الشاعر حسن السوسي.
دراسات

قراءة نصية في الشعر الليبي المعاصر – حسن السوسي أنموذجا.

أ . د . عبد الجليل غزالة
abduljalil.ghezala@gmail.com

الشاعر حسن السوسي.
الشاعر حسن السوسي.

عتبات الموضوع:

كيف تتجلى البنى التركيبية في بعض أعمال حسن السوسي الشعرية ؟

هل هناك تماسك وترابط بينها وبين البنى الدلالية والتداولية pragmatic ؟

ما أهم (( الوظائف الشعرية )) عند هذا الناظم ؟

ما علاقته بالتراث وأنواع التناص في مجال القريض ؟

سنقارب بعض إبداعات هذا الشاعر باتباعنا للمنهجية التالية:
أولا ) حياة الشاعر .
ثانيا ) السبك التركيبي والحبك الدلالي في بعض شعره .
ثالثا ) التناص الشعري intertextuality( التجاذب النصي ) textual gravitation.
رابعا ) الوظائف الشعرية البارزة .

أولا ) حياة الشاعر :

رأى حسن السوسي النور بمدينة الكفرة بالجنوب الليبي عام 1924 م . رحل بمعية أسرته إلى الديار المصرية نظرا لتضييق الاحتلال الإيطالي الخناق على أفراد الشعب الليبي ؛ فعاش طفولته بمنطقة مرسى مطروح ، واكتسب كثيرا من ثقافة المجتمع المصري . تلقى تعليمه الأولي وحفظ القرآن علي يد والد ومجموعة الشيوخ ؛ وتشبع بالفكر السنوسي ؛ ثم حصل على الشهادة الأهلية الأزهرية عام 1944م .
عمل معلما في مناطق مختلفة كمدرسة الأبيار القريبة من بنغازي ، ثم تنقل بين وظائف التعليم فعمل مديراً لمدرسة وموجهاً إلى أن أحيل على التقاعد عام 1988.

زار بعدها عدة أمصار عربية ؛ كلبنان وتونس ، حيث شارك في بعض الدورات التربوية ، مما جعله يجني كثيرا من المعارف التي عمقت موهبته في مجال القريض الشعرية . أثر فيه الحنين إلى الوطن وظلم الاستعمار الإيطالي لبني بلده كثيرا …
نشأ الشاعر حسن السوسي عفيفاً ؛ متواضعاً طوال حياته ومكافحا وشريفا وشاديا بأشعاره حتى توفي في يوم الأربعاء 21 من شهر نوفمبر 2007م في إحدى مستشفيات العاصمة التونسية ؛ ثم نقل إلى بنغازي ليدفن فيها ؛ وذلك عن عمر 83 عاماً …
عاصر حسن السوسي حرب الاستعمار الايطالي ، وكان شجاعا في ديار الغربة ؛ يقول الحق ولا يميل عنه ؛ ويستم بالرقة ؛ والرأفة ؛ وجودة الشعر ؛ وسعة في الخبة . فكانت إبداعاته الشعرية صادقة وملتزمة بعدة قضايا وأغراض ؛ حيث كان يترجم ما يدور بوجدانه ؛ ويصور عاطفته ؛ فكان الشعر هو الذي يأتيه كلما حانت المناسبة ؛ نشر قصائده في عديد المطبوعات : برقة الجديدة، الحقيقة ، الأسبوع الثقافي، الثقافة العربية ، العرب اللندنية ، المناهل ، الفصول الاربعة ، والجليس وغيرها …

شارك شاعرنا في عدة مهرجانات ولقاءات ومؤتمرات للأدباء المغاربة والأدباء العرب في كل من طرابلس وتونس والجزائر والقاهرة وبغداد.
أهم أعماله الشعرية
_ 1 الركب التائه 1963.
2 _ ليالي الصيف 1970.
3 _ نماذج 1981.
4 _ المواسم 1986.
5 _ نوافذ 1987.
6 _ الفراشة مركز دراسات الثقافة العربية، الطبعة الأولى، عام 1988.
7 _ الزهرة والعصفور ،الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى, عام 1992.
8 _ الجسور ،الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى، عام 1998.
9 _ الحان ليبية ،الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى، عام 1998.
10 _ تقاسيم على أوتار مغاربية، الدار الجماهيرية، الطبعة الأولى، عام 1998.

تتميز لغة حسن السوسي بالصفاء والتركيز ، وبناء المضامين والمقاصد الرصينة ، كما أنها تعد شديدةُ الحساسيَّةِ والرقَّةِ والالتزامِ ، والشفافيَّةِ . ينتقي أخيلَتُهُ الشعريَّةُ بذكاءِ الحاذقِ ، ويلون كلماتُهُ التي تعانق الحبَّ .. حبَّ الناسِ ، وحبَّ الوطنِ ، حبَّ الجمالِ وحبَّ الحياةِ ، وحبَّ المرأةِ ، والأصدقاءِ ، فكلماتُهُ ـ دائماً ـ تسحرُ القلبَ وتربكُ نبضاتِهِ.

كان الشاعر ينشر الحبِّ بين الملأ ، ويوزع البسمات العريضة ، ولا يتزحزح عن هذا السلوك ويكلف به . وصفَهُ جمعه الفاخري في دراسته الموسومة ب( السوسي قلب العاشق المدمن ) ، والمنشورة بمجلة الجليس ، العدد الخمس بقوله : ( إنه يصحو عاشقاً .. ينفضُ قلبَهُ ..يتنفَّسُ حباً عميقاً ليطمئنَّ أنه لا يزالُ على قيدِ الحبَّ ..قيدِ الحيَاةِ الجميلةِ ..قبلَ أن يمضيَ أنيقاً متعطَّراً مترصدَّاً حباً جديداً ..متربَّصاً بمعانٍ عصَّيةٍ متحيِّناً القصائد الفارهة المليئة .. يمدَّ لها قلباً مفعماً بالنورِ ليسقطها في شغافِهَ ، لإنتاجَها ولهاً ودهشة) .

يغلب على شعره الطابع الصوفيٌّ الملتزمٌ ؛ إلاَّ أنَّ روحَهُ ووجدانَهُ وكلماتِهِ تفيضُ بالحبِّ ، تنهلُ من معينِهِ الذي لا ينضبُ ، فقد تركَ في معاصريهِ وصغارِ المثقفينَ الذين افتتنوا بشعرهِ أثراً بالغاً ، كانَ لشعرِهِ وقصائدِهِ تأثيرٌ واضحٌ في عددٍ كبيرٍ منَ الشعراءِ الليبيِّينَ .. فشعرُهُ الجميلُ كما الحدائقُ ملأَت كلَّ القلوبِ المتعبةِ بعطرٍ فوَّاحٍ ، شذاهُ الشعريُّ العاطرِ ملحمَةٌ أسطوريَّةٌ من الحبِّ والجمالِ والدفءِ والتعابيرِ العميقةِ ، والألقِ الوجدانيِّ ، ولعلَّ الكاتبة تهاني دربى لم تجانب الصواب حين نعتته بـ ( شيخ الشباب ) في مقالها ( اختفاء الصدى ) المنشور في مجلة الفصول الأربعة ، العدد 64 _ 65 عام 1993م . في الملف الخاص بـ ( شاعر الغزل الخجول ) شاعرنا الراحل الكبير ، حين قالت: ( إنَّ قلبَهُ مازال شاباً في الوقت الذي يتوقَّع أن يكونَ فيه هرماً لا يحقُّ لَهُ أن يغزوَ أحلامَهَنَّ الورديَّةَ ، وهو صاحبُ هذا الشعرِ الورديِّ الذي يظهرُهُ شاباً يافعاً قادراً على تحقيقِ أحلامَهِنَّ ).

يوظف حسن السوسي صناعَةَ شعريَّةَ رومانسيَّةَ بجدارَةٍ ، كما أنه يهتمَّ بتجويد اللفظِ والمعنى والموسيقى ، مستغلاً براعتَهُ الفنيَّةَ لإيضاحِ أسمى اللحظاتِ الإنسانيةِ الرائعةِ ، فقد سجَّلَ لنا الأحاسيسَ والمشاعرَ ببراعةٍ مرموقةٍ ومميزةٍ .. كانَ تصويره واقعياً تماماً في معظمِ أشعارِهِ ، ولقد اعتنى بالمعنى ، مستخدماً عبقريتَهُ الفذَّةَ في تصويرِ الجمالِ البهيِّ فطارَ على جناحِ الرومانسيَّةِ بكلماتٍ فريدةٍ في غايةٍ الروعةٍ ، فهو شاعرٌ متقنٌ للغةِ الشعرِ ، ولغةِ الكتابةِ والتعبيرِ ، وهو حرفيٌّ ماهرٌ ، أدارَ شعرَهُ حولَ شتى مظاهرِ الجمالِ والحبِّ والحياةِ والوطنِ فأبدعَ في وصفِهَا جميعِهَا ، فصوَرُهُ الشعريَّةُ تعج بعدة آمالٍ وأحلامٍ تُبرزُ جلياً إنساناً حسَّاساً معتزاً بأصلِهِ ، متشبِّثاً بتقاليدِهِ وعقائدِهِ الدينيَّةِ .

إن إحساسُهُ العميق بالجمالِ ، وعذوبة لغتُهُ الثريَّةُ التي طوَّعَهَا بتجسيدِ أخيلتِهِ كما يبتغيها ، ونقلها لنا كما نشتهي ، فطاقَتُهُ الإبداعيَّة الواضحة قد خلقت تشكيلات إبداعيَّةَ جماليَّةَ متميزة ، إذ ترسمُ لنا توهَّجَ الفرحِ ، وعندَ قراءةَ أو سماعِ قصائِدَهُ نحلمُ باكتشافِ الجمالِ ، والدهشَةِ لشاعرِ أسطوريٍّ قدَ أشعلَ النارَ في جليدِ القلوبِ ، وتغنَّى للطفلِ وللعلم ، وبالرغيفِ والربيعِ ، فضلاً عن كل مظاهرِ الطبيعةِ الأخرى.

أبدع شاعرُنا الكبيرُ آلافِ الصورِ والجملِ والكلماتِ المنتقاةِ بذكاءٍ وحنكةٍ ، فهوَ شاعرٌ مرهفُ الحسِّ يتفيَّأُ غابةَ مشاعرٍ وارفةً ، شاعرٌ مزجَ الشعرَ بذاتِهِ فكانَ منَ القلائلِ الذين استطاعوا بحكمةٍ أنْ يجعلوا منَ الشعرِ منارةً مضيئةً في سماءِ الشعرِ والشعراءِ ، لغتَهُ قادرَةٌ على جذبِ الوجدانِ ، فهي تنطقُ بالحنانِ ، والحبِّ .
إنه يدعو للابتسامِ ونبذِ الحزنِ والكآبَةِ كما في الأبيات التالية :
تبسَّمْ إذا كانَ التبسُّمُ ممكناً
فإنَ التماديَ في الكآبة مهلكُ
وأشقى عبادِ اللهِ من باتَ ساهماً
يفكِّرُ والدنيا حواليهِ تضحكُ

أنجز حسن السوسي أعمالا شعرية خصبُة ، وجميلِة ، ورائعة الأسلوبِ والأدواتِ ، وقد وفَّقَ عبرَ مسيرتِهِ الشعريَّةِ الطويلَةِ الحافلةِ بالعطاءِ الشعريِّ الغزيرِ توفيقاً يدعو للإعجابِ والدهشَةِ ، ففي شعرِهِ الكثيرِ المثيرِ حرارةُ تعبيرٍ ، وصدقٌ في المشاعرِ ، وأحلامَهُ المجنَّحَةُ الشَّفَّافَةُ المرهفَةُ تمنحُهُ تأشيرَةَ دخولٍ إلى كلِّ القلوبِ العاشقةِ المتفاعلة مع الجمالِ …

يتميز أسلوبُهُ الشعري بالوضوح والبساطة ، والابتعاد عن الطلاسمِ والتعقيدِ ، ، كما يقارع عمقِ في المعاني ، والانفعالِ بموضوعاتِ قصائدِه ، ويستغل الفصاحةِ والبلاغةِ والتعابيرِ والصورِ والأشكال العذبةِ ، والموسيقى العذبة الرنَّانة .
نجد في نصِّ ( ابنتي ) مفاتيحُ لمغاليق جمال هذا النص الإنساني ، له إيقاع الوعي واللاوعي في عظماتِهِ حيث يشدُّكَ ويجعلكَ أو بمعنى آخرَ يجعلُ القارئَ أو المستمعَ إليهِ تسكنُهُ قوَّةٌ خفيَّةٌ تبهرُهُ في حرفِ النداءِ المكرِّرِ في الشطرِ الأوَّلِ ( يا دميتي _ ثم يا بسمة العمر _ ثم يا نشوةَ ) .
يا دُميتي ، يا بسمَةَ العمرِ يا نشوَةَ الإحساسِ ، والفكرِ

ينتقي الشاعر في هذا البيتِ الصورةَ التي تضئُ لنا أبعادَ ومفاصلَ النصِّ ، بدءاً من التقاطِ اللحظةِ الرائعةِ للطفولةِ إلى ابتسامةِ العمرِ ، إلى المشاعرِ في تناسقٍ جميلٍ ، ونغمٍ عذبٍ .. هذهِ الصورةُ الجميلةُ للطفولةِ جعلنا الشاعر نعانقُ فيها طفولتَنَا التي أسندَ إليها الشاعرُ ( الدمية ) ابنتَهُ الصغيرَةَ ، ومن خلالِهَا ندركُ فيضَ الحنانِ لدى الشاعرِ ، وعطفَهُ وشدَّةَ حساسيَّتِهِ ، وأيضاً رقَّةَ قلبِهِ ، تدَّلُ على تمكِّنِ الشاعرِ من أدواتِهِ الشعريَّةِ واللغويَّةِ لتحملَنَا إلى آفاقٍ أكثرَ عطفاً وصدقا ، ونبلاً .

يظهر عنصرُ التكرارِ البيت الموالي محوريا للغوصِ في الأعماقِ ، معَ المحافظةِ على الهدوءِ اللازمِ للتصويرِ التعبيريِّ معَ استخدامِ النماذجِ الطبيعيةِ كالنداء في عبارةِ ( يا زهرتي ) له أثرُهُ العميقُ فينا .

لقد ساعدت هذه الخصائصِ الجمالية والفكرية والتداولية pragmatic على إظهارِ جمالِ الكلماتِ بمعانيها ، واتقانُ نسجِهَا وترتيبِهَا بكلِّ تفاصلِيها المنوَّعَةِ التي لها أثرُهَا في التوجيهِ الفنيِّ الشعريِّ لرسمِ تلكَ المشاعرِ الأبويَّةِ الساكنَةِ فيه وفينا ، ولتستشفَّ فيه حسَّهُ المرهفَ الذي لازمَهُ في كلماتِهِ المنسجمَةِ والمترابطَةِ في نسقِ الكلمِ والصورِ:
يا زهرة ، ملأتْ مَحَاسُنَها عَيني ، وأنعشَ طيبُهَا صَدْري

تهز هذه الكلمات المعجمية البليغة المتلقِّي هزا ، وتخلخل معارفه من الأعماقَ في هدوءٍ ورفقٍ يستنطقُ الإلهامَ والإحساسَّ الداخليَّ المستكنَّ في أعماقِ كلِّ الآباء ؛ فنقاءُ هذهِ الصورَةِ ، وعذوبة وسلاسة المعنى وعمقه تدخلُكَ فضاءاتِ عالمٍ منَ البساطةِ والجمالِ زاخراً بالمعاني الراقيةِ ، ثم يصفُ ابنتَهُ بالجمالِ فيقولُ :
للهِ ، ما أحلاَك ، عابثَةً لا تَعْبئين َ، بكلَّ ما يَجْرِي
كَفَراشةِ البُسْتَانِ حَائِمَةٌ في الحقلِ ، من زهرٍ إلى زهرِ
تَثبينَ مِنْ كَتفي إلى صَدري أو تسكنِينَ هُنَاكَ في حِجْرِي

