من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
سرد

فصل من رواية .. حيه على برقة

القسم الأول

الإسكندرية

ديمتروس

بلادْكُم أخدتْ الاستقلال، والسنوسي بَقى ملك لليبيا. فاكر يا “شريف”، السنوسي؟ صاحب القصر في “كينج مريوط”، اللي روحنا له نعمل بروفة للبَدْلة اللي فَصّلتها لُه، في بداية الحرب. هو ذكي، وقف مع إنجليز، وقال عاوزك معاه في جيش بتَاعه، لما عرف إنك برقاوي زَيُّه.. أنا اعتذرت، وقلت له:” يا برنس ده ولد صغير ويتيم”..

هكذا بدأ الخواجة “ديمتروس”، صاحب دكان الخياطة الذي أعمل لديه، يحدثني في ذلك الصباح الشتوي..

يعيد “شريف بوحفيظة” سرد حكاية عودته إلى البلاد، منذ لحظاتها الأولى، متذكرًا اللقاء الذي صاحَبَ فيه مْعلّمه “ديمتروس” لقياس بَدْلة أوروبية للسيد إدريس السنوسي:

في ذلك اللقاء الذي رأيت فيه سيدي “إدريس” لأول مرة؛ عرفت انتماء جديدًا لمكان آخر، لم أكن أعرف عنه شيئًا اللهُمّ بعض الحكايات التي روتها أمي “غزيل” عن “بَرْقة” وأهلها، وعن أهل أبي في “الجبل الأخضر”، حكايات وطن ناء وبعيد.. أبعد من الضبعة ومن مرسى مطروح فوق السلوم؛ تشرَّد ناسُه وضاعوا.. “واللي ما قتلوهم الطليان، ماتوا من الشر. ربنا ما يوريك لِيّام السود اللي شُفناها قبل مَا نِجُوّ للإسكندرية. من الشر يا وْلِيدي كْلِينا الدُّود والزِّبل حْشَاك”.. تقول أمي “غزيل”، وتسرح قليلاً حتى أشعر أنها غائبة عن المكان الذي نحن فيه، لا تعود من رحلة ذاكرتها البعيدة إلا على صوتي:” كَنِّك يا أمي شْنُو فيه..؟”، وكأني أيقظتها من كابوس عميق، تقول جافلة:” الله لا يعود علينا هاذك لْإيام.. نْحِسّ فيها زي الجَاثْمة على قلبي”..

وكلما حكت لي كيف جاءت هي وأبي هاربيْن بي وبأختي التي تكبرني، وماتت منهما في الطريق الموحش. يبتعد بي ذلك كثيرًا عن أية رغبة لي في العودة. تهيأ لي أنه الجحيم الذي يُلقي فيه الله بالكفرة والمغضوب عليهم من عباده العاصين..

كانت تؤكد عليّ:” وِرَاس وْلِيدي ما تُغْرُب شرورها هاذك لِبْلاد.. مَعَدّ عندنا فيها حَدّ.. هلك، كلهم هلكوا فيها. لا خال ولا عم، ولا خُوّ ولا خيّه”.

وكما أُمّهِ “غزيل” تشرد بشريف بوحفيظة الذاكرةُ بعيدًا.. وكأنما ذاكرة هذه العائلة بئر عميق مليء بالحكايات المحزنة الكئيبة.. ما أن يعودوا إليها حتى يجدوا مشقة في الخروج منها، إلا بمساعدة من يرمي إليهم بحبل الكلام:”وبعدين يا باتي؟”.

أنْتَشِلُه في كل مرة من بئر ذاكرته؛ ليواصل سرد حكايته التي لا يمل من تكرارها بنفس الجُمل والتقطعات والغياب، بالآهات وبفواصل الكلام. تأخذني الدهشة من هذا الرجل الكتوم الذي عاش حياته في صمت مريب. لغته كانت دائمًا في عينيه. يعرف كيف يوصل ما يريد من خلال عينيه. في عينيه رأيت أوامره ونواهيه، ومن خلالها أعرف إن كان راضيًا أو غاضبًا، منتصرًا أو مهزومًا، أعرف من يحب ومن يكره. هكذا عشت معه وعرفته، وتعودت عليه.. لم أنتبه إلى صفات أبي إلا حينما كبرت، كنت أعتقد أن لغة العيون هي تركيبة كل الآباء في بيوتهم، وأمام أطفالهم. ولم يتبين لي الأمر بوضوح إلا من خلال أصدقائي الشباب، الذين قال لي أحدهم ذات مرة:”عيون بوك كلها كلام”. لم أفهم تعليقه في بادئ الأمر، وسألته:”شنو قصدك؟”. قال:”بوك قليل الكلام باللسان، لكن في عيونه حاجات، كلام واحد يِبّي منْ يفكّ شفَرْتَه”.

لم آخذ كلام صديقي بمعنى جاد، لكنني مع الوقت انتبهت إلى أن الكلام في بيتنا يقل في حضور أبي، بل اكتشفت أن الكلام قليل في بيتنا بيني وبين أمي وأختي، وبين أختي وأمي، وفي حضوره يكاد الكلام ينعدم تمامًا.

-”آه وين كنا؟”..

عاد من بئر ذاكرته يسألني. وقبل أن أجيبه، يواصل استحلابها: في ذلك الصباح واصل الخواجة “ديمتروس” إخباري بالأخبار التي أعرفها:” خلاص يا شريف ما عَادْش فيه حرب، الطليان راحو، ما عَادْش فيه هتلر ولا الدوتشي. إدريس ذكي حط إيده مع إنجليز، وتشرشل داهية كسب الحرب، مسكين بَطَل حرب، لكن إنجليز قالوا له: أكسو بَرّه.. إمْشِي. مَشَى.. ورجع جبتو معاه استقلال ليبيا. تشرشل ما يِنْسَاش أصدقاء. وإدريس السنوسي ذكي، كان عاوزك معاه في جيش.. أنا خفت عليك من المحافظية اللي قالت لي عليهم أُمك.. بس إنت كنت صغير أربعتاشر سنة، وأمك وصتني عليك كتير.. أنا قلت له:”معلش يا برنس ده ولد صغير..”. مَا ردّش. مسح على وجهك، وقال لك:” إن شالله تكبر وتكون معانا”. إنت كويس مَتْكلّمتش، هو سألك:”إنت منين؟”. قلت:”مَا نِعْرفش”. قال لك:”من بَرقة ولاّ من عرب غرب؟”. قلت:”برقاوي من الجبل”. زاد سألك:”عربك لمن؟”. إنتَ قلت:”مَا نعرفش.. بوي مات قبل مَنّوعَى، وأمي قالت: ما نعرفش.. أهلي قتلهم الطليان.. ماتوا من الشر. هِكّي قالت لي أمي قبل ما تموت”. قال لك السنوسي:”يا وْلِيدي الله يرحمهم، ويرحمنا جميعًا، اسأل على هْلَكْ ودَوّرهُم، وما تنساهمش، واحفظ القرآن، وربنا يمكن يجمعنا في الوطن بعد هلاك الطليان”. إنت موش قلت حاجه، بس قرّبت منّه، مسكت إيده وبُستْها.. هو كان ممنون من البَدْلة يعني منّي.. إدّاك بقشيش حلو، وبعدين قربني منه، وقال لي:” يا خواجة سُولْتك بالله وعيسى ولد مريم، تاخد بالك من هذا الولد. خليه قريب من دينه ووطنه”.

“أووه”.. يقول ديمتروس: أنا حبيت السنوسي كتير يومها، أنا عرفته من زمان.. عملت له تلاته بِدَل. إنت كنت صغير، لما حب ست حلوة من العرب في القاهرة، حكى لي عليها واحد صاحبي جورنالست من زبائن محلّنا. وقتها لما شُفْت “إدريس” أول مرة، قال لي:” يا خواجة ديمتروس عايز بَدْلة شيك”. كان شباب وِشُّه أبْيَض، بلحية قصيرة سودا حلوة، ونظارات طبية صغيرة وطربوش.. هو أحلى من “فؤاد”؛ طويل وعريض، مودرن ومتواضع.. شيخ ابن أكابر، جده شيخ طريقة مش مملوك زي جد “فؤاد”. هو يشبه الأسقف مكاريوس دلوقتي، مش زي ما شفناه أنا وإنْت في قصر “كينج مريوط”، كان لابس هدوم بَدْو ليبيين. إن شالله مكاريوس يجيب استقلال لينا من إنجليز زي ما جابُه لكم السنوسي، إنجليز مش كويسين وكويسين.. عاوزين اللي يلعب معاهم سياسة، و”إدريس” لعب سياسة، وكسب مع كسبانين. استقلال مبروك عليكم “شريف”. يا ريت أمك “غزلة” كان شافت اليوم ده!

لا أعرف من أين أتته كل تلك الخبرات السياسية. لم يتعود “ديمتروس” معي مثل ذلك الحديث في السياسة. صحيح كان يحبني ويعطف عليّ، ويعاملني معاملة خاصة، تختلف عن معاملته لعمّاله الآخرين.. كنت الواسطة بينه وبين عمّاله اليونانيين القبارصة والمصريين، أنا من ينقل لهم أوامره، وكيفية تقسيم العمل فيما بينهم، لكن الحديث بيننا، لم يكن يتجاوز الطلبات من جانبه والاستجابة من جانبي، بما في ذلك خدماتي لأهل بيته. كنت الوحيد الذي يقوم بها من بين عمّاله، وهو ما وطد العلاقة الطيبة بزوجته الخالة “أم قسطنطين” وبِابْنه “قسطنطين” وابنته “روزليتا”. “قسطنطين” هو من عرفني بالدنيا وعلّمني السياسة، و”روزليتا” علّمتني مَن هي المرأة. بعدين نحكي لك عليهم..!!

***

هنا يتوقف “شريف بوحفيظة”، يمضي غائصًا في بئر ذاكرته.. حتى يبدو لي أنه لن يعود إلى هذا الموضوع من جديد. حينما يذكر “قسطنطين” و”روزليتا”؛ تشرق عيناه. وسرعان ما تترقرق قطرات من الدمع، يمسحها بالمنديل الذي لا يفارق يده وهو يحكي. لكل فقرة من حكايته فاصل من الدموع، تتجمع في مآقيه، وتنسكب مع آهة مكتومة في نهايتها. لا نشيج أو نحيب، فقط قطرات من الأسى، تخبر عن ألم يسكن الروح.

عملت بنصيحة إدريس السنوسي؛ قلت لك:” يا شريف كل يوم إمشي بعد العصر للمرسي أبو العباس، فيه هناك كتّاب يعلّم القرآن، يدرّس فيه شيخ اسمه حسن ما هوش مصري، بس أنا ما نعرفش هوَ مْنِين.. قلت لابنتي “روزليتا”:”هذا ولد مبارك. علّميه إنجليزي شويه شويه.. وأبعدتك عن “قسطنطين”؛ لأنه بتاع فوضوية وسياسة.. هو ابني.. أحبه. دخّلته أحسن مدرسة وكلية في إسكندرية، إنت عارف كلية فيكتوريا، مين يدرِس فيها إلا أولاد أكابر وأمراء، مصاريف كبيرة. أنا ما بخلتش على ابني حبيبي، بس هو طلع موش كويس، عمَل لي شَبَطَة مع بوليس مصري، يعمل منشورات وإضرابات مع عمّال الدخيلة في العامرية علشان حقوق. قلت له:”يا قسطنطين يا حبيبي إحنا موش مصريين، وبعدين فيه إنجليز، دي بلد موش بتاعنا”. لكن هو راسُه ناشف زي أُمُّه، أهل “كريت” صعبين. أنا قلت إنك ولد يتيم وغريب، “قسطنطين” ممكن يلعب براسُه ويوديه في داهية. ولد خطير “قسطنطين”. كنت نحب نشوفه أفكاتو كبير، أو يشتغل في بورصة.. حاجة كده عليها قيمة. بس هو هوائي.. ضحكوا عليه وِلاد الروس. تقدّست روحه في السماء.. أمه وأخته حيموت من حُزْن عليه.

