من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قراءات

قراءة تحليلية نقدية لقصيدة (لاممكنات) للشاعر “جمعة الفاخري”

د.نجاة عمار

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

لامناص من قراءة قصيدة تحمل لغة عالية ،لا ممكنة المحاكاة، أمتعنا بها الشاعر جمعة الفاخري ،جاءت كلماتها بلون زخات المطر، وصورها بسحر أساطير الزمن المشرق ،فرأيت أن أستمتع بقراءتي الأولى دون تلمس لتلك الجماليات المفتوحة على أفق لا محدود ؛ فوجدتها قصيدة من الشعر الحر السابح في إيقاع جميل،يسري نغمًا لذيذا أخَّاذًا، يرافقنا منذ الحرف الأول ، مكونا بنية نصية مشبعة بالرمز ، الإيحاء فيها سيد الفضاء الشعري .
النص الشعري :
لا وقتَ لارتشافِ لِبَاءِ القَصِيدَ..
وَهْيَ تَهْصُرُ ضَرْعَهَا فِي أَفْوَاهِ الفَرَاغ ..!
======
لا مُبَرِّرَ لهشِّ عذارى الهوى ..
وهنَّ يُمَشِّطْنَ رُمُوشَ الغِوَايَةِ
بمشطِ اللَّهْفَةِ الذَّهَبِيّ ..!
=====
لا ضرورةَ لإغماضِ عينِ قمرٍ مراهقٍ
يتنهَّدُ إزاءَ عاشقينِ يتنابزانِ قبلاتٍ
تُضْئُ العِنَاقَ..!!
=====
لا تَصَالُحَ مَعَ عَرَاء ..
يُرْسِلُنَا خَطِيئَةَ لِذَاذَاتٍ مُرائِيَةٍ
======
لا تَوْبَةَ لِمَارِقَةٍ تَتَرَحَّقُ حِمَمَ الشَّبَقِ الكفورِ
مُمَسِّدَةً جَسَدًا مُنْتَهَكًا
بغسلينِ اللَّعَنَاتِ.. !
======
لا حَاجَةَ لتسمِيَةِ القُبْلَةِ
وَرَحِيقُهَا يُهَدِّدُ العَسَلَ بِالْنُّضُوبِ مَرَارَةً
======
لا مَنَاصَ مِنَ البَصْقِ عَلَى أُنْثَى
تُقَشِّرُ تُوتَ عَذَارَتِهَا
مُحْتَفِيَةً بِعُرِيِّ جَسِدِهَا المَرْمَرِيِّ
======
لا طائلَ من لجمِ جُمُوحِ قلمٍ
يرعفُ شوقًا للعقِ رِضابِ قصيدَةٍ
تَتَشَهَّى الاحْتِوَاءَ
======
لا نِيَّةَ لرمي مسوَّدَةِ قصيدَةٍ
تفغرُ فيها أَلْسَنَةُ الدَّهْشَةِ خَاصِرَةَ السُّؤَالِ
عتبة النص ( العنوان ) :
عبر تفكيك عتبة النص (لاممكنات ) نجدها مكونة من (حرف) لا النافية ، و(اسمها ) ممكنات، فهو عنوان مركب ،جملة اسمية تتصف بالثبات ، كأن الشاعر يوحي بثبات أمره وتجاوز حدود الزمن، وبإمكاننا تقدير الخبر بـ (لا ممكنات لدي ) أو (لا ممكنات هنا )فباب التأويل مفتوح لعديد التقديرات ،والعنوان على الرغم من كونه مثيرًا ،ومغريًا للمتلقي باقتحام النص، فإن النفي جاء صادما ،ملخصا لفكرة القصيدة ،فيه إغواء بغموضه .
التحليل والنقد :.
عزمت على قراءة ثانية لمفاتشة تلك الممكنات المنفية،فانفتح المنغلق وكانت الرؤية التالية :
افتُتح النص بنفي للزمن (لا وقت ) فلا وقت لديه للتمهل والتمتع بمباهج الحياة ، ( لا وقت لارتشاف لِباء القصيدة ) يجسِّم القصيدة مصوِّرًا لها كائنًا حيًّا يدر اللِباء، الذي يضيع هباء (تهصر ضرعها في أفواه الفراغ ) فالفراغ وحش لديه أفواه كثيرة ،تبتلع اللباء ،وهنا يحمّل معاناته الفعل المضارع (يهصر) وهو مشحون بدلالته على الحاضر، وإذا تأملنا أفق الجملة الشعرية لوجدنا أن في الارتشاف تمهل ، والهصر معاناة ،كأنه ينقل إلينا شقاء المبدع في ظل ضعف الاحتفاء به وإبداعه .
تلازم لاالنافية كل شطر في النص (لا مبرِّر لهش عذارى الهوى ) يؤكد الشاعر على ما ينفيه إيحاءً بانثيال الأفكار وإلحاحها عليه ،وهو لن يردها عنه ،لن يبعد هطلها الشديد الذي يملك عليه ذاته ،وتتتالى الصور الاستعارية بشكل لافت بديع ،حيث عذارى الهوى تُهش،والغواية لها رموش، تُمشطها عذارى الهوى ،بمشط اللهفة .
