجياً وكأنهم  في حركة انتقال طبيعيه داخل قريتهم.

مؤسف أن الاسلحة الثقيلة التي يستعرضها الجنرال في جولته، وصلت دون ضجة احتفالية بها، عبرت الشوارع وحدها ولم تجد أحداً يرمها بالأرز والورود، وكانت الشرفات المتأرجحة من بقايا البيوت، خالية من النسوة المزغردات كالعادة احتفاءً بالجيش.

كانت الأسلحة المتطورة بحاجة إلى سكان يفرحون بها وسكان يخافونها، فهي ستهجم وتدافع  في نفس الوقت طبقاً للكتالوج الذي أتى مع صفقة شرائها.

ختم الجنرال جولته الميدانية ذاك اليوم وعاد لغرفة عمليات الطوارئ، عاد الحارس للوقوف أمام الغرفة واحباط أي محاولة للموت تهدد الغرفة ومن فيها، أي القائد لا الخريطة أو صفرة الشاي.

إنه منذ ذاك اليوم  لم يفكر في إعداد الشاي من تلقاء نفسه للجنرال، منعاً لوساوس كثيرة تأتيه مع عملية الإعداد وتدور كلها حول استطاعته منع الموت وإحداثه في نفس الوقت، فهو أيضا قوي وقادر مثل أسلحة الجنرال التي تصد وتهجم في نفس الوقت! لكنه لا يريد أن يتحول من حارس إلى قاتل، كحارس قائد جيش العدو، الذي  اغتال سيده بناءً على اعتقاده بأن الحرب تنتهي عندما لا يوجد لها قائد، إنه بشكل ما يريد أن  يبني بيتاً بمواصفات تقاوم أي حرب. وتكون تلك هي مشاركته الثانية في الحرب الأهلية، بطبيعة الحال بعد حراسة الجنرال من الموت ونقل أوامره العسكرية في سرية تامة إلى أحد عشر رجلاً يحرسون الأسلحة من الطيور، ريثما يجد الجنرال أناساً يكون بهم جيشاً.

إن سيده يسعل أكثر من ذي قبل ويناديه من الغرفة لإحضار الشاي،  لم يكن يطلب منه شيء أو يفتح فمه للكلام معه، حسناً لقد جعله يدمن على الشاي ثم امتنع عن تحضيره له دون طلبه، لا تبدو هذه الإشارة بسيطة في علاقة المرؤوس برئيسه، إنه  يقول له يرحمك الله بعد أن يعطس، لكنه لا يرفض فكرة أن يقضي السعال عليه، ليس مستحيلاً أن يتحول كذلك إلى جنرال، تقنعه بذلك، الخريطة التي كانت وراءه  ثم أصبحت  معه والأسلحة التي أمامه، لم يعد ينقصه سوى جنود وبدلة جنرال، بعد ذلك ستظل المشكلة الوحيدة لاستمرار الحرب، ليس أن يعثر على خياط يضبط  البدلة على قياسه، بل كيف يعثر على أعداء؟!

______________

نشر بموقع ليبيا الستقبل

مقالات ذات علاقة

رواية: اليوم العالمي للكباب – 3

حسن أبوقباعة المجبري

جزء من رواية إريروس

فتحي محمد مسعود

مقطع من رواية: الأشواجند

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق