من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
سرد

فـوضـى

من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة

(19)
اندلعت الفوضى ..
مجتمع مدني تشابكت منظماته كخيوط العنكبوت، ونشطاء سياسيون هطلوا كالمطر على شاشات الفضائيات، وسيارات يقودها أطفال دون العاشرة تهدر محركاتها في الشوارع التي امتلأت بالحفر والمطبات والاستهتار.
تصريحات نارية، وأخرى مهادنة، وتحليلات وآراء ونقاش يتحول في لمح البصر إلى سؤ تفاهم يتطور بدوره وفي لمح البصر أيضاً إلى عداوةٍ صريحة لا يمكن أن تنتهي كما بدأت في لمح البصر.
دول تدخلت، وأخرى تراقب الوضع الراهن، وسفراء يدخلون وسفراء يزورون مدينةً هنا وأخرى هناك، وغضب يحتد، ومشاعر رضى تولد، وشباب يبشرون بمستقبلٍ واعد، وآخرون تخبرك تصرفاتهم أن مستقبلاً رمادياً ينتظر الجميع.
كثيرون تحمسوا كثيراً لمشروعٍ أو قرارٍ أو فكرة، ثم عادوا بعدها نادمين على سرعة اندفاعهم، وكثيرون لم يتحمسوا لشيء، ثم عادوا وندموا على تأخرهم في الاستجابة فبدأوا في محاولة تعويض مافاتهم باندفاعٍ جنوني في كل شيء.
فوضى عارمة .. 
أناشيد هنا، وأناشيد هناك، وطنٌ هنا، وآخر هناك، رواتب تصل وأخرى تتأخر، فقر مدقع وثراء فاحش، نزوات تولد، وزهد يزدهر، جشع يتضخم، ونزاهة تقاوم الانقراض.
فوضى عارمة كان “سياف الطيب” عاجزاً تماماً عن مجاراتها وهو الكائن البسيط جداً كتلك المخلوقات الأولية ذوات الخلية الواحدة التي درسناها في المرحلة الإعدادية أيام زمان، قبل أن تمتليء أرواحنا بالخدوش وتزدحم رؤوسنا بالشيب والكآبة معاً.
طرق بابي ذلك اليوم ..
كان متعباً بفعل الركض في الشوارع طيلة اليوم، وكعادته لم يطلب الكثير : 
ـــــ جرعة ماء، العطش سيقتلني.
منحته ما يريد، فشرب حتى ارتوى، ثم رمى في وجهي بقنينة البلاستيك هامساً : 
ـــــ تظن أنك صاحب الفضل في سقايتي ؟ الله هو من سخرك لتسقيني، أنت فقط أداة، هل تفهم؟ أنت فقط أداة .
ابتسمت وأنا أهمس له بدوري : 
ـــــ وأنت كائن كاد يقتله العطش . لولا قنينة بلاستيك صغيرة.
ضحك من قلبه، الدراويش هم أروع من يضحك في هذا الكون لأنهم يضحكون من قلوبهم، لهذا أحب أن أجالسهم، ربما لأتي أريد أن أتعلم في مدارسهم روعة أن يضحك المرء من قلبه ولو مرةً في الشهر.
نهض من مجلسه، وتأهب لجولةٍ جديدةٍ من الركض والصراخ، ولكنه غير رأيه فجأة وعاد ليقارب مني هامساً من جديد : 
ـــــ ما الذي يحدث؟ ماذا حل بكم؟ وما هذه الفوضى الأسطورية؟ لماذا اختلطت الألوان إلى هذه الدرجة؟ وماذا حل بكم ؟ ألا ترون هذه الكائنات؟ أنا أراها كل يوم، إن شوارعكم تزدحم بها أيها الحمقى فلماذا لا تفعلون شيئاً؟
لم أجبه بحرف، كنت أدرك كم هو نافذ البصيرة رغم ما هو فيه من حال سيء، ويبدو أنه استنكر صمتي واعتبره استخفافاً به لأنه بادرني بالصراخ من جديد : 
ــــ أيها الحزين، هل تعرف مأساة أن تكون كلباً ؟
أصابني الاندهاش من جملته فانتبهت فجأة وكأن أحدهم صفعني بلا رحمة ، لكنه واصل الصراخ : 
ـــــ نعم، أن تكون كلباً، وبالذات كلب “سلوقي”، سمعت مرةً من أحد العمال البولنديين الذين كنت أزورهم في معسكرهم أن في بلادهم كلاباً بولندية من النوع السلوقي، يصطادون بها الأرانب ويعتنون بها جيداً من أجل ذلك.
قاطعته باهتمام : 
ــــــ وكيف تتذكر إلى الآن؟ لم يعد ثمة عمال من بولندا منذ زمن طويل ؟
أجابني باستخفاف : 
ـــــ هذه تفاصيل، ربما حلمت بهم، المهم أن تلك الكلاب تعيش في أحسن حال طالما كانت قادرةً على اصطياد الأرانب، وطالما كانت قادرةً على الركض كالأشباح وراء تلك الكائنات الصغيرة المذعورة على الدوام، لكن أرنباً واحداً يتمكن من الهرب كان بمقدوره أن يحطم سمعة كلب سلوقي مدرب، وأن يحط من مكانته عند صاحبه.
إن الكلب السلوقي يظل محترماً أيها الحزين ما دام قادراً على الركض وراء الأرانب، ولكن، ما إن يكبر ويتقدم به العمر ويصبح عاجزاً عن الركض كالأيام الخوالي، حتى يستغني عنه صاحبه، وعند ذلك تبدأ مأساته الحقيقة، إنهم يرمون به في الشارع كأي كلبٍ عجوز، وعندها يبدأ الصبيان في التلاعب به وتبدأ لعنات العجائز والأحجار الصماء في مطاردته طيلة النهار إلى أن يموت مهملاً منبوذاً كأي كلبٍ لم يعد بإمكانه أن يركض وراء الأرانب المذعورة .
أّذهلني ما سمعت، ولكنه نهض من مكانه واتجه إلى الخارج وكأنه يحمل هموم الدنيا كلها فوق كتفيه، وما إن وصل إلى منتصف الشارع حتى التفت نحوي قائلاً : 
ــــ أنا هو ذلك الكلب، فلعنة الله على الأرانب المذعورة أيها الحزين.

مقالات ذات علاقة

رسالة 10

عائشة الأصفر

لم يفزّعها الرصاص.. وأيقظها سعال الصغير !!

زكريا العنقودي

رواية الحـرز (40)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق