قراءات

قراءة في رواية تيوليب مانيا لوفاء البوعيسي

غلاف الكتاب الذي يشغل وجهي الرواية الامامي والخلفي، والذي يحتل فيه المركب المهجور على ارض معشوبة، الغارق في لونه الرمادي واطيافه مساحة واسعة، تحت السماء الملبدة بالغيوم، يضع النظرة الاولى على الرواية بالتساؤل عن فحوى الانتظار للراكب القادم لهذا المركب المهمل، الذي ربما تحنو علية يد لتعميره او سيبقى هكذا ديدنه، الصمت والانتظار والهجروالدود الذي سينخره. عنوان الرواية مقتبس من فكرة إن التوليب الذي تشتهر هولندا بإنتاجة وتطويره وتسويقه، في أصله جلبه الهولندون قبل عدة قرون من تركيا، لكنهم حولوه مصدراً لجمال طبيعتهم وحياتهم اليومية وزاويا بيوتهم وتطوير اقتصادهم، وصارت هولندا هي الام الحنون لهذا الورد. هذا الغلاف وعنوان الرواية هما المفتاح لعوالم وشخصيات الرواية.

رواية_تيوليب مانيا

مسرح احداث الرواية هو احد مراكز استقبال طالبي اللجوء في هولندا، بعد اجتيازهم التحقيق الاولى في مراكز تقديم طلبات اللجوء، في هذه المراكزتحتشد اعداد كبيرة من طالبي اللجوء ومن بلدان متنوعة، تستمر الاقامة في هذه المراكز من عدة اشهر الى سنوات عديدة، حتى يحسم وضع طالبي اللجوء اما بالرفض كما في معظم الاحوال والطرد من هذه المراكز بدون اي مساعدة حقيقة لغرض اجبار طالب اللجوء للعودة لبلده الاصلي او حصوله على الاقامة والانتقال الى عالم المجتمع الطبيعي. حسب معلوماتي فأن هذه الرواية هي الاولى في تناول موضوع كهذا، بكل تفاصيله اليومية، رغم الكتابات المتنوعة عن علم الهجرة والغربة واللجوء. فالكاتبة ترصد بعين فاحصة ولغة سردية مكثفة حياة طالبي اللجوء، هذا المعذب، الباحث عن الخلاص في بلد التيوليب، تتتبع الرواية بتأنٍ وصمت ومثابرة الخيوط التي قادتهم الى هنا، لترسم لوحة مجسمة لمقدار الالم والعذاب لهؤلاء الذين هربوا من جحيم بلدانهم ومسارات العذاب والاذلال وتقديم كل ما يمكن تقديمه من اجل الوصول الى هنا.

في الرواية يمتد خطان متوازيان في السرد. الاول يتمثل في قصص طالبي اللجوء في فترة 2008-2007، وهي متعددة ومتنوعة حيث يشغل العراقيون الجانب الاكبر فيها. فرغم رحيل النظام الساقط واحلام العالم المُزهرالموعود، الا ان العراقيين بقى لهم الحيز الاكبر في طلبات اللجوء. شخصيات وعوالم اخرى من ايران، سوريا، الصومال، الجزائر، المغرب واحداث تدور في تركيا واليونان باعتبارهما اكبر محطتي العبور. بموزاة ذلك، يجري توثيق حكاية الكاتبة نفسها ولقضية طلبها اللجوء بالأسماء والتواريخ والامكنة. تلعب الكاتبة على طوال الرواية صلة الوصل بين خطي السرد المتوازيين باعتبارها راوية، شاهدة او جزء من الحدث.

هي قصص لشخصيات حقيقة في معظمها، جمعها محور واحد وتداخلت فصول هذه القصص بعضها ببعض بطريقة تلعب فيها المفاجئة والتشويق دوراً كبيراً في سرد متواصل وعميق، ذي نغمات وضربات مختلفة ما بين القاسي والحاد وبين الشوق والرقة، بين الغضب والانتفاض وبين القهر والانكسار. يُغريك السرد بحيث لا تمل المتابعة على امتداد الرواية الطويلة لشخصيات جاءت من اعماق الجحيم. في كل سردها تسعى وفاء البوعيسي لسحب البطانة الداخلية لهذه الشخصة والكشف وبشكل متواتر عن مكنون هذه الشخصية او تلك، من توصيف حركتها ولهجتها وملبسها وتاريخ واحداث بلدها. تسعى للكشف عن الوشيجة او الوشائج المكانية لهذه الشخصات في المكان الذي تتحرك فيه او الاحداث الدائرة فيها، بذلك تزيد هذه الوشائج المكانية من دقة وجمال التصوير القلمي لهذه الشخصيات، وتعمل على تأصيلها وتجذيرها. سرد الاحداث في كل الشخصيات يتم على ثلاثة مستويات. يبدأ من ظهور الشخصية في عالم الرواية عبر معيشتها او تواجدها في مركز اللجوء، ثم يرتد السرد لماضيها في بلدها ويترابط هذا الامر بسرد رحلتها وعذابها للوصول لارض ( الميعاد). عن طريق السرد والحوارات والاخبار والتوصيف تنمو الشخصية وتتكامل. لم تتدخل الكاتبة او تتلاعب بمسيرة شخصياتها، كي تعطيها قدر واسع من المساحة للتعبير عن نفسها قدر تلاعبها بالطريقة الفنية بهذا العرض مما يعكس مهارتها ونضج خبرتها. شخصياتها تبقى عالقة في الذاكرة، لكونها جزء من حياتنا سواء ما مررنا به، وبالذات نحو العراقيين الذين تمزقت اقدامنا وارواحنا في مسيرة طلب اللجوء.