ما الذي يحتويه بئرك يا “شريف بوحفيظة”، فوضويون وعمال، وروس، “إدريس” واستقلال.. هل كل ذلك واقع عشته وعرفته، أم هو من نسج خيالك الذي لا ينضب؟ هل أنت أسطورة أم أنك صنعت الأسطورة وصدقتها؟ لم أعرفك إلا خيّاطًا.. القماش، المقص، سِير القياس (الميترو)، الإبرة والسلك والخوصة، وماكينة الخياطة، أدوات لعبتك المفضلة، كل خطوة فيها محسوبة لديك. نوع القماش كشميري ترجال، بوستر أو هيلدا الباقا.. لكل قماش طريقة في الحياكة.. تبدأ بالسترة؛ فهي الأصعب دائمًا، تحتاج إلى تضبيط في الذراعين، وفي الجوانب. الأكتاف مهمة جدًا، لأنها مركز السترة، أي خطأ فيها يفسدها.. السترة ممكن تطول وتنقص في أي جزء، بدون أن يحدث فيها خلل، إلا الأكتاف، هي مركزها، وأي اختلال في مقاييسها “يبوظها”. البنطلون سهل المهم تضبيط حِجْرُه، ليكون مريحًا بين الساقين. الطول والقِصَر يمكن أن تتحكم فيهما، تشرح بكلماتك المقتضَبة لي وللصبيان العاملين معك، وتقول: هكذا كان الخواجة “ديمتروس” يعلّمني المرة بعد الأخرى كيف أمسك المقص، ومن أين أبدأ في قص القماش، وكيف أخيط بالإبرة، لم يُسلِّم مقصه لأحد إلا لي.. “أنت وريثي في الصنعة”. هو ما عرفش يورث ابنه صنعته، وأنا ما عرفتش نورثها لك. المهم يبدو أني ورثتك حاجة أخرى، ظللت كل عمري أخفيها عنك، وعن أمك وأخواتك. لا أدري هل هي الجينات التي قادتك إلى ذلك، أم ماذا؟ كنت دائمًا حريصًا أن تبتعد عنها، مثل حرص “ديمتروس” مع ابنه “قسطنطين”.. هذي لعبة الحياة، مهما حاولت أن تحدد مقاساتها، وتضبط مساحتها، يكون لها حساباتها المختلفة عما أردت.

***

بعد أيام من لقائنا بسيدي “إدريس” في بيته بكنج مريوط، ناداني الخواجة، وقال لي:« إنت تعرف “بحري”.. روح لجامع الشيخ المرسي أبو العباس، واسأل عن الشيخ حسن.. فيه عندهم كتّاب لتحفيظ القرآن، أنا كلمت الشيخ علشان إنتَ إحفظ قرآن هناك».. وضع في يدي قرش صاغ، وأمرني بالذهاب.

ركبت الترامواي من “محطة الرمل” القريبة من دكان خياطة المعلّم.. على صوت تكتكة عجلات التروماي، وهو يغادر محطة الرمل باتجاه “المنشية”، ومنها إلى حي بحري، سألت نفسي:”إلى أين أنا ذاهب؟ وما الذي ينتظرني من جديد في مسجد سيدنا المرسي؟”.

نزلت أمام الجامع الكبير، والمؤذن يعتلي المئذنة، ويؤذن لصلاة العصر.. دخلت مع الداخلين، توضأت، ودخلت صحن المسجد. أديت الصلاة لأول مرة في هذا المسجد الفخم بزخرفه ونقوشه المدهشة.