تظهر عاطفة وصورة الأب هنا قوية ، حيث يتمنَّى أن يرى ابنتَهُ كبيرةً ، فهي حبيبةُ عمرِهِ ، كما يظهر في البيتِ التالي :
فَمَتَى أراكِ ،حَبيبةَ الْعُمْرِ تثِبين مِنْ خمسٍ إلى عشرِ

يتجلى الصوتُ الشعري عند حسن السوسي قويا رصينُ يعانق قيم التصوَّفِ ، والمحافظة على المثل العليا التراثية التي لا تتنافى معَ الحاجةِ إلى الإحساس بالانتماءِ الإنسانيِّ .
لم تخلُ جل قصائده منَ الحماسَةِ لَهُ في أشعارِهِ ، ودائماً يستحضرُ مشاعرَهُ الإنسانيةِ ، ويستنفرُ همَّتَهُ العاطفيَّةَ من خلالِ استدعاءِ ماضيهِ الزاهرِ لإِسقاطِهِ على حاضرِهِ ، كما يظهرُ اهتمامُهُ بالمرأة بشكلٍ كبيرٍ ، فهي تتبُّوأ في شعرِهِ مكانةً خاصةً جداً ، فلا عجبَ إذن أن نرى إمكانيةَ رسمِ معالمِ شخصيتِهِ وتكوينِهِ من خلالِ مشاعرهِ ورهيف عواطفِهِ وأحاسيسِهِ ، كما أنَّ أفقَ خيالِهِ الذي يفيضُ بالسحرِ والروعةِ والجمالِ فيملأن بالدهشة والانبهارِ بما يتخلُّلُهَا من مضمونٍ وموسيقى ، وبمَّ أنَّ الاتجاهَ الرومانسيَّ الذي عكسَ نفسيَتَهُ ووجدانياته .

لقد كان حسن السوسي صادق العواطف ، واضح المشاعر ، والصدقُ دائماً هو أهمُ سلوكٍ يعكسُ القيمَ الإنسانيةَ الحقيقيةّ لأيِّ أدبٍ ، فهو يرفعُ من قدرِ الشعرِ ، ومنَ الذوقِ الرفيعِ . وكان شاعرا مُجيدا ، أسلوبُهُ مستقيمٌ واضحٌ لا اعوجاجَ فيهِ ، عواطفُهُ الإنسانيَّةُ الجيَّاشَةُ يدركُهَا أو يحسُّ صدقَهَا كلَّ الناسِ ، يقولُ عنْهُ الدكتورُ عبد الجواد عبَّاس في دراسِتِهِ عنهُ بمجلةِ الفصولِ الأربعَةِ التي حملت عنوانَ (( قراءات في الحب من ديوان الفراشة )) ، ص180 ( إنَّ اتجاهَ شاعرِنَا للحبِّ هو اتجاهٌ طبيعيٌّ ، وإحساسٌ إنسانيٌّ نبيلٌ بأنْ يعيشَ الحبِّ شاباً في أعماقِهِ ، وإنَّ الكهولةَ المزعومةَ ليست السببَ في عدمِ تعاطيهِ الحبِّ ، وإنما السببُ عقائدياً محضاً فسواءً أكانَ صاحبُ الحبِّ فقيهاً أو متديناً أو ورعاً أو داعراً فاجراً فهو إذا مسَّ قلباً صرعَهُ وأذلَّهُ ).
لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمَّةٍ إذا شئْتُ لمساً للثريا لمستُهَا
أتتني سهامٌ من لحاظٍ فأرشقَتْ بقلبي، ولو أستطيع رداً رددتُهَا .

يبسِّط حسن السوسي عوالمَهُ الشعريَّةَ للمتلقي العربي من خلال معجم شعري يتخيَّرُهَ ، ويفتحُ مكامنَ أسرارِهَ رهفٌ وعمقُ التجربَةِ ، ولأنه متجدِّدٌ دائماً ، كما وردَ في دراسَةٍ عنه للشَّاعِرِ علي الخرمِ نشرت بمجلةِ الفصول الأربعة في نفس العدد ص 184 بعنوان ((إضاءات حول الشاعر حسن السوسي وقصصه الشعرية)) بأنَّ الشاعرَ لا تتسرَّبُ الرتابةُ إلى عالمِهِ لأنَّهُ يجدِّدُ دائماً ما يستثيرُ الدهشةَ ، ولأنَّهُ يلمحُ دائماً ما يدلُّ على أن قدراً من براءَةِ الحياةِ قد استعصى عن الاندثارِ ، وفي هذه الخلفيَّةِ نستطيعُ أن نتذوَّقَ عذوبةَ ورقةَ الحبِّ الإنسانيِّ في شعرِهِ وأنَّ المرأةَ التي تلوحُ من بعيدٍ وليستِ المرأةُ التي تجلسُ قريباً منها بحيثُ تشعرُ حرارَةَ أنفاسِهَا ، المرأةُ عندَهُ مثلَ إلهٍ وثنيٍّ لا يمسُّ وهذا توجُّهٌ صوفي.

إنَّ الشعرَ عندَ حسن السوسي طبيعيٌّ يتمثَّلُ الإنسانيَّةَ ، وثمة صورٌ رائعَةٌ في عذوبَتِهَا ووصفِهَا ، وأيضاً في دلالَتِهَا وفي تناسقِ وتماسَكِ بنيانِها وفي جماليَّاتِها
ولعلَّ هذا سرُّ ما نراهُ في شعرهِ من سموِّ العواطفِ وحبٍّ للحياةِ والجمالِ .. شعرُهُ واضحٌ مما يسهِّلُ وصولُهُ للقلوبِ .. فحساسيَّةُ الشاعرِ العاليَةِ تهبُ لَهُ القدرةَ على رؤيَةِ الأشياءِ جميلةً ساحرةً ، فيطربُ لها طرباً ثم يطربُنَا بها ، ويحملُنَا على الفرحِ ، أو بمعنى آخرِ يُغْرِيْنَا بالتغنِّي مثلَهُ بالحبِّ وبالجمالِ والحياةِ.

يعد حسن من أبرز رواد القصيدة الكلاسيكية في الأدب الليبي الحديث فهو يكتب القصيدة الكلاسيكية بكل مقوماتها ويخوض في نفس الوقت موجة الحداثة بكتابة نصوص شعرية ذات إهاب حداثيّ.
لبني أمتي وعشق بلادي
لهما صبوتي وخالص حبي
ووفائي وشقوتي ورشادي
يقول حسن السوسي في نص (( امرأة فوق العادة )) :
من أعنيها لا تشبهها امرأة أخرى
يضحك في عينيها فرح الدنيا
وعلى شفتيها يندى الورد…وترسم البشرى
تلك امرأة أخرى
تلك امرأة فوق العادة.

ثانيا ) السبك والتركيبي والحبك الدلالي في بعض شعره

تركز دراستنا على عملين بارز للشاعر الليبي الكبير حسن السوسي، وهو قصيدة ( اشتهاء ) . إننا نتوخى من وراء هذه الدراسة تحديد النسق الشعري الذي يتأسس على كلمات مسبوكة تركيبيا ، ومحبوكة دلاليا ، إذ أن ضبطه يمثل إشارات دالة بالنسبة للمتلقي ، لأنه يساعده على معرفة طريقة الشاعر في بناء العملين ، وفهمهما ، وتفسيرهما بصورة جيدة .
يهتم الناظم في هذين العمل بعمليات الربط التي تمد الجسور بين كل العناصر ، وتساهم في الفهم ، والتأويل .
السبك التركيبي والحبك الدلالي عند الشاعر

إن علاقات الربط ، والسبك التركيبي syntactic cohesion بين عناصر الجمل الشعرية التي ينجزها حسن السوسي هي التي تؤسس البنى النصية المتماسكة بالنسبة لهذه القصيدة ، حيث تظهر تبعية ، أو اعتماد العناصر على بعضها . يقول في قصيدة ( اشتهاء ) :
علِّموني يا معشر العشاقِ
كيف يُفضي المحب بالأشواقِ
حينما يعجز الكلامُ عن البو
ح, وتعيا إيماءة الأحداق
كم تمنيتُ أن يكون لقاء
وتبلدت إذ يكون التلاقي
كنت جربت كلَّ شيء فلم يفـ
ـلحْ حديثي ولم يفد إطراقي
هي تدري بما أُعاني وتدري
بالذي قد يجولُ في أعماقي
وأراها كأنها لا تبالي
فهي تلهو بقلبِيَ الخفَّاق
كشفتْ بالدلال والمكرِ أسرا
ري وعرّتْ بكيدِها أوراقي
كلما رمتُ بالحديث اقترابا
صعدتْ بي في غير تلك المراقي
حمَلتني عنه بعيداً بعيداً
في مجال مُعَتَّم الآفاق
أكذا كل من أَحبَّ حبيبا
منه مثل الذي لقيتُ يلاقي
أشتهي أنني أوسِّدُ رأسي
موضعاً بين سَحْرِها والتَّراقي
أشتهي لو بكيتُ بين يديها
فعسى تطفئ الدموعُ احتراقي
وعساها ترقُّ حين تراني
لضياعي, وغربتي, وانسحاقي
أشتهي لو بكيتُ فهي كما أعـ
ـلم تهوى مدامعَ العشاق
فلتقل إنني ضعفت فحسبي
أنني بحت بالذي أنا لاق
هو لونٌ من الصراحة في التعـ
ـبِير مُزْرٍ.. إلا على المشتاق
كل من شفَّه الهوى فهو منسو
ب إلى هذه القلوب الرِّقاق
فلتقل إنني ضعفت ولم أصـ
ـمد لتيار سحرِها الدَّفَّاق
أتُرى عدتَ كالنسيم الوادعْ ?
أم ترى جئتَ عاصفاً كالزوابعْ?
عدتَ فاستشرفتْ إليك عيون
والمصلُّون بين داعٍ وخاشع
ما الذي فيك يا ترى خبأ الغيـ
ـبُ وماذا يكنُّ كُنْهُ الطوالع
فعسى أن يكون وجهك يمْنا
وعسى فيك أن تَقَرَّ المضاجع
كم لنا فيك ـ لو سمَحْتَ أمانٍ
ولنا فيك ـ لو أجبت مطامع
منك لاحت لنا بوادر توحي
بالذي أنت بالمحبين صانع
حدثتنا قلوبنا وقلوب الـ
ـمستهامين حَدْسُها لا يخادع
فلك الشكر لو أعدتَ حبيبا
ضاع منّي , وإنّني فيه ضائع
صار لي هاجساً يراوح قلبي
ذكرُهُ كلَّ ليلةٍ بالمواجع
ألفُ يوم مضت … ثلاثةُ أعوا
م على ذلك اللقاء الرائع
ألف يوم مضت … ثلاثة أعوا
مٍ وها أنت بعدهُنَّ الرّابع
فعسى أن يكون فيك لقاءٌ
وعسى زورةٌ لتلك المرابع
فلقد شفَّنا إليها اشتياق
وعلى ذكرها جفَوْنا المضاجع
ولك الشكر حين هيأت أسبا
باً وأمددتنا ببعض الذرائع..
.. حين هيأت أن نقول لهاتيـ
ـك على البعد واختلاف المواقع..
.. كلَّ عام وأنتِ يا حلوة العيـ
ـنين ملءُ العيون, ملءُ المسامع
كلَّ عامٍ ونجم سعدك يعلو
ظاهراً يُمْنُه على كلِّ طالع
كلَّ عام وأنتِ لحن شجيّ
تتغنّى به الطّيور السّواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ لفظ جميل
كالأغاريد .. تشتهيه السّوامع
كلَّ عامٍ وأنتِ حلم توخّا
هُ وتغفو له العيون الهواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ أنت كما أنـ
ـت أمانٍ تحنو عليها الأضالع
عدت يا عام .. ألفُ أهلاً وسهلاً
أيها المقبل السّعيد الطّالع
لو تمنّيتُ فيك بعض الأماني
وتكفّلتَ لي بما أنا طامع..
لتمنّيتُ للذي فقد القلـ
ـب ضميرا يهزُّه في المجامع

إن ضمير ( الهاء ) الموجود في كلمتي ( وأراها ) ، ( وكأنها ) يحيل على ما قبله ؛ أي على الضمير المنفصل / الغائبة المفردة ( هي ). تمنح هذه الوظيفية الإحالية الكلمتين المذكورتين ترابطا وشيجا ، مما يساعد المتلقي العربي على فهمهما كلحمة مرصوصة لا تنفصم جوانبها ، ولا تتقطع أوصالها .
تتنوع أنماط العلاقات الترابطية عند حسن السوسي ، إذ تظهر جلية من خلال عدة أدوات نصية تشكل نسيج القصيدة . إنها أدوات تربط بين الأقوال السابقة ، واللاحقة مثل (( الواو )) ، (( والفاء )) …

يمكن تقسيم علاقات العطف والتبعية التي تخلقها بعض الأدوات المستعملة في القصيدتين إلى أربعة أقسام :
1 _ العطف الإشاري الجامع : الواو ، بالإضافة إلى ذلك ، كذلك ، علاوة على …
2 _ المقابلة ، لكن ، إلا أن ، من جهة ، ومع ذلك …
3 _ السببية : هكذا ، وكنتيجة لذلك ، لهذا السبب ، يترتب على ذلك…
4 _ الزمنية : ثم ، بعد ذلك ، بعد ساعة ، أخيرا ، في نهاية المطاف .

تتنوع طرائق ارتباط أو تماسك هذه الأدوات النحوية بالجمل الشعرية ، وهو ما ينوع أيضا علاقات الترابط عند الناظم ، إذ إن الاستعمال المتكرر لحرف (( الواو )) في قصيدة ( اشتهاء ) يمكن أن يجعل منه عنصرا استبداليا شموليا بالنسبة لجل الأقسام الأربعة السالفة ، مع العلم أن العلاقات تبقى هي نفسها .
يقول الشاعر في القصيدة عينها :
…على ذلك اللقاء الرائع
ألف يوم مضت … ثلاثة أعوا
مٍ وها أنت بعدهُنَّ الرّابع
فعسى أن يكون فيك لقاءٌ
وعسى زورةٌ لتلك المرابع
فلقد شفَّنا إليها اشتياق
وعلى ذكرها جفَوْنا المضاجع
ولك الشكر حين هيأت أسبا
باً وأمددتنا ببعض الذرائع..
.. حين هيأت أن نقول لهاتيـ
ـك على البعد واختلاف المواقع..
.. كلَّ عام وأنتِ يا حلوة العيـ
ـنين ملءُ العيون, ملءُ المسامع
كلَّ عامٍ ونجم سعدك يعلو
ظاهراً يُمْنُه على كلِّ طالع
كلَّ عام وأنتِ لحن شجيّ
تتغنّى به الطّيور السّواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ لفظ جميل
كالأغاريد .. تشتهيه السّوامع
كلَّ عامٍ وأنتِ حلم توخّا
هُ وتغفو له العيون الهواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ أنت كما أنـ
ـت أمانٍ تحنو عليها الأضالع
عدت يا عام .. ألفُ أهلاً وسهلاً
أيها المقبل السّعيد الطّالع
لو تمنّيتُ فيك بعض الأماني
وتكفّلتَ لي بما أنا طامع..
لتمنّيتُ للذي فقد القلـ
ـب ضميرا يهزُّه في المجامع

