النقد

قراءة في “قصيدة إنهم ينتظرون قصيدة” للشاعرة حواء القمودي

د. نبيلة سالم الطاهر

الشاعرة حواء القمودي
الشاعرة حواء القمودي

تنطلق اللغة الشعرية في هذه القصيدة للتعبير عما يُفتعل في النفس من انفعالات، فنجد الذات الشاعرة تُملي على نفسها بعضا من مجازات دلالية متخطية اللغة المعجمية رغم مباشرة الحوار، وتظل لغة السهل الممتنع هي اللغة المهيمنة على النص الموسوم بـ”إنهم ينتظرون قصيدة”. حين قراءتنا لهذا النص نلاحظ تصاعد المحتوى الشعري بقدرة الإحالة إلى ما هو أرحب شعرية وأكثر دفقًا في السياق الرمزي. أول ما نقرأ “العنوان” بوصفه أول مفتاح إجرائي يمنح المتلقي اختراق مغالق النص، إذ يمثل “علاقة دالة تكثّف البنية الكلية””1” للنص، تظل دلالته أعلى سلطة نصية باذخة الحضور.

تنطلق بنية السرد بالحكي بصيغة الغائب: “إنهم ينتظرون/ إنهم بانتظارك/ يسمونك قصيدة جديدة”، هذا الحكي يشير إلى استحضار شخصيات عبرت عنها الذات الكاتبة بصيغة الغائب في حين نقرؤها أشد حضورا. شخصيات تنتظر ميلاد قصيدة جديدة.

ولأن لغة الشعر تتجاوز العزلة لترتمي في أحضان المشاركة، فإن الذات الشاعرة تمنح المتلقي مشاركتها بوحا يختلج النفس بعمق يؤثت لمشاهدة تصويرية آنية حينا واسترجاعية حينا آخر، ويشيد حوارا روحيا يتجلى في عالم خاص تُشخّص فيه القصيدة لتكون هي المخاطَبة الحاضرة وحوارها هو المهيمن على النص.

تأكيد فعل انتظار القصيدة يشير إلى دلالة أهميتها عند الذات الشاعرة، أما تسميتها بالجديدة فذلك أمرُ يثير تعجب الذات الشاعرة التي تعتبر هذه التسمية مجرد اجترار لغوي، بينما تمنحها سمة روحية فتارة تشبهها بالمطر: “إنهم ينتظرون هطولك في روحي”، وتارة تشخصها إذ تبوح بتشكيل قسمات وجهها بين يديها. إنهم ينتظرون “تشكّل قسمات وجهك بين يدي”.

تتوق لغة النص الشعرية إلى الوصف والرمز، فتزيد من قوة النص دون أن تجعله طلاسمًا، إذ تعبّر الذات الشاعرة بلغة المجاز بعفوية مطلقة بعيدة عن التكلف؛ لتمنح المتلقي لذة القراءة والتأويل. نقرأ تشكّل قسمات وجه تلك القصيدة بين يدي الذات الكاتبة وهي فاغرة القلب ترقب انهيار هذا العالم الموصوف بالخراب، حيث الدم غطى البياض، فطغت قُتمة لون الدم وعتمته على نصاعة البياض وصفاءه. ما هذه الصورة إلا إشارة إلى تكثيف دلالة الخراب الذي حل بعالمنا اليوم. أما صورة الصلوات التائهة التي لم تعرف أين تذهب فتلك دلالة أخرى لخراب هذا العالم، حيث غياب الوازع الديني جعل الصلوات تتوه وهذه كناية عن أن المصلّين لم يطرقوا بابها منذ زمن فكانت الحيرة ولم تعرف طريقها..  سرعان ما تعود الذات الشاعرة لتأكيد فعل الخراب ووصف هذا العالم به، ليصير نهاية المطاف مقبرة: “نعم هذا العالم صار مقبرة”.

رغم سلبية الصورة الشعرية التي صورتها لغة النص الواصفة؛ إلا أن الأمل في انتظار القصيدة لازال حاضرًا. هذه المرة الذات الشاعرة هي من ينتظر القصيدة وليس أولائك المنتظرين فقط: “وأنا أنتظرك” تنتظرها وتسمع وقع خطواتها الواجفة.تكرار فعل الانتظار هنا يضع بين أيدينا مفتاحا للفكرة المتسلطة على الذات الشاعرة، لأنه “يسلط الضوء على نقطة مهمة وحساسة في العبارة، ويكشف عن اهتمام المتكلم بها شيئا فشيئا””2”.

رغم سلبية الواقع المر إلا أن بارقة الأمل في النجاة من منه  لازال حاضرا، فالشمس لازالت تشرق والنسائم تداعب خدود الصبايا، والبحر لا ينسلخ عن ذاته فلا يغادر زرقته. هنا تتحول الحالة الوصفية من السلب إلى الإيجاب، حيث الاسترجاع الذاكراتي والعودة بالذكرى إلى أحضان الطفولة وعالمها البهيج وما يحتويه من حب وجمال  وضوء وخطيفات تخبر الذات الشاعرة بأن طفولتها مخبوءة تحت جناحها، كل هذه الهبات، تمنح القصيدة  هطولا وطيرانا والمشي حافية، فتكون مطرا تارة، وتكون يمامة تارة وطفلة بريئة تحب المشي حافية تارة أخرى…

صارت “القصيدة المنتظَرة” حاضرة بقوة بعد كل هذا البوح، فالذات الشاعرة تصرح بكتابتها بصيغة الحاضر: “فأنا أكتبك”، كما تشير إلى أن كتابتها لها تمنحها روح المقاومة، فتقاوم بها هذا العالم الخرب، وترسم عالما بهيا لن يضاء إلا بهذه القصيدة المنتظرة: ” أقاوم الخراب بك/ وأرسم عالما بهيا تضيئه قصيدة/ قصيدة ينتظرونها”.

قصيدة الشاعرة حواء القمودي:
“إنهم ينتظرون قصيدة”

“إنهم في انتظارك
يسمونك قصيدة جديدة
يترقبون هطولك في روحي
تشكل قسماتك بين يدي
وأنا فاغرة القلب
أرقب هذا العالم الخرب ينهار
الدم يغطي البياض
والصلوات لم تعرف.. أين تذهب
وأنا أنتظرك
وأتسمع وقع خطواتك الواجفة
نعم
هذا العالم صار مقبرة
لكن الشمس تشرق والنسائم تداعب خدود الصبايا
والبحر لا يغادر زرقته
والخطيفات تخبرني أن طفولتي مخبوءة تحت جناحيها
وثمة ولد يترقب قبلة
من فم حبيبته الشهي
هناك الكثير من الحب
والجمال
والضوء
لذا يمكنك الهطول
والطيران
والمشي حافية
فأنا أكتبك
أقاوم الخراب بك
وأرسم عالما بهيا تضيئه قصيدة
قصيدة ينتظرونها”


1 – اعتدال عثمان، إضاءة النص، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1988، ص 36.

2- نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، مكتبة النهضة، بغداد، ط2، ص242.

مقالات ذات علاقة

الشاعرة عائشة ادريس المغربي.. عاصفة الحب؟!

حواء القمودي

الوفاءُ للمكانِ والبيئة في “حكايات شارع الغربي” عند المرحوم خليفة حسين مصطفى(*)

يونس شعبان الفنادي

ملحُ الفكرة !!

عبدالباسط أبوبكر

اترك تعليق