عقب الصلاة، اقتربت من أحد الأشخاص المُعمَّمين، وسألته عن الشيخ “حسن”، فأشار إلى معمم آخر هناك في طرف المسجد، يجلس قرب أحد الأعمدة، وحوله مجموعة من الصبيان بعضهم أصغر منّي سنًّا، وبعضهم في مثل سني.

توجّهت إليه، وعرفته بنفسي وبمَن أرسلني إليه. فقال لي:”خذْ لوحًا واجلس يا ليبي..!!”. كانت تلك أول مرة أسمع فيها من يقول عنّي “ليبي”.. أتذكر أنني سمعت هذه الصفة تطلق مرات قليلة على المغاربة الذين يترددون على سوق الخيط في المنشية، ولكن أحدًا لم ينعتني بها من قبل. أمي تقول:”نحن بَرَاقْوَه”.. وسيدي إدريس قال لي:”إنِتْ برقاوي”. المعلم “ديمتروس” يسميني “شريف”، وأصدقائي في المحل وخارجه، يقولون:”مغربي”.. هل البراقوه ليبيون؟ وهل المغاربة ليبيون؟ لماذا أَطْلَق عليّ شيخُ المسجد نعت “الليبي”؟ هل هو خبير في الأنساب ومعرفة أصولهم؟ لم أركز مع الصبيان فيما يرددونه من آيات القرآن الكريم، ولم أنتبه إليهم إلا مع صوت الشيخ، وهو يقول:”انصرفوا، وتعالوا باكر قبل العصر”.

حين نهضت مغادرًا معهم، سمعته يناديني:”ابْقَ يا ليبي. أريدك قليلاً”. طريقته في الكلام كانت غريبة، لم يكن يتكلم أيًّا من اللهجات التي أعرفها: الاسكندرانية، أو لهجة الخواجات، أو المصريين، أو لهجة أمي البدوية البرقاوية، ولا حتى لهجة السيد إدريس.. لهجته جديدة على أذني.

اقتربتُ؛ فقال لي:”اجلس”. جلست في مواجهته. قال:”اسمك شريف، كما ذكر لي معلمك ديمتروس”. هززت رأسي. فأضاف:”من أين أنت يا شريف في ليبيا؟”. تلعثمت قليلاً:” من برقة” أجبته. قطب ما بين حاجبيه، وقال:”أنا قلت من أين أنت في ليبيا من بنغازي، من الجبل الأخضر، أو من جبل نفوسة، من طرابلس، أو مصراتة، ولاّ من هون، أو فزان؟”. لم أفهم مغزى ما يقول، ولا ما تعنيه هذه الأسماء التي ذكرها، باستثناء الجبل الأخضر، فقلت:”من الجبل الأخضر..”. أحسست بشيء من الارتياح على ملامحه، وقال مستبشرًا:”ليبيا عَرَبُها كلُّهم واحد. لا تقُل من الآن أنك برقاوي، بل قُل: ليبي. أنا مثلك ليبي من منطقة جنزور. وكل أهل المناطق التي ذكرتها لك، وغيرهم، في البر والصحراء ليبيون عربٌ ومسلمون!”.

أضرمتْ كلماتُه شرار النَّعت الذي أطلقه عليّ في بداية الدرس، وشبّ حريق الأسئلة في خاطري.. فزّان، مصراتة، جنزور، بنغازي، طرابلس.. ما صفات هذه الأسماء، ما دلالاتها؟ هي أمكنة ولا شك، ولكن من هم ناسها؟ ما الذي يجمعني بهم، وما يجمعهم ببعضهم ويقرب بينهم، ويجعل هذا المعَمَّم يسميهم كلَّهم- عربًا ومسلمين- ليبيين؟

