النقد

قراءة في ديوان (صديقة الشيطان)

فتحي بن عيسى

الكاتب الصحفي فتحي بن عيسى يقرأ صديقة الشيطان


بداية لست من متذوقي ما يعرف بالشعر الحر، وأتعامل معه كنص نثري، وإن أسموه (قصيدة النثر)، وبالتالي فقراءتي للديوان ليست معنية بالأسلوب الشعري، فهذا أمر لا أفقهه، وإنما أستنطق النص في محاولة لفهم مقصد المؤلف ورسالته.

منذ تصفحي للغلاف، ثم العنوان، مروراً بالنص الأول (موطأ قلم)، أدركت أني أمام نص ثائر على التفسير الذكوري للدين، تمارس صاحبة النص نقداً فكريا لموروثات تحولت بفعل التكرار والزمن إلى مسلمات دينية غير قابلة للنقاش.

اختيار العنوان كان ذكيا ولماحاً، (صديقة الشيطان)، إذ ورد في الأثر منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في دلائل النبوة، والأصبهاني في الأمثال أنه قال : (النساء حبائل الشيطان)، أي مصائد الشيطان.

كما ورد أيضا منسوبا له عليه الصلاة والسلام قوله : (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان)، وقد رواه مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد.

ومن هنا قرعت (هناء) أول جرس صادم (صديقة الشيطان)، لم لا، طالما إن المرأة لا تعدو عن كونها “مصيدة للشيطان”، تتقمص شخصيته ويتقمص شخصيتها، وفي تقديري اسم الكتاب أو الديوان جاء مستفزا للعقل يحثه على التدبر والفكر ليعود إلى الأصول لنعلم عندها كم جنينا على الدين قبل أن نجني على المرأة.

وعززت (هناء) التي أرى أنها لا تقل رتبة عن من نطلق عليهم مفكرين ومبدعين، عززت فكرتها في طريقة اختيار غلافها وكيفية تصميمه.

أرضية سوداء اشارة إلى ظلامية الفكر الذي ننظر من خلاله للمرأة، وفي هذا السواد صورة لشخصية تدير ظهرها لنا ترتدي لحافا تقليديا خاصاً بالرجال ناصع البياض، في اشارة إلى أن الأصل أنصف المرأة وأن النظرة الدونية لا علاقة لها بالأصول ولا بالرجولة وإنما هو الهوى.

ما أن تقلب الغلاف حتى يواجهك غلاف آخر تُظهر شخصية من كان في الغلاف الأول نظنه رجلا، فإذ به امرأة بهية الوجه وضاءة، في اشارة إلى أن المرأة كائن لا يقل منزلة عن الرجل، متمسك بأصوله يفرق بين الثوابت والمتغيرات دون افراط أو تفريط.

من الغلاف ننتقل إلى الاهداء، وفيه اكتفت (هناء) بالقول (أو الخيبات تهدى).

لقد اختصرت بهذه الكلمات الثلاث رسالة ديوانها أو كتابها أو وهو الأقرب في نظري (فكرها) بأن ما خطته على الورق هو آهات موجوع تحفه الخيبات من كل جانب، فرغم انصاف الشريعة للمرأة إلا أن السدنة ممن صبغوا الدين بصبغة ذكورية جعلوا منه جحيما تصطلي بناره المرأة، فهي تقبل وتدبر في صورة شيطان، وهي حبائل الشيطان، وهي والشيطان في منزلة واحدة، واي خيبة أعظم من أن يخيب رجاؤك في انصاف من ترجو انصافه سبحانه وتعالى عما يصفون.

من الإهداء نلج إلى نصها الأول المعنون بـ(موطأ قلم)

هذا النص في رأيي يمثل بداية أكثر من موفقة، فهي تقر بأن الإنسان عندما يكتب يكون متحررا من كثير من القيود التي تفرضها المجالسة والمواجهة كالحرج والمجاملة، لهذا بدأت قائلة: (على الورق .. أكون عارية) والعري هي صفة لازمة للحقيقة والصدق.