تظهر في هذه الأبيات عدة أدوات وعلاقات من الترابط [ ( ف + عسى ) ، ( و + عسى ) ، ( و + على ) ، و + ذلك ) ، ( و + امددتنا ) ، و + اختلاف ) ، و + أنت: يتكرر هذا الضمير المنفصل كثيرا ) ، ( و + نجم و + تغفو ) ، ( و + تكفلت ) ، ف + قد ) ] ، والتسلسل المحكم ، والحبك للأحداث وتنسيقها :
1 _ تعليم العشاق الحبيب طريقة الإفضاء بالأشواق للحبيبة .
2 _ تعب الأحداق من كثرة الإيماءات .
3 _ التمني للقاء والبلادة عند التلاقي .
4 _ تجارب فاشلة تبرز عند الحديث والإطراق أثناء المقابلة .
5 _ جهل الحبيبة للمعاناة والصراعات الداخلية للحبيب .
6 _ تشبيه الحبيبة بالمرأة غير المبالية .
7 _ دلال ومكر الحبيبة من أجل كشف أسرار حبيبها .
8 _ صعوبة محادثتها ، وتهربها منه كل مرة .
9 _ اشتهاؤه سحرها والبكاء أمامها لكي ترق لضياعه وغربته وانسحاقه .
10 _ ضعفه وبوحه بمعاناته وصراحته في الهوى .
11 _ عجزه أمام سحرها .
12 _ تساؤله عن أسرارها وكوامنها .
13 _ طلبه للأمان منها وطمعه في حبها .
14 _ بوادر الحبيبة في التجاوب مع الحبيب .
15 _ مواجع الحبيب في كل ليلة .
16 _ مرور ثلاثة أعوام على اللقاء السابق .
17 _ تمني لقاء جديد في العام الرابع .
18 _ اشتياق الحبيب وجفاء الحبيبة وتذرعها .
19 _ حضورها بين كل جوارحه .
20 _ الحبيبة هي نجم السعد ، ولحن شجي ، ولفظ جميل ، وأمل ، وطالع سعيد ، وأماني عريضة .
21 _ تمني الحبيب فاقد الضمير الذي تهزه المجامع .

يتجلى الترابط أو السبك التركيبي والحبك الدلالي بصورة صريحة من خلال استعمال (( الواو )) الرابطة بين الفعلين الماضيين ( أمددتنا ) ، ( تكفلت) ، والفعل المضارع ( تغفو ) . إنها تربط بين جمل سابقة ، وأخرى لاحقة ، وتخلق نصا متماسكا . نجد حرف ( الفاء ) الذي يقوم بالعمل نفسه ( الحبيب يترجى اللقاء (( فعسى … )) ، ويترجى أيضا زيارة المرابع ، والاشتياق للحبيبة ) . تحتوي ( قصيدة اشتهاء) على ترابط ، وسبك ، وتناسق ضمني يفهم بكل سهولة ، قبل أن يتم التفكير في استخدام الحرفين الرابطين ( الواو + الفاء ) ، لكنهما مع ذلك يشكلان (( دعامة النص الشعري )) وبنيانه المرصوص عند حسن السوسي ( 1 )
تقوم علاقات الترابط أو السبك التركيبي الشعري بالنسبة للمقاطع المدروسة على عمليتي الوصل والفصل اللتين تتبلوران عن طريق :
1 _ الإحالة النصية co_ reference
2 _ الاستبدال substitution
3 _ الحذف ellipsis
4 _ الترابط المعجمي lexical coordination

تشيع الأدوات النحوية التي تخلق إحالات نصية داخل الإبداعات الشعرية الليبية والعربية ، إذ تظهر وظيفتها واضحة من خلال إحالتها على شيء آخر. تدفع هذه الأدوات المتلقي لشعر حسن السوسي إلى البحث عن معانيها ووظائفها في الجمل أو المتواليات التي تسبقها .

تخلق الإحالة النصية علاقات داخلية بين الجمل الشعرية ، مما يجعلها تلعب دورا مهما في الترابط أو السبك cohesion التركيبي المتماسك و الحبك coherence الدلالي المتناسق . تنقسم علاقات الإحالة الداخلية في بعض المقاطع الشعرية المحللة إلى قسمين :
أ _ علاقات إحالة إلى القول السابق .
ب _ علاقات إحالة إلى القول اللاحق .
نعانق في القصيدة المحللة عدة أبيات قد تم بناؤها باستعمال حرف ( الفاء ) كقوله
فهي تلهو بقلبِيَ الخفَّاق
**********************
فعسى تطفئ الدموعُ احتراقي
************************
أشتهي لو بكيتُ فهي كما أعـ
**************************
فلتقل إنني ضعفت فحسبي
****************************
كل من شفَّه الهوى فهو منسو
************************
فلتقل إنني ضعفت ولم أصـ
****************************
ما الذي فيك يا ترى خبأ الغيـ
***********************
فعسى أن يكون وجهك يمْنا
********************
وعسى فيك أن تَقَرَّ المضاجع
*********************
كم لنا فيك ـ لو سمَحْتَ أمانٍ
*******************
ولنا فيك ـ لو أجبت مطامع
*********************
فلك الشكر لو أعدتَ حبيبا
********************
ضاع منّي , وإنّني فيه ضائع
******************
فعسى أن يكون فيك لقاءٌ
*********************
فلقد شفَّنا إليها اشتياق
*******************
لو تمنّيتُ فيك بعض الأماني
********************
لتمنّيتُ للذي فقد القلـ
******************

ثالثا ) التناص الشعري

اهتمت جوليا كريستيفا الباحثة البلغارية بتحديد مفهوم التناص intertextuality بجل عناصره وتطبيقاته المتنوعة ، كما سار على منوالها عدد من الباحثين في المشرق والمغرب .

تضم الأقوال الشعرية عند حسن السوسي عدة إحالات خارجية تتعلق بالسياق أو المقام . نصادف في القصيدة إحالات داخلية تعتمد على الأقوال السابقة ، حيث يتجلى ذلك عن طريق التجاذب النصي ( gravitation text ( 2 ) مع المعجمات والتضمينات والاقتباسات التراثية المتنوعة :
1_ المعجم الديني : المكر ، الكيد ، التراقي ، المصلون ، الداعي ، الخاشع ، الغيب …
2 _ المعجم اللغوي : العتمة ، المزري ، شفه الهوى ، النسيم الوادع ، استشرفت العيون ، تقر المضاجع ، حدثتنا قلوبنا ، الحدس لا يخادع ، المرابع ، نجم سعد ، طالع ، السواجع ، أهلا وسهلا …

إن توظيف ضمير الغياب الخاص بالمفرد المذكر ( الهاء ) المتصل بحرف الجر ( فيه) يعود على السابق ؛ أي ( الحبيب) ، كما يبرز هنا أيضا التسلسل الإحالي والحدثي الذي تجسده هذه الكلمة في الآية الكريمة لارتباطها بكلمة ( الحبيب ).
تتكرر العلاقة النصية بين عدة جمل وصيغ شعرية يستعملها الشاعر حسن السوسي ، وذلك مهما تنوعت حالات الترابط الداخلي . نقرأ قوله في القصيدة المدروسة :
.. كلَّ عام وأنتِ يا حلوة العيـ
ـنين ملءُ العيون, ملءُ المسامع
كلَّ عام وأنتِ لحن شجيّ
تتغنّى به الطّيور السّواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ لفظ جميل
كالأغاريد .. تشتهيه السّوامع
كلَّ عامٍ وأنتِ حلم توخّا
هُ وتغفو له العيون الهواجع
كلَّ عامٍ وأنتِ أنت كما أنـ
ـت أمانٍ تحنو عليها الأضالع

قد تتكرر بعض الصيغ أو الكلمات المعجمية ، فتصبح البنية نفسها هي المشكلة لجوهر العلاقة بين أجزاء النص الشعري ، مما يدفع المتلقي إلى البحث عن أنواع الاستبدال أو الحذف بالرجوع إلى الجملة السابقة في القطعة ، كما يظهر من خلال التغيير التالي :
أ _ تكرار كلي للصيغة الشعرية
كلَّ عامٍ وأنتِ أنت كما أنـ
ـت أمانٍ تحنو عليها الأضالع
ب _ تكرار جزئي للصيغة الشعرية :
كل عام وأنت
يظهر التكرار الجزئي للصيغة الشعرية السابقة في قولنا المحول :
كل عام وأنت
أي [ الحبيبة ]
ج _ استبدال كلمة شعرية بأخرى :
يا دُميتي ، يا بسمَةَ العمرِ يا نشوَةَ الإحساسِ ، والفكرِ
حيث نستبدل كلمة ( دميتي ) بقولنا :
[ بسمة العمر = نشوة الإحساس = نشوة الفكر ]
د _ الإضمار لما يعود على كلمة سابقة :
لبني أمتي وعشق بلادي
لهما صبوتي وخالص حبي
ووفائي وشقوتي ورشادي

إن الضمير المتصل الخاص بمثنى الغائبتين ( هما ) يعود على الكلمتين السابقة ( أمتي + بلادي ) اللتين يجب ألا تتكررا لاحقا .