تلك بداية الأسئلة الحارقة التي أضرمها الشيخ حسن الجنزوري، في وعيي البكر، وحمَلتها كما الصليب على ظهري، وألقيت بها بين يديّ عرّيفي “قسطنطين”!؟

حاشية 1:

أعترف بأنني الآن في مشكلة حقيقية: هل أمضي في التخييل والسرد، كما أشاء وأرغب، وكما يواتيني الخاطر.. أم أن هناك مواضيع تستحق أن نتأملها، ونتعامل معها وفقًا لآلية غير تقليدية في السرد. نحن أمام شخصيات متخيَّلة، حتى الحقيقية منها، وتتناوبُ سيرتَها وقائعُ وتواريخٌ حقيقية، سُجلت في كتب التاريخ، وعبر وسائل الميديا؛ من الصورة الفوتوغرافية إلى المذياع والكاسيت والاسطوانة المدمَجة، مرورًا بالسينما والتلفزيون والفيديو والقنوات الفضائية، إلى عالم الشبكة العنكبوتية الرحب.. بعد هذا كله: هل لايزال للكلمات وتخييلها دور في كتابة أشكال نوعية من السرد، خصوصًا الرواية التي تتماس مع التاريخ منذ دونكيخوت ممثل بداية ملحمة السرد الروائي حسب رأي كونديرا، إلى زمن ديستويفسكي وبلزاك وديكنز وهيغو وتولستوي، ثم من بعدهم جويس وكافكا وفوكنر، وغيرهم من أعلام الرواية الأوروبية، وصولاً إلى إنجازات الرواية المعاصرة على الصعيد العالمي عند ميشيما، وأمادو، وماركيز، ورشدي، ويوسا، وكونديرا.. هل ستنضب مخيلة السرد الروائي أمام لغة الصورة التي تقدمها الميديا الحديثة بكافة أشكالها وأنواعها؟ تلك هي المسألة، على حد قول شكسبير.. أليس كذلك؟

يبدو عليّ أن أبتعد قليلاً عن إشكالية الفن، وأسئلته المؤرقة.. وأنصرف حالاً إلى مشكلتي الخاصة فيما أكتبه الآن من نص.

المشكلة المشغلية التي بين يدي في هذه اللحظة من الكتابة، أن “قسطنطين” القبرصي اليوناني الثوري الفوضوي، في إسكندرية أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، ذلك الشخص الذي لم نعلم بعد عن تفاصيل حياته وخلفيته الفكرية والسياسية شيئًا، إلا ما ذكره عنه أبوه “ديمتروس” لـ “شريف بوحفيظة”، هو من سيعرّفه على ليبيا وتاريخها، بكل التفاصيل التي ذكرتْها كتب التاريخ. هل مطلوب من “شريف”، بل منّي تحديدًا، أن أعيد سرد الملامح الكلية لتاريخٍٍ ما حول النص، أم أكتفي بوضع المصادر التي أعتبرها كاشفة لجوانب هذا التاريخ؛ حتى تتعرف أيها القارئ على الملامح التاريخية التي شكّلت وعي الشخصية الرئيسية في الرواية بهويته الليبية!؟

وسأختصر لك ما قاله قسطنطين لشريف بن حفيظة، حينما رمى بين يديه بصليب أسئلته التي حملها معه بعد لقائه بشيخ كتّاب جامع المرسي أبي العباس. لم يكن أمام “قسطنطين” من رد، سوى أن يسرد لشريف معلومات طالعها آنذاك في مصادر تاريخية إيطالية وإنجليزية ويونانية عديدة.. ويمكن اعتبار ما سوف يذكره قسطنطين معلومات تاريخية عامة.. للقارئ أن يتجاوزها، ولا يعيرها

أي اهتمام، أو يتمثّل خلالها وعي شريف بوحفيظة بهويته.

مقالات ذات علاقة

مقطع من رواية جاييرا

سراج الدين الورفلي

الذئب

مفتاح العماري

سيرة بني غازي

أحمد الفيتوري

اترك تعليق