في درب الآلام هذا احرق معظم المهجرين او المهاجرين اخر مراكبه في بلده وليقع فريسة في ايدي المهربين حتى ان يداه لم تسترخي لحظة واحدة عن الدعاء بالعثور على مهرب شريف او نصف شريف او من بقى لديه شيئاً من الغيرة. صور هؤلاء من مهربين، قوادين، سراق، نساء منتهكات الكرامة وشرطة مرتشية وغيرها من الوجوه التي تحكمت بعالم وحياة الباحثين عن اللجوء لها مكانها في الرواية.
تبحرالرواية في عوالم متعددة ومتنوعة، هي عوالم شخصياتها ولكنها مرسومة ومؤطرة بالعذاب، ويبقى التساؤل على مدى صفحات الرواية، لماذا هذا القدر الغيرالمحدود من العذاب والالم وامتهان كرامة الانسان وإذلاله في هذه البلدان؟ اية جريمة ارتكبوها كي يمروا بهذا النفق الذي ينزع كرامتهم، سوى قدرهم، بكونهم مواطني هذه البلدان. حياة هذه الشخصيات هو في معظمها مشاهد من فلم رعب، دورات العذاب والموت فيه لا يعرفها حتى منتجوه. وفاء البوعيسي تعيد تفكيك هذه الصور التي قد تبدو للوهلة الاولى ساكنة بلغة ملغومة، متمردة لكنها صادقة، تريد ان تنفلت من رسم حروفها، ما ان تلامس حروف كلماتها حتى تنفجر بذلك الحقد المقدس على من يهين كرامة الانسان. استخدمت وفاء البوعيسي اللهجات المحلية لكل طالب لجوء في حواراته. هذا ما اكسب الشخصيات تاصيل اكثر وشحن اجواء الحوار وعكس الجهد المبذول في بناء الرواية، رغم ملاحظة ان اللهجة العراقية التي استخدمتها الشخصيات العراقية في الرواية بحاجة الى التدقيق سواء في الصياغة او الكتابة.

انتقت وفاء البوعيسي شخصياتها بفطنة وهي بالعموم تعكس مجتمعات الرثاثة التي تعكس بتركيبها السياسي – الاقتصادي – الثقافي وكذلك ببناها الاجتماعية، سيادة العنف والقسوة والاذلال كطريق اساسي في حركة المجتمع. لذلك كانت شخصياتها قلقة، مضطربة، مشروخة نفسياً، فهي لا تستطيع ان تغادر مأساتها ولا تستطيع ان تحلم بمستقبلها، بل ان معظم حاضرها في مهب الريح. يجمع هذه الشخصيات محور واحد كما يبدو لي وهو أزمة الهوية. هذا التمزق للهوية الوطنية بالذات باعتبارها هوية جامعة، التي هي اصلا هوية هشية في بلداننا ولاسباب عديدة، يضاف لذلك التمزق في الهوية القومية، الدينية او الجنسية الذي يخلق كتل بشرية مأزومة، مضطربة. تمزق الهوية الوطنية كما في العراق، هجم بيوت الناس على رؤوس أصحابها. العراقيون كما في شخصية ابو أحمد وهو السني المتزوج من شيعية والساكن في الكاظمية، التي يساورها الشك بعد زواج طويل بان اجداد زوجها ربما شاركوا في قتل الحسين. رياض الكردي المتزوج من عربية وشهبور السني الباحث عن المواطنة والحرية في الدولة الشيعية الايرانية، كما يعلم الامن والمخابرات السورية الشاب الكردي ديدار، كيفية البحث عن هويته القومية في سوريا العروبة. كريمة الجزائرية الجملية البضة، شوه الفقر والحاجة كل حقها الطبيعي في الحياة الكريمة وحولها البعض بما فيهم اخيها، الى مشروع جنسي معروض للبيع والاستثمار. هيبوا الصومالية التي يسرق منها صراع القبائل والمليشات الاسلاميتة ما لم يسرقه الجفاف والجوع والقحط. شخصية بولقاسم/ ليلى، الرجل المغربي المولد في جسد امرأة والباحث عن هويته الجنسية في مجتمع تحدد التقاليد والاعراف والدين اطار حركته.

