النقد

قراءة في نص “قصائد راكضة” للشاعرة سهام الدغارى

من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد
من أعمال التشكيلية والمصورة أماني محمد

 
حين تكون القصيدة كائن..كيان مستقل يتحرك عبر الزمن يملك الحس بالإتجاه وإرادة الإختيار نكون حينها أمام مشهد ينبض بالصورة والحركة وهذا ما تريده سهام الدغارى..أن تضعنا مباشرة في قلب الحدث _ المشهد_ لذا هي لا تستخدم لغة الوصف بل تستخدم الحال( قصائد راكضة) فهي تحوّل لغتها الشعرية إلى شاشة تتتابع فيها الصور المتلاحقة بعناصرها المتحركة التي تتخذ ملامح ثلاثية الأبعاد _ حلم يمشي فوق العشب.
 
“كل القصائد راكضة للوراء
تقتفي أثر حلم قشيب
حلم يمشي فوق العشب دون أن تبتل قدماه”

 
تفاجئنا الشاعرة إذ تتقمص شخصية الحلم لتقول لنا أنها لا تحلم بل هي نفسها الحلم وهي القصيدة.. هي تركض إلى الوراء لتقتفي أثر نفسها حين كانت حلما يمشي فوق العشب _ البساط الأخضر الندي _ دون أن تبتل قدماه! فكيف للحلم أن يكون حقيقة وهي تعرف أن الحلم لا ينبغي له أن يمس الواقع وأنه مجرد حالة شعورية تستدعي صورا أقرب ما يكون الى الواقع لكنها ليست واقعا لهذا السبب لا تبتل قدما الحلم!
إنها لا تريد أن تلوث الحلم بالواقع بل تريد أن تبقيه حلما. إنها فقط تريد أن توحي لنا بذاك الإحساس الغض النضر وذلك العالم المليء بالجمال الذي أتت منه، والذي ترتدي الآن إهاب القصيدة وتتنكر بثوب الحلم لتركض لاهثة إلى حيث ذلك العالم الذي تتملكها الرغبة في أن يحتويها مجددا، لذا هي تركض وتركض للوراء ..إن فعل الركض بذاته هو حركة مندفعة إلى الأمام يغذيها شعور بالرغبة توجهه إراده واعية نحو هدف ما.. أما أن يكون إلى الخلف، فهو دون شك ارتداد أو نكوص يوحي برفض الاتجاه إلى الأمام ورفض البقاء حيث هي . ما يترجم رفضها للواقع، فهي تنأى بحلمها_ الذي هو صورتها القديمة التي تركض إثرها الآن_ عن كل سلبيات وخيانات الواقع
 
“لم تسفع ناصيته أخيلة الوهم
لم يُصلب فوق سواحل الكلمات
ولم يأكل الظلام من رأسه”

 
إلى هنا تختتم الشاعرة هذا التقمص داخل القصيدة _ الحلم _ وهذا المشهد البانورامي لتعود بنا إلى حالة سردية لتنقلنا من داخل الصورة إلى خارجها، وكثيرا ما تلجأ الشاعرة سهام الدغارى إلى فواصل سردية تتنقل بها خلال قصائدها من مشهد إلى آخر ومن فكرة إلى أخرى.
 
“هكذا كانت تحدث نفسها وهي تلملم أطراف المساء وتقطع في الثانية أذرع وفراسخ”
 
نعم إنها تعود بنا الآن إلى النص لتحولنا مجدداً إلى قراء نخوض معها
مسافة الذكريات واستدعاء الخواطر لتقول لنا إلى أين تتجه عبر هذه المسافات اللاهثة التي تركض نحوها بقصائدها وتفصح عن نوايا الكلمات لتقول في شبه اعتراف
 
“تريد أن تصل إلى أقصى أنينها
أن تُقبل شفاه الجرح
ثم تُعلن الغناء جهارا
وكأنها ولدت على هذا النحو”

 
إنها تريد أن تمضي إلى نهاية الألم وتصل إلى أقصى الأنين.. أي أنها تريد أن تقطع مسافة الألم لتتركه وراءها دون عودة وتتصالح مع جرحها (تقبل شفاه الجرح)
وتريد أن تستبدل الأنين بالغناء، أن تمنح نفسها فرصة لأن تغني.. لا أن تئن ألما (ثم تعلن الغناء جهارا) ولن يكون ذلك ادعاءً أو ازدواجا لشخصيتها أو تزييفا لمشاعرها فهي لا تنوى هذا بل تريد أن تبدو كما لو أنها (ولدت على هذا النحو) هنا تجسد الشاعرة غايتها النهائية.. أن تصل إلى حالة تشبه العودة إلى الماضي.. العودة إلى نفسها لحظة ولدت مشاعرها وتهيأت.. لتبدأ من جديد في عملية إعادة تكوين _هدم وبناء.
 
“تهدم اللحظة لتبني ما بعدها
تدون كل الأشياء وتدعي أن وعكة ألمَّتْ بذاكرتها”

 
لكن ما لم تستطع حقا أن تهدمه ولا أن تتخطاه أو تمحوه من حياتها والذي رافق كل مسافات هروبها المحمومة وركضها اللاهث هو في الحقيقة ما يبعث الروح في قصائدها
إنه الحب.. الذي ظل في مكانه مختبئا خلف الذكريات والمسافات والذي تتهاوى مقاومتها وتلقي برحالها عنده
 
“ولكنها عند أقرب التفاتة منه
تتهاوى
لينتهي المطاف بِـ”أحبك”

 
أليست نهاية جميلة؟؟
 

مقالات ذات علاقة

حوار.. وآخر!

نورالدين خليفة النمر

الحرب في قصيدة النثر الليبية

جمعة عبدالعليم

النفيس للأستاذ خليفة التليسي

محمد خليل الزروق

اترك تعليق