قد يتم أحيانا في هذا المستوى استبدال كلمة معجمية شعرية ببعض الصيغ النحوية المعروفة أو حذف كلمات معينة اجتنابا للتكرار ( 3 ) ، لذلك فعندما يصادف المتلقي العربي لشعر حسن السوسي بعض الاستبدالات أو أنواعا من الإضمار أو التكرار لبعض الكلمات والجمل ، فإنه يعود إلى الكلمات أو الجمل السابقة في القصيدة للبحث عن العبارة المناسبة للاستبدال أو الحذف . تخلق عمليات وعلاقات الترابط والسبك الموجودة في القصيدة المحللة نوعا من (( ترابط الشكل الشعري )) عند الناظم و(( ترابط الإحالات )) ، مما يخلق (( استمرارية المعنى المعجمي )) .
يمكن أن نجد أنواعا أخرى من الترابط الداخلي في القصيدة بالاعتماد على علاقات جديدة تتجاوز الإحالات النصية ، لكنها تستند في مجملها إلى العلاقات القائمة بين كلمات (( المعجم الشعري )) الذي يوظفه الشاعر ، مثل :
1 _ ارتباط الجزء بالكل : يظهر ذلك في عدة جمل شعرية ، كقوله :
صار لي هاجساً يراوح قلبي
ذكرُهُ كلَّ ليلةٍ بالمواجعيتضح أن ( القلب جزء مرتبط بكل الناس ) ، أو اعتبار ( المرابع ) نوعا من ( الفضاءات والأحياز ) أو المجالس الخاصة ، كما يظهر في أحد أقواله .
2 _ المجاورة والارتباط : نجد ذلك في قوله :
أيام غدت في الدور بنات الغرب سبايا
… واحدة للغزل وواحدة للرضع وثالثة للوطء
وتوفي عام قد اجتاز البوغاز رجال الغرب
إلى مدن دكناء يبيعون الدم والعرق الفوار
تتجلى المجاورة والارتباط في تعاقب ، وتسلسل الأيام بالنسبة لبنات الغرب السبايا وكذلك ارتباط فترات العام بالنسبة لرجال الغرب الذين عبروا البوغاز .
3 _ استبدال تركيب شعري بآخر : يمارس الشاعر هنا استعمال صيغ مكان آخر لكي يجتنب التكرار والتقرير السطحي في مجال القريض ، كقوله :
وبين مشارف صحوي ونومي توهج صوت لنا ولهم
أي : توهج صوت لهم كذلك ، وكذلك الحال بالنسبة لهم ، فكلمة ( لهم ) هي بديل لجملة ( توهج صوت ) .
4 _ الموازنة ( 4 ) ، حيث يقول حسن السوسي في هذا النحو :
وكان المنبت : أجدر ، أجمل ، أغنى ، أصفى
أي أن الموازنة تبرز أحسن من الآتي من الغرب أو الوافد والدخيل .
5 _ تكرار النظام نفسه : يستعمله الناظم كثيرا ، كما يتجلى ذلك من خلال هذه النماذج المختارة :
اسألوا واسألوا
اقرؤوا واقرؤوا
إن الأرض يا أهلي : موت في موت ، قبر في قبر
6 _ اتساق الزمن اللغوي : يبرز ذلك في تجاذبه النصي gravitation text وتضمينه لتراث قرآني كريم :
(( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ))
7 _ اختيار الأسلوب الخاص : نجد ذلك في قوله المتناغم :
هذا مرقد زين الناس ، وجيه الناس
ابن غريب الوجه ، ابن هجين الكلمات
تظهر الموازنة بين الكلمات : زين / وجيه ، غريب / هجين .
نجد أيضا أنماطا أخرى من الترابط ، والسبك في القصيدة ( اشتهاء ) ، كما يتضح في المقاطع التالية :
_ حاجز يمنع الضوء والريح
لو أن أمره كان لنا لأزلناه
لامتد في كل منحنى سبيل
فما كان باب هنا وهناك ليجدي
_ ما أمكن سماعه مرورا بالحلقة
هربا من يقيني إليكم
أما قد هربتم إلي سنينا هنا أو هناك

تتجلى حلقات متصلة وعروات وثقى من الإحالة النصية المشكلة . نجد عدة جوانب بنائية مرصوصة :
1 _ القلب ( اشتهاء ) يمنع الضوء والريح . أمر[ ه ] ليس لنا ؛ أي ليس لنا سلطة على القلب ( اشتهاء ) ، كما يجسد ذلك ضمير ( الهاء ) ، ونجد الأمر عينه في الفعل المؤكد ( لأزلنا[ ه ] ) ، حيث يحدد ضمير ( الهاء ) العودة على الكلمة السابقة ( القلب ) .
2 _ ( [ لا ] متد ) في كل مكان منحنى سبيل ، حيث يتم الربط عن طريق ( اللام ) المتصلة بالفعل ( امتد ) .
3 _ ( [ ف ] ما كان باب هنا وهناك [ ل ] يجدي
نجد في القصيدة المدروسة:
أ _ ( [ ما ] = الذي صلة وموصول ) أمكن سماعه مرورا [ ب ] الحلقة
ب _ هاربا [ من ] يقيني إلي[ كم ]

تبرز لنا بعض الضمائر العائدة وحروف التوكيد والعطف والجر المنتشرة بين طيات النماذج السابقة مدى تنوع الإحالات والروابط النصية عند حسن السوسي ، كما تتعدد الأدوات وصيغ العودة على الجمل السالفة واتساق الزمن اللغوي داخل القصيدتين ، وتتكرر بعض الكلمات وأنواع الجناس الصوتي والنفي ( فما كان ) .
تلعب علامات الترقيم : ( ، ) و ( …) و ( ! ) و ( : ) و ( ؟ ) و ( _ ) هي أيضا دورا مهما في بناء علاقات الربط والوصل بين الجمل الشعرية السابقة واللاحقة ، كما أنها تقوم بضبط وتجويد عملية التلقي الصوتي الوظيفي phonological الرائق والإخراج stagingالنصي الجميل لهذا القريض :
كان صوت المعاول يعلو ويخفت ،
إنهم يفتحون
هنا وهناك
إلى جهة البحر بابا
**********************
حاصرته المزابل
فامتد بين الصفيح
… وبين البروج التي هجرتها اللقالق
************************
بين الغبار وبين الدخان
! … وردتان
بين الأوجه حتى نحذر ، نسأل : أين يكون شتاء ؟
***************************
يغازلني اليـأس : ألا صعود
*********************
قالوا من غضب أو كفر ، والميناء
مناديل ، دمع ، ودعاء
بلدي _ شرفي
ديني _ عيشي