كما إنها تقر بصعوبة الخوض في قضيتها (خطر التفسير الذكوري للدين) بقولها (أمشي حافية) في اشارة إلى أنها تخوض معركتها الفكرية والنقدية دون أي حماية لها، معلنة أن لب عملها الذي جمع بين النص الابداعي والنص السجالي هو قولها (أرشق التقاليد)، وأرى أنها استخدمت بعناية لفظة (الرشق) لإدراكها بصعوبة هدم التقاليد أو التخلص النهائي منها، مكتفية باستثارة تفكيرنا لنعيد النظر في المسلمات التي نشأنا عليها دون تفكير.

سلاحها في هذه المعركة الفكرية كما تقول (حبر وقافية) وصرخة (ملء حنجرتي)، معلنة رفضها (للقبيلة) حارسة التقاليد وراعية تفضيل الذكور على الإناث.

ولأنها تخشى تربص المتربصين نبهت أنها (تتأبط المجاز) فلا ينبغي الوقوف عند ظاهر النص، وإنما الغوص فيه، قائلة (أعتق الحرف وأثمل).

من هذه المقدمة انتقلت تعرف بنفسها وبديوانها فيما يشبه التمهيد بقولها أنها (صبية الشمس) والصبية مرحلة عمرية مفعمة بالحيوية تتوق للمعرفة، لا تقنعها المسلمات دون براهين، مقامها مقام خليل الله إبراهيم عندما طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموت، فسأله الله أو لم تؤمن يا إبراهيم، فكان الجواب (بلى ولكن ليطمئن قلبي)، فلم يوبخه الله أو ينكر عليه حقه في المعرفة وطلب البرهان، وقدم له تجربة عملية.

أما الشمس فرمز الحقيقة عندما تسطع تنشر الضوء فنعرف الطريق، وتبث فينا الدفء فنطمئن.

ثم عرفت نفسها بما يعرفها الناس به، أنها تقبل وتدبر في صورة شيطان، فقالت (صديقة الشيطان)، لتتوجه لمن سيقرؤها بالقول (إن كنت تسكن العتمة) إشارة لظلامية الفكر وانغلاقه، بعيد عن سعة رحمة الله وطهارة القلب (ولست تحضر .. زواج السماء والبحر) اشارت بالسماء لسعة رحمة الله وبالبحر للطهارة (فهو الحل طعامه الطهور ماؤه)، فمن كان بلا رحمة وبلا طهارة (فاته بذلك ميلاد الأفق) في اشارة إلى بُعد النظر والغوص في المعاني. مؤكدة أن من يقف على ظواهر النصوص فـ(لم تسمع يوما.. مغازلة الريح القمح.. أهازيج الحفيف) عليه أن يتوقف عن القراءة، بقولها (فامض) وتمنت أن يتركها في حال سبيلها قائلة (اغضض طرفك عني، واستعذ بالله من الضوء ولا تقرأني)، وهنا اقرأ سخرية فالله لا يستعاذ به من الضوء، وكأنها تقول لكم دينكم ولي دين، أو هنيئا لكم ضوؤكم فاتركوا لي ضوئي، وهنا كم تمنيت أن استخدمت لفظة (الآلهة) بدلا من الله، فهم حقيقة لا يعبدون الله وإنما يعبدون آلهة ما أنزل الله بها من سلطان.

ألجم قلمي عن المواصلة تاركا المجال لم سيقرأ الديوان الفكر، أن تكون له قراءته الخاصة، فكان غرضي أن أضيء زاوية أخرى من زوايا قراءة النص والتعامل معه، وليكون في هذه القراءة (الإنطباعية الخاصة بي) جوابا على سؤال متكرر لما تحمستُ للديوان ونشرته مكتبة الكون.

مقالات ذات علاقة

العــدّاءة

حواء القمودي

أزمنةُ الاغـتراب في المجمُوعة القصصيَّة “شـواطئُ الغُــربة” للقاص د.خالد السَّحاتي

المشرف العام

وقفة عند مواكب جبران

عادل بشير الصاري

اترك تعليق