يهدأ الخطاب مع إعلان صارخ أن الحقيقة لا ينبغي أن تُخفى (لا ضرورة لإغماض عين قمر) فهي ساطعة سطوع تلك الأحداث التي تملأ المكان والزمن على صغرها ؛ وتتصاعد النبرة الخطابية (لا تصالح )وتزداد حدّة مع تصاعد اللاءات،مبرزة صراع الذات المبدعة ،والأنا التي تحمل حس الشاعر ومعاناته ،بنفيه ما يعتمل في أعماقه ،فهو لن يتصالح مع حياة تفتقر إلى أبجديات الإبداع (لا تصالح مع عراء .. يرسلنا خطيئة لذاذات مرائية ) فالشكوى واضحة من تلك الأوساط الموبوءة بالرياء والنفاق التي تشد إلى الوراء.
ومع ذلك التصاعد ،يفاجئنا الشاعر بانتقاله من لغة التلهف ، والحب المتأجج ،بإيحاءات القصيد إلى لغة تحمل القسوة في( لا توبة ) وهي لفظة لها تداعياتها الدينية، يوظفها الشاعر بدلالة مغايرة (لا توبة لمارقة تترحَّق حمم الشبق الكفور ممسدة جسدا منتهكا ) فلا عودة عن فكرة اقتنصها خيال جامح ، تلوذ بالكلمة لتنطلق إلى الأفق المسموع .
ويعود هدوء نفسه وتلين الكلمات في تغزله بالقبلة (لا حاجة لتسمية القبلة ..ورحيقها يهدد العسل بالنضوب مرارة ) إلا أنه يخرج عن المألوف في الغزل ، بوضعه كلمة ذات إيحاءات سلبية في احتفائه بالمتع، فيضع السلب مقابل الإيجاب : القبلة= رحيق = العسل↔يهدد= النضوب =مرارة ، فالتهديد يستدعي لدينا أكثر من دلالة سلبية :فقد الأمن – عدم الاستقرار – الحرب –القتل ،كذلك مفردة: النضوب = التلاشي ،أما المرارة فهي صورة ذوقية سيئة في أذهاننا ، ولكن مع قراءة من وجهة أخرى نجد أن التغزل في القبلة هو ما دعا لتلك الصورة السلبية ،فحلاوة اللقاء أكثر تأثير من حلاوة الشهد .
تتراوح القصيدة مدًّا وجزرًا بين القسوة واللين ،الحدة والهدوء ، فتعود الكلمات إلى حدتها في (لا مناص من البصق على أنثى تقشر توت عذارتها .. محتفية بعري جسدها المرمري(حيث رغبة الانتقام وتصريح بالاحتقار للصخب والفتنة، رامزًا لها بالأنثى المتعرية، ثم يتلبس هدوءه من جديد، فيلجم جموح قلبه ليتمهل (لا طائل من لجم جموح قلم يرعف شوقا للعق رضاب قصيدة تتشهى الاحتواء) فالقصيدة ستولد، وتنتصر الذات المبدعة ،التي تعدنا بنص جميل ،يحمل المتعة والدهشة (لا نيَّةَ لرمي مسوَّدة قصيدة تفغر فيها ألسنة الدهشة خاصرة السؤال.
الزمن وحركية الصورة :تضج القصيدة بالحيوية والحركة يبرزها ارتكان الزمن على الفعل المضارع وهو صوت الواقع ، المسيطر على فضاء النص من خلال الأفعال المضارعة : تهصر/يمشطن/يتنهد/ يتنابزان/ يضئ /يرسلنا /تترحق /يهدد / تقشر /يرعف /تتشهى/ تفغر؛ ونلحظ أن الضمير يتنوع فيها بين الغائب والغائبة ،المذكر والمؤنث ، وأن الأفعال تحمل في دلالاتها السلب والإيجاب كما الحياة .. ولا وجود للماضي لأنه ابن الحاضر، أما المستقبل فهو في رحم الحاضر وامتداد له .
الإيقاع : إيقاع النص في حركة التنوين التي سرت في القصيدة ، مع تكرار حرف الهاء كآهة تستصرخ الممكنات ، وذلك الصدى يحدثه تكرار حرف الراء والقاف الشديدين ، استلزمتهما حدة الموقف ، محدثة موسيقى تساندها حروف السين الصفيرية المتكررة ، لتعزف على أوتار الشكوى من إيقاع زمن نبضه متسارع.
يكرر الشاعر حرف لا النافية ليؤكد على أفكاره ،وتكراره للفظة قصيدة (ثلاث مرات ) إشارة إلى رغبة ملحة في إنجاز إبداعه الشعري .
نخلص من ذلك إلى: أن النص ثري بالصور الساكنة والمتحركة ،حافل بالرموز التي تلقي بظلالها على القصيدة ، فتلفها بغموض محبَّب ، يشاكس المتلقِّي، فيكون عامل جذب يدفع إلى تقصي تلك الجماليات المتعددة التي تنفتح على قراءات أخر متنوعة ، لم يتسن إدراج كثير منها هنا، نتركها لقارئ آخر يجوسها بآلياته

مقالات ذات علاقة

«السنوسي»: سيرة الدم من داخل معسكر في بنغازي

محمد الأصفر

ذاكرة الوجع: الإبادة الجماعية في ليبيا (2-2)

إبراهيم حميدان

رواية نسوية عن الاستعباد في ليبيا العثمانية

المشرف العام

اترك تعليق