والواضح أن أدوات العطف ( الواو + الفاء ) هي التي تتكرر ، وتسيطر من منظور الإحصاء المعجمي ( تكررت 20 مرة ) على علاقات الربط والوصل بين الجمل الشعرية التي يوظفها حسن السوسي ، مما يجعل البنى النصية مرصوصة بإحكام .
تطرح دراسة السبك التركيبي ، والحبك الدلالي عند شاعرنا عدة أسئلة جوهرية من منظور لسانيات النص :
أ _ هل يتطلب النص الشعري عند حسن السوسي كل هذه العلاقات من الترابط ، والوصل من خلال استعمال الأدوات المذكورة لكي يصبح نصا فعليا في مجال الإبداع ، والنقد الشعريين بليبيا ؟
ب _ هل تعد المعايير التي ذكرناها كافية من منظور لسانيات النص لخلق ترابطات منطقية نصية بين ثنايا القصيدة المدروسة ؟
ج _ ما أهمية عمليات السبك التركيبي والحبك الدلالي في تحديد سمات (( النص الشعري )) عند الناظم ؟
إن علاقات الترابط النصي الشعري المؤلفة لنسيج العمل المحلل تخضع للسياقات ، والمقامات الموظفة ، وهي علاقات معنوية جوهرية تبنيها الأدوات المذكورة ، مما يجعلها تحمل في كنفها التحديد الدقيق لمقومات (( النص الشعري )) التي تميزه عن غيره عند حسن السوسي .
تتجلى علاقات أدوات العطف الرابطة بين الجمل الشعرية قوية وواضحة عند الناظم ، مما يمنح النص الشعري سماته الخاصة . يتم هذا العمل بواسطة وحدات لغوية تتجلى من خلال الجمل الظاهرة ( = الجمل السطحية ) وبعض العلاقات المعنوية الضمنية (5) . يقول الشاعر حسن السوسي في القصيدة المحللة
إنهم يفتحون
هنا وهناك
إلى جهة البحر بابا
********************
فما كان باب هنا وهناك ليجدي
لارتفعت عن مدانا سجوف
ها انتم تحت الأرض
البعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي
*******************************
هذا مرقد زين الناس ، وجيه الناس
ابن غريب الوجه ، ابن هجين الكلمات
لا تظهر العلاقات المعنوية المحبوكة واضحة بين الجمل الشعرية لأول وهلة ، لكن المتلقي يفترض بشكل طبيعي تعاقبها وتواليها داخل النص الشعري ، فيظهر فهمه عن طريق ربط الجملة الأولى بالثانية ، مما يفرض وجود علاقات معنوية مضمرة تجعله يقوم بربط الحلقة المفقودةMissing link .
يتحقق النص الشعري عند حسن السوسي على مستوى السطح ، من خلال بعض العلاقات المعنوية ومجموعة من أدوات العطف والروابط والضمائر العائدة .
لا يستطيع ترابط أدوات العطف تحقيق سمات فعلية مكتملة بالنسبة للنص الشعري عند حسن السوسي ؛ لأنه لا يخلق الترابط المنطقي . يقول الشاعر :
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
اقرؤوا واقرؤوا أيها القارون لنا ولهم
اسألوا واسألوا في ذهول الدعاء لنا ولهم
***************************
زمن الحرف المجروح ولغو الحانة والمقهى
زمن التلقيح ، ونقد الذات وسب الآباء

يظهر (( شبه )) ترابط بين الجمل الشعرية السابقة نظرا لوجود تجانس ظاهري بين (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره )) ، (( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وكذلك (( زمن الحرف )) و(( زمن التلقيح )) ، رغم عدم تكوين هذه السطور لنص شعري محبوك ، أو منسجم منطقيا ، لكن المتلقي يحاول إقامة الروابط بين هذه الجمل من خلال قراءته للجمل المتلاصقة التي تحوي علاقات التجانس أو التكرار لبعض الكلمات والأقوال .
الإحالة الشعرية الداخلية
يدفع هذا النوع من الإحالة المتلقي للقصيدة إلى البحث داخل النص عن الموضوع المحال عليه ، حيث يكتشف سلسلة من الإحالات المعتمدة على الحذف والإضمار والاستبدال لكلمة معجمية بأخرى . لذلك فإن المتلقي يتوغل داخل القصيدتين لمعرفة الإحالات اللاحقة على ( القلب ، الاشتهاء ) ليصل في النهاية إلى الجملة الشعرية الأولى ؛ ذات السلطة المهيمنة التي تساعده على تجاوز حدود النص الشعري عند حسن السوسي ، وربط قراءته بالعالم الحقيقي ( 6 ).

تؤدي كثرة استعمال الضمائر العائدة أو ضمائر الغياب ( هو ، هي ، هما ، هم ، هن ) إلى خلق (( إحالات طبقية )) تعانق القول الشعري السابق ، فقد ترد بعد كلمتي ( السور ) و ( القباب ) أو مرادفاتهما ورموزهما المضمرة والمكتنزة داخل القصيدتين مجموعة من الضمائر العائدة عليهما ، ولا يمكن أن يتم الفهم الجيد للقصيدة إلا بالعودة لهاتين الكلمتين الأصليتين أو لما يضارعهما أو يشير إليهما . تساعد هذه العودة على خلق ترابط داخلي بالنسبة للنص الشعري عند الناظم، كما أنها تنسج (( شبكة الإحالة الداخلية بدورتها الكاملة )) ، حيث تؤدي إلى ربط أقوال القريض اللاحقة بالسابقة ضمن سلسلة متواصلة (( العروات الإحالية )) تعانق الإحالة الأولى المتعلقة ( بالقلب ، بالاشتهاء …) .

تستند الإحالة الداخلية المساهمة في بناء النص إلى عملية الاستبدال ، كما يظهر ذلك في القصيدة :
كان ما بين دائرة السور والبحر
سرب نوارس
بينهما نجمتان
إذا عسعس الليل
بينهما الموج

يحيل ضمير ( الهاء ) الموجود في الجملة الثانية ( بينهما ) على القول المثنى الموجود في الجملة الأولى ، وهو ( السور والبحر ) ، مما يضطرنا للرجوع إلى الوراء لربط الأقوال اللاحقة بالسابقة ، حيث تلتحم كلها ( بالقلب / الاشتهاء ) ومرادفاته أو رموزه المتنوعة لتكوين مضمون النص الشعري بأكمله ، وليس مجرد مجموعة من المرجعيات والإحالات .
والظاهر أن الإحالة الشعرية الداخلية في الجملة الثانية تتعلق هنا (بالاشتهاء) ، لكن لابد للمتلقي من فهم صورة دائرة هذا ( القلب ) التي تتغير ، فهي تبدو في الجملة الأولى متداخلة الخطوط يخترقها سرب من طيور النورس الجميلة ونجمتان بارزتان ، وفي الجملة الثانية يتجلى المشهد ساحرا تحت جنح الظلام الدامس المنتشر ، حيث يتغير الوصف والصورة . لذلك فإن عودة المتلقي إلى الأقوال السابقة قد تفشل في فهم النص الشعري نظرا لتغير الأوصاف والصور بسرعة ، خاصة بالنسبة للجمل أو المتواليات الخطابية الطويلة . تتجلى صعوبة الإحالة الداخلية نظرا لعدم وضوح العلاقة بين المسند والمسند إليه واختلاف الصفات والتوابع المتنوعة بين الأقوال والمتواليات اللاحقة والسابقة . يتطلب هذا الموضوع وجود نموذج معين لعملية الفهم ، مما يساعد على خلق سيل من السمات المرتبطة بالأشياء المتغيرة داخل مسار الخطاب الشعري .

يتم الاستبدال بين الكلمات المعجمية عند حسن السوسي بالاعتماد على عملية التكافؤ والتساوي بين وظائفها التركيبية والدلالية ، مما يجعل خطابه الشعري يقوم على نموذج لساني مرصوص العلاقات والوظائف التي تجعله مؤهلا لاستضافة مختلف الروابط والتوابع المشكلة لنصوصه ، كما أنها تؤسس جسرا متينا بين الإحالات الداخلية والخارجية .
يستعمل الشاعر / المتكلم في القصيدة عدة موارد لغوية لبلورة علاقات الترابط بين الأقوال ، لكن هذا الأمر يطرح بعض الأسئلة :
أ _ هل يملك المتلقي فكرة واضحة عن عمل الشاعر حسن السوسي على مستوى السبك التركيبي والحبك الدلالي ؟
ب _ هل تعد علاقات الترابط الموجودة داخل القصيدتين مكتملة ؟
ج _ كيف يمكن للمتلقي معايشة هذا الخطاب الشعري لحظة إنجازه ؟
د _ ما هي الأسس والقواعد التي يعتمد عليها المتلقي لفهم المسمى الذي يقصده الشاعر حسن السوسي ؟
ه _ ما صيغ الأقوال والمتواليات الشعرية المحيلة ؟
تعانق الإحالة الشعرية الداخلية الأقوال والمتواليات الخطابية المرتبطة بأجزاء متنوعة في القصيدة المحللة ، حيث تلعب الضمائر العائدة دور الريادة . يتوقف نجاح

هذه الإحالة على مستوى فهم المتلقي للمسمى الذي يقصده الشاعر عن طريق الكلمة المحيلة ، مما يجعله يستوعب بدقة (( رسالة القريض )) الموجه إليه.
إن فهم المتلقي للمسمى الذي يقصده الشاعر / المتكلم يلعب دورا مهما في تحليل الأقوال والمتواليات الخطابية المحيلة بمختلف صيغها . يعتمد هذا الفهم على (( الوظيفة الإحالية )) للجمل التي تركز على قصد الشاعر / المتكلم بالاعتماد على سياقات ومقامات معينة .
يقوم إنتاج الشاعر حسن السوسي لقصيدة ( اشتهاء ) على تصوره الخاص لبعض الحالات الموجودة في العالم ، كما أن المتلقي لهذا العمل يبني تصورا خاصا عنهما بالاعتماد على الحالات التي يعرضها عليه الشاعر ، مما يخلق اتصالا خطابيا بين الطرفين ، لكن التفاعل بينهما يبقى تجريديا ويشيع عدم التكافؤ الفطري بين تصور الاثنين ( = وجود فرق بين نموذج الشاعر ونموذج المتلقي ) .

والحقيقة أن المتلقي يملك تصورا جزئيا وناقصا عن تصور الشاعر / المتكلم ، وهو عبارة عن انعكاس ضئيل للحقائق الموجودة في العالم ، لذلك فإن المتلقي يفهم ما يصله من الشعر الليبي بناء على تصوره ومعرفته عن العالم .

يوظف الناظم في القصيدة المحللة أقوالا شعرية تعتمد على تصوره الذي يحيل على شيء معين ، يجعله يهتم بالسمات المرتبطة بتصور المتلقي لكي يفهم المسمى المقصود ، لذلك يفترض توفر تجربة مشتركة عند الطرفين بالنسبة للعالم والتقاليد الثقافية والوعي بالسياق وطرائق الاتصال .
يستعمل الشاعر بعض الكلمات المعجمية النكرة مثل : باب ، حاجز ، سبيل نافذة ، شيء ، بكائية ، دمع ، سلام ، غمام ، شتاء ، ريح ، وقت ، موتى ، ذرة ، خير ، صعود ، هتاف ، عام ، مرقد ، أرقام ، صفوف ، بصر ، بصيرة ، سبايا ، مدن ، غضب ، مناديل ، دعاء … لعرض كيانات جديدة مفيدة تساهم في بناء الخطاب الشعري الليبي المعاصر ، إذ أنه يرمي من ورائها إلى إثارة انتباه المتلقي إلى وجود كائن مفرد يحيل عليه القول الشعري الموظف ، ويجعله قادرا على فهم الشيء المشار إليه دون أي إبهام . يصعب استعمال الكلمات المعجمية الشعرية النكرة للإحالة لأنها تخلق غموضا في السياق ، مما يفرض في هذا المستوى توظيف أسماء إشارة وظروف مكانية تحقق القصد المطلوب . يقول الشاعر:
إنهم يفتحون
هنا وهناك
إلى جهة البحر بابا
*****************
فما كان باب هنا وهناك ليجدي
أما قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) فنجد فيها :
أما قد هربتم إلى سنينا هنا وهناك
************************
ها أنتم تحت الأرض
*************************
ألبعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي

لقد ركزنا في هذه الدراسة المتعلقة بالحبك التركيبي والسبك الدلالي عند حسن السوسي على الضمائر العائدة والإحالات الداخلية المنتشرة بين ثنايا القصيدة المحللة ، كما أننا قد تعاملنا بالدرجة الأولى مع هذا الموضوع من وجهة نظر الشاعر / المتكلم والمتلقي.
يساعد فهم طريقة عمل الضمائر العائدة وضمائر الغياب المستترة على فهم طبيعة الإحالة الداخلية وعملية الإضمار والاستبدال لبعض الكلمات السابقة واللاحقة

تعتمد دقة عمل الضمائر والإحالات على مستوى فهم واستنتاج المتلقي لكل ما يتعلق بالكلمات السابقة واللاحقة المساهمة في بناء القول الشعري المعني . يقوم الشاعر بصياغة (( رسالته )) عن طريق ربط المعلومات والمعارف الجديدة بالضمائر العائدة بغية منح المتلقي طريقة لفهم جديد ، لكن هذا الأخير قد يعكس طريقة خاصة لتحديد ماهية المرجع ويصبح أكثر ثقة على معلومتا ومعارف الشاعر يمكن فهمها دون أي غموض .
إن تأويل مرجعية الضمائر التي يستعملها الشاعر حسن يرتكز على نوعية المسند والمسند إليه ، كما أن المتلقي قد يتنبأ بنتيجة الضمائر الموجودة بين طيات بعض الأقوال الشعرية ، لكن الكيانات التي تحيل عليها تكون محدودة .

والحقيقة أن تصور الشاعر ، وتصور متلقيه للخطاب الشعري ليس متطابقين تطابقا تاما ، مما يجعل المتلقي يخلق تأويلا محددا للمرجع المعني تبعا لأقوال الشاعر . لذلك يصعب تصور نوع الحجج التي يقدمها الشاعر حسن السوسي لبيان قصده .

يوظف الشاعر الإحالة الداخلية للوصول إلى (( جوهر موضوع الخطاب )) الذي يتم إنجازه في ظروف طبيعية ، مما سيؤدي إلى تفعيل البحوث اللسانية الخاصة بالتماسك التركيبي والدلالي في مجال القريض الليبي ، ويقدم طرحا رائدا لفهم وظيفة الضمائر في عمل النظم الموزون (7) .
الوظائف الشعرية في القصيدة
تتوفر القصيدة المدروسة على عدة (( وظائف شعرية )) تنبع من دوافع مهمة ، حيث يقول :
1 _ انفتاح السور على عالمين مختلفين .
2 _ فتح باب جهة البحر في السور خلق عملا وحركة دائمة .
3 _ صورة للمناظر المنتشرة بين دائرة السور والبحر .
4 _ حصار المزابل للسور يغير امتداده بين الصفيح والبروج المهجورة .
5 _ الحاجز يمنع الضوء والريح .
6 _ بكائية عميقة على الموتى والموجودات في المحيط .
7 _ السؤال عن غياب طائر الخطاف في الشتاء .
8 _ الريح المتحدية للموت واندحار الأصوات ورمزها العميق .
9 _ سلام للعشب والنهر اليابسين ودلالة أيام العمر العجاف .
10 _ تلاوة القرآن للرحمة والدعاء وثقافة صلابة العقيدة محليا .
11 _ السكون واليأس يهاجمان نفس المتكلم ، فتتبعثر أوراقه وخططه.
12 _ الاندحار والخوف يعيثان في الربوع فسادا .
13 _ حوار مع القهر المتسلط المتبجح .
14 _ بيان لضعف الإنسان ومآله الهالك .
15 _ مصيبة عام الجراد والجوع وهوية الناس المستضعفين في الأرض .
16 _ إصابة الناس بالجدري والرمد واختلال الأنفس والمعايير .
17 _ السبايا من بنات الغرب وفعالهن .
18 _ عبور رجال للبوغاز يغير بعض أحوال البلاد والعباد .
19 _ علاقة البلد والشرف والدين والعيش بفلسفة المتكلم .
20 _ ظهور الحرف الجريح وكثرة اللغو والتلقيح والمحاسبة وهجاء النسل للأنساب والقيافة .
21 _ المشهد الثقافي المحلي يقدم صورا للاتصالات المتنوعة .
22 _ صدى حكايات الناس والمدينة وأثرها في الورى .
23 _ تجليات أعمال الفاعلين والنائمين والشاربين ورموزها في المحيط
24 _ هموم وعذاب نفس المتكلم من خلال المثبطات المحيطة .
25 _ الانطلاق من البداية وتنوع المشاعر والخطط .
26 _ فلسفة الفناء في الأرض والطبيعة وأثرها في النفس .

_______________

نشر بصفحة الكاتب.

مقالات ذات علاقة

سموُّ اللغةِ وعُمقُ الصورةِ الشعريةِ في (لعلهَا شجرةٌ بعيدةٌ)   

يونس شعبان الفنادي

اللغة الليبية القديمة واللهجات البربرية (1 من 3)

عبدالمنعم المحجوب

تاريخ العملة الليبية

المشرف العام

اترك تعليق