تتجسد روح المثابرة عند وفاء البوعيسي، عند تناولها وتوصيفها لاماكن لم تعرفها او تزرها، ولم تكن حتى قريبة من بيئتها. هي مغامرة ليست سهلة لانها لا تمس بنية الحدث فقط وانما تمس بنية السرد وشكله. وفاء لا تكتفي بعرض الاحداث والمشاهد بروايتها فقط على لسان الشخصية وانما ياتي ايضا عبر توصف الكاتبة المعتمد على البحث والتقصي عن المعلومة والمكان وغيرها، مثلا هذا التوصيف الجميل لمزار ابو لؤلوة المجوسي والطقوس المقامة فيه ودمج الروح القومية الفارسية بالطائفية في الدولة الايرانية (ص86-89). مناظر المجازرالبشرية وبشاعتها وتمرغ جسد هيبو الصومالية في اكوام الجثث، حد شعور القارئ بالغثيان (ص 241-242).

روح المباثرة والبحث كانت معبرها الامين بما عزز من بنية الرواية، ورغم ذلك فان البوعيسي لم تكتفي بالعين الفوغرافية او الصورة الصحفية وانما طورت اسلوبها لتشعل العديد من الاسئلة، منها كيف يكون قبر ابو لؤلؤة المجوسي في طهران في حين انه ُقتل على يد ابن الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب في المدنية؟ وما هي علاقة ابو لؤلؤة المجوسي بالثأر للحسين ولآل البيت. نجاح المغامرة بالجهد الذي لم يعرف الكلل، يمتد الى العديد من الاحداث والاماكن وطريقة اثارة الاسئلة والتي لا تخطئها عين القارئ.

المحور الموازي لهذا السرد، توثيق وفاء البوعيسي حكايتها في ليبيا ومع نظام القذافي فقد سبق للكاتبة ان اصدرت روايتها الاولى (للجوع وجوه اخرى). تم مصادرة الرواية مباشرة بعد اصدارها ولم تتاح فرصة لتوزيعها. بالمقابل اصدر مفتي ليبيا فتوى بتكفير الكاتبة. الفتوى شحنت الاجواء بالعداء واندفع الشارع الليبي بعقلية مشلولة ضدها وتعرضها للتهديد والمطادرة من قبل اشخاص وجهات حتى لم تكلف نفسها حتى قراءة الرواية، فالكل من هولاء يسعى لان يكون محامي الشيطان، وهو سلوك لا يعدو غريبا في مجتمعات الرثاثة.

نظام القذافي بدل ان يقوم بحماية الكاتبة باعتبارها مواطنة مبدعة، من إرهاب الاسلامين، سعى لتحويل الكاتبة الى جزء من الحريم الثقاقي للنظام. الشهادة معززة بتفاصيل دقيقة تعكس ازمة المثقف في بلدان الرثاثة حين يصبح المثقف بين سندان السلطة ومطرقة الاسلاميين، اللذين يشكلان وجهان لعملة واحدة في الموقف من التفكير المستقل للكاتب في مجتمع تتحكم فية سلطة الديكتاتور وديكتاتورية رجال الدين الذين يعتقدون بانهم ظل الله في الارض. تفاصيل لقائها بالقذافي والتي استدرجت اليه ووصف القذافي وسلوكه (ص 366- 378) والحوار الذي داربينهما وروح النرجسية والاوهام التي يخلقها حول نفسه او ما يصوره له حواريه، تشكل فصول وثائقية وفنية في الرواية. وهي بشكل أو أخر تمثل نفس وجوه وسلوكيات ديكتاتوري المشروع القومي. حين جاءوا كانت الناس تخاف على مشروعهم الذي وعد الناس خيراً ولم تمضي سنوات طويلة حتى اصبح الناس يخشون منهم وتلعن اليوم الاسود الذي جاءوا فيه.

في عرضها تحاكم وفاء البوعيسي قوى الاسلام السياسي المتنفذة في حياة الناس في ليبيا وايران والعراق والصومال. هذه المحاكمة لم تاتي على اساس نظري او فقهي وانما باستدعاء تفاصيل الخراب والدمار والموت المجاني والقتل العبثي والسرقة وامتهان حقوق الانسان واسقاط مفهوم المواطنة وخنق حرية التعبير وحرية التفكير المستقل وحرية الحياة، تفاصيل لم تسعى هي لخلقها وانما سطرتة من حكايا شخصياتها. وفي نهاية روايتها، كما يبدو لي، هناك مستوى رابع من السرد (المخفي)، يتشكل بشكل سؤال في ذهن القارئ، مَن من تلك الشخصيات او غيرها ممن مروا بنا او مررننا بهم سيتحول الى تيوليب مانيا.

رواية تيوليب مانيا 439 من الحجم الكبير، اصدار مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، الطبعة الاولى 2013، افتقدت صورة الغلاف لاسم مصممها، وافتتحتها الكاتبة بعتبه (كل يوم من ايام الحرية، هو كفعل من الايمان، وإن كان يعني انني لا بد من أن أموت، محاولة العيش) جديرة بالقراءة فهي تشكل صفحات من وجوهنا التي ضاعت منا في اوطاننا وفي ملاجئ الغربة وطرق الوصول اليها.

مقالات ذات علاقة

إنّي أُصغي لندائك

مهند سليمان

“طرابلس أم المدائن”… قراءة في قصيدة الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح

ناصر سالم المقرحي

“والعكس صحيح” فيلم عن الإنعكسات النفسية للحرب في ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق