السجن
النقد

قراءة في نص [زنـزانـات] للقاصة فهيمة الشريف

السجن
السجن

نص “زنزانات” للشاعرة فهيمة الشريف نص تصويري بامتياز يرسم لنا صورا متتابعه علي مستوى المكان والزمان والشعور في سرد عميق جدا و رائع .
هذه المشاهد المتتالية التي تكثفت ممتزجة بعمق التصوير للمشاعر وتفاعلها مع المكان في انتقال من زنزانة الي اخرى من مشهد الي مشهد اعمق كلما توغل في المكان توغل في الشعور ونكاد نشاهد نمو اليأس الذي يبدأ بدخول ظلمة السجن والاحساس برطوبة الجدران وبدء تأثير وحشة وصمت وانعزال المكان في شكل أمواج سوداء بكل ما تحتوية من رهبة وخوف ويتحول الليل الي شيء كأخطبوط يمد اذرعته المتعدده ليبتلعه الي داخل الظلام . في المشهد التالي تظهر القضبان ؛ تلك الحواجز الحديدية التي قد لا ترمز الي السجن المجرد ، بل الي كل ما يحجز المرء داخل حيز ضيق من اليأس والعجز ، فهي تمنعه من الخروج سواء بصلابتها الحسية اوالمعنوية ، لكن القضبان في هذه الزنزانة لا تقف فقط حاجزا صلدا يحول دون الخروج ، بل هي تزأر في وجه السجين كلما حاول الاقتراب منها بل وتهاجمه مخالبها !

القاصة فهيمة الشريف.
القاصة فهيمة الشريف.

تلك المخالب التي تنشب داخلة هي حقيقة الخوف الذي يشده من الداخل ، والزئير هو حقيقة الخوف الذي يهاجمه من الخارج ، تتحول القضبان هنا الي اكثر من عائق ملموس يحتجز المكان بل هو يحتجز الروح والارادة معا،فتنتكس الارادة وينكمش التوق الي الحرية وتبدأ محاولة التماهي مع المكان والامتزاج به ، يتجلى ذلك في لعق الماء المندى علي الجدران، وتحسس هذه الجدران والارضية الملساء ، واستنشاق رائحة العفونة انها محاولة للروح ان تأخذ شكل المكان كما يتخذ الماء شكل الوعاء الذى يسكب فيه ، لعله نوع من رد الفعل الدفاعي الذي يحاول فيه العقل استيعاب المكان والتآلف معه بشكل ما انتظارا لأمل بالفرج او بالخلاص والانطلاق بعيدا . وهذا ايضا ليس سوي وسيلة دفاعية وفكره من العقل الباطن تحمل علي التصور ان هناك امل بالخروج لكي يضع الوعي في حالة من الانتظار والترقب ، وهو مجرد دفاع يائس ضد الاستسلام والاحباط ليس إلا، فالحقيقة انه لاشيء سوى الظلام والسواد والجمود والصمت والقيود التي تجعله رهين ظلمته. تداهمه رطوبة المكان ويشعر بها كالرذاذ او المطر . والمطر لايهطل الا علي الارض المفتوحة التي لا تظللها سقوف ، أي انه اتجاه غريزي الى السماء بعد أن اقفلت كل الاتجاهات واحاطته الجدران من كل مكان ، الا انه لا برق ولا رعد ، بمعنى آخر ليس هناك سماء يمكن ان يرى فيها التماع البرق ولا فتحة يمكن ان يسمع منها صوت الرعد ، يخبو ايضا هذا البارق الذي لاح لوهلة او اختلقه الخيال ، وتعود حقيقة السجن المظلمة تداهم وعيه ، فيحدث انهيار داخلي عميق يظهر في اقترابه من الجدار ثم ميل رأسه الي الزاوية ..الصاق خده بالأرض.. واخيرا افتراش العفونه . انهيار روحي ، انهيار جسدي في مشهد عميق. هذا الانهيار هو ايضا غياب عن الوعي الحسي فيما يشبة الغيبوبة أو النوم حيث لا يزال العقل الباطن يبعث الصور تباعا في حالة من تداعي الافكار والمشاهد تدخله في حالة من اليقظة الزائفة التي تشبه الـ(Somnabulism) “المشي أثناء النوم” لكن هذه اليقظه في زمن الطفولة ..هي دون شك حالة هروب وانتكاس الى الداخل والبحث في عالم الطفولة عن الحرية المفتقدة لكن هناك ما يشوش هذه الصور المنبعثة من عالم الطفولة ، اذ ان واقع السجن المظلم المرير لا يزال يلقي بظله بكثافة علي كل محاولات العقل التخلص منه ، وعندما تتضح هذه الصور لا يجد فيها سوي مرارة طفولة بائسة بأيامها القاسية ورحيلها ومعاناتها ، بدت هذه الصور واضحة الي درجة انها اخفت ظلام زنزانته وبدأ يراها بوضوح شديد.

راى نفسه كهلا خارجا من طفولة مثخنة بالالم بذكرياتها وصورها المؤلمة . ويدرك ان الهرب الي زمن الطفولة كان فاشلا في اخراجة من الوحشة والظلام فتمنى ان تزول هذه الصور لكنها تأبي الزوال وتظل متشبثة بذاكرته مسيطرة على وعيه لقد استدعاها واحياها بكامل سطوتها فاستحوذت على وعيه . وهنا لا تجد روحه ملاذا آخر ويبلغ الالم منتهاه ويصل الي نقطة الانفجار فيبكي . لان البكاء هو الملاذ الاخير وانهمار الدموع هو آخر ما يمكن للوعي ان يفعله ازاء تراكم الالام والاحزان والدموع وحدها هي المنفس الاخير للانفجار الداخلي الذي عجزت الروح عن احتماله. لاشيء يدمر داخل الانسان مثل الفجيعة. ويكشف لنا النص اخيرا ان هذا السجن في الحقيقة هو فاجعة من فواجع هذا الدهر وجدرانه هي عيون ونظرات الشفقة التي تحيط به من كل جانب. وقضبانه هي مشاعر الحرمان ونبذ الحياة وسجانه هي العتامه والعمى….

وهكذا قدمت لنا الكاتبه هذه المشاهد الخمسة عشر في صور زنزانات افضت في النهاية الي زنزانه واحدة هي حالة الظلام التي قد تصيب الانسان وتسجنه بلا جدران ولا قضبان…

مقالات ذات علاقة

احتفاء

ناصر سالم المقرحي

لماذا تبهرنا كتابات الفـاخري؟*

محمد عقيلة العمامي

شعرية المكان في شعر يوسف إبراهيم

عبدالحفيظ العابد

اترك تعليق