المقالة

كازينو

في المدينة العربية الكبيرة التي التقينا بها وفي ليلها المنعش والمبهج بالنسبة لنا ,
“نحن ابناء الرمل والعطش ” وتيمنا بكل الصعاليك والمتمردين الذين حفظنا سيرهم الضالة منذ “طرفة بن العبد وحتى بودلير الضليل ” فتشنا عن واحة للبهجة والعربدة والضحك وايضا للبكاء ,فتشنا عن “كازينو ” ودونما جهد كبير وجدناه .
كان وككل الكازينوهات كما عرفناها عبر السينماء العربية ,به موسيقى ورقص ونادلون وانذال بالتاكيد ,وضجيج منعش وبهيج , نادلوه شديدو البشاشة وفتواته شديدو التجهم وانواره رغم خفوتها حارة .
كازينو تلك المدينة العربية الكبيرة كان استثمارا لاحدى الدول العربية المحافظة التي تمنع الخمر على اراضيها وتمنعه على اي شبر تملكه في قارات العالم ولذا فكازينوهاتها المنتشرة عبر القارات يمنع فيها الخمر ولاتبيع الا ما حلل الله من المشروبات والملذات الطيبات ,يرقص فيها الرجال ولايسمح للنساء الا بالتمايل والغمز الخفي المحتشم ,
نحن وزبائن ذاك الكازينو “المحافظ ” كنا “سكارى وما نحن بسكارى ” فكل ماحولنا مسكر ومعربد ولايبدو شرعيا رغم كل القوانين !!
الكازينو كان دكان بهجة صغير وربما سري في بداياته ولكنه تحول الى مؤسسة اقتصادية هامة وخطيرة ,بل تحولت مدن بكاملها الى كازينو “لاس فيغاس ” مثلا بل ان بعض البلدان تكونت اقتصاديا على اسس الكازينو وخدماته ودخله وتحول راسماليوها الى ارباب كازينوهات وعمالها الى نادلين وراقصات .
الكازينو ورغم الخجل من الاعلان عنه عند بعض البلدان ,رسم ملامح اقتصاديات وناورت على فكرته وضرورته بعض البلدان مضطرة لوجوده ووجود فلسفته الاقتصادية الجهنمية والكازينو العربي الذي دخلناه احد الامثلة على ذلك .
اثر حرب فيتنام والانهيار والعجز الاقتصادين الذين ضربا امريكا ,ظهرت نظرية تحرير الدولار من الغطاء الذهبي وتدشين ثورة المضاربين وتجار “البورصة “ظهر وبمصطلح واضح وجلي “اقتصاد الكازينو ” وهو اقتصاد يعلي من قيم الاستهلاك ويحول المواطن الى زبون كازينو , وتتحول سلع الكماليات الى ضروريات ويهيمن اقتصاد الخدمات بدل الانتاج ,كان ذلك التتويج لنظريات اقتصاد السوق ودينماكية وحيوية راس المال وقدرته على ايجاد الحلول وتخطي العقبات والنهوض من الكبوات ,وفرز القيم الاخلاقية والاجتماعية والسياسية وتطويرها وفق ما يساند حرية تدفق وحتى عبث راس المال …
الى جانب ثورة الطلاب وحركات التمرد الاجتماعي ,كانت “ثورة المدراء ” في امريكا التي فصلت الادارة عن راس المال ,وجعلت المالك يخضع لادارة محترفة لراس ماله تضمن له الربح ولا دخل له في التفاصيل ,تسيطر الادارة على كل شيء ويكتفي ملاك الشركات “الكازينو ” بعد ارباحهم بعد كل سهرة غير مكترثين بالوسائل والسبل التي تحققت عبرها تلك الارباح .
امتازت ثورة الطلاب عام 1968 التي انطلقت من فرنسا ,بالرقص والغناء الثوري المعادي للراسمالية الاستعمارية القديمة وقيمها التي صارت محافظة ,وغيرت اوروبا العجوز ,لتجرها امريكا الى “الكازينو ” كما صورتها رواية “انهم يقتلون الجياد ” التي تحولت الى فيلم قامت ببطولته “جين فوندا ” حيث تنظم شركة كبيرة مسابقة للرقص دونما توقف يسقط فيها الراقصون من التعب ويخسروا المسابقة رغم صمود بعضهم لاكثر من اربع وعشرين ساعة من الرقص المتواصل .
تنتشر بين الشباب قيم “الهيبز ” وهي حركة “كلبية ” حديثة ضد العمل والصناعة ومع العودة للحياة الطبيعية وتقديس اللذائذ , لتشكل رغم ثوريتها الظاهرة رافدا ممتازا لفلسفة اقتصاد الكازينو .
الكازينو ورغم مكانه الموحد “كوزموبليتاني ” ولا قومية ولا دين ولا خصوصية له فهو قابل للغناء بكل اللغات والرقص على كل الايقاعات ,بل والدعاء لكل الارباب والالهة , انه عالمي ومؤسس هام لفلسفة العولمة , على هذا النحو كان لامفر لاكثر البلدان تدينا ومحافظة من الانخراط في هذا الكازينو العالمي وتطوير اليات هيمنتها على شعوبها ,الى السيطرة بغوايات الكازينو ,واهمها الاستهلاك بجنون وعبث التبذير والمقامرة , كان على اقطاعيات النفط ان تؤسس كازينو يناسب عاداتها وتقاليدها ,وان تسمح “لثورة المدراء ” بالدخول الى اقطاعياتها وتجديدها لتوافق العصر دون المساس بملكية راس المال وارباحه .
اقتصاد الكازينو لم يوفر للراسمالية الخروج من ازمتها فقط بل منح الفرصة لاقطاعي النفط عبر “البترو دولار ” بالتجدد والبقاء والحفاظ على راس مالهم المالي والرمزي ,فالكازينو الذي دخلناه في المدينة العربية الكبيرة كان حلا عبقريا لمشاكل الاصالة والتحديث وللديمقراطية والثرات ,للانفتاح وحدود الشرع , انه الخلطة السحرية لنا وهم , لماضينا والعصر , وهكذا نغرق “سكارى ومانحن بسكارى ” في ملذات ومهاترات وعنف الكازينو ,نتصارع على ادارته وليس على فلسفة وجوده ومبرارتها ,ننغمس في “المرابحة ” ونتحول الى كائنات نهمة ومدمنة للاستهلاك ومدانة لمؤسسات ربحية تستغول كل يوم .

____________________

عن صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات ذات علاقة

مسئولية المـثـقـف(1)

المشرف العام

رغبة القتل عن بعد

عمر أبوالقاسم الككلي

كازا

إبراهيم بن عثمونة

اترك تعليق