المقالة

غاية الكتابة

لماذا نكتب ؟ سؤال طرحه سارتر فيما مضى ، وعلق عليه كثير من الفلاسفة والأدباء  ، لقد كانت قضية الالتزام في الأدب ( فترة الستينيات ) أكثر أهمية من الأدب نفسه ، والأمر الذي يستدعى الكتابة هو في الحقيقة مثل البحث عن أشياء نلمسها في شعورنا قبل أن نحسها  في وجداننا ، أننا لا نحتاج في حياتنا إلى إثارة المألوف واليومي ، بقدر ما نحتاج إلى الكشف والسؤال عن الشيء كما يقول هيدجر ، إن المقدس ، والعادات ، وكذا التصورات الكلية ، تطرح في أحاديثنا بلغة بريئة  كما لو أنها من المسلمات غير قابلة للجدل ، أما  التنقيب والحفر والتحليل مفهومات ليست جديرة باهتمامنا ، وذلك لارتباطها في عقولنا بالهدم والخلخلة ، فالتأويل ينظر إليه على أنه تدليس وهرطقة ، وكذلك التفكير المطلق يوحي باللانظام والتشظي ، هكذا يتصور كل من يدعو إلى وجهة نظر نهائية ، إذ أن الثبات في القيم ولو كانت طاهرة  لا يعني في الواقع سوى القضاء على النقيض ، هذا على مستوى ثنائية الحق والباطل ، أما بالنسبة للتفكير الحر – وأعنى به  تلك الطريقة التي تثير التناقض والحركة – هو في العادة يطلق على كل مناهض لسلطة ما أو ثقافة معينة ، ويحضرني في هذه اللحظة ، ما اثاره فلاسفة الحداثة البعدية ، لقد قام جاك دريدا بتفكيك اللغوس الغربي بدا من أرسطو إلى ديسوسير ، وهو على علم بأن التمركز حول الصوت المتمثل في إعلاء الكلام على حساب الكتابة ، يعد في الواقع تدميرا للحقيقة وليس العكس كما توهم أفلاطون ، ومن هذا المنطلق ، يكون جاك دريدا  إلى جانب صاحبيه نيتشه و هيدجر ضمن الفئة المناهضة للعقل الغربي أو الميتافيزيقية الغربية .

إن الاستغناء عن الأفكار التقليدية قضية جوهرية لا يمكن الحط من شأنها ، لأن القديم يرتبط في المخيال الجمعي بالدين في كثير من الحالات ، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى تدليل ، وبالتالي ، فإن المناداة بتحرير العقل من عقيدة ما مثل المناداة بإلغاء الماضي وما رافقه من ثقافة وهوية وانتماء ، فالذات تبحث دائما عن الأصل ، وكذلك القبيلة ، والمجتمع ، والأمة ، إن التخلص من التقوقع من الوجهة العلمية هو اختراع طريقة أفضل للتفكير ، هذا ابسط تعريف للحداثة . وانطلاقا من الأدبيات الشعبية التي تكرس للقديم باعتباره الأصل ، وتغتال كل محاولة للتجديد ، فإن الترتيبات الجريئة التي تسعى إلى مجاوزة القديم ، فشلت بدورها مثل أي محاولة جابهت الفكر الأصولي واصالته المزعومة .

إن كتابة الأدب من رؤية الالتزام بقضايا الزنوجة و المقاومة و الإصلاح وغيرها ، هي في الأساس إخضاع الأدب إلى ايدلوجية ووجهة نظر معينة ، وهذا ليس من الأدب في شيء .  يجب أن يكون الأدب بعيدا عن الانثيالات العاطفية ، وواجب الأديب أن يتحصن بقدر المستطاع ضد الانفعال ، فليس المهم ما يقوله  ، ولكن كيف يقوله ، أو كيف يعبر عنه ، إذ أن الفن بصفة عامة ليس له وظيفة سوى إعادة الأشياء وترتبيها بطريقة أخرى  ، وبلغة البرناسيين ، غاية الفن ليست اصلاحية ، فهو لا يهدف إلى أية منفعة ، بل إلى المتعة الجمالية الخالصة ، إن الجدل الذي حدث في القرن الماض حول قضية الالتزام هو في صميمه جدل بين الأيديولوجية والفن ، ومنشأ هذا الجدل كما يقول “عز الدين أسماعيل “هو أن الايديولوجية تمثل تفكيرا أو موقفا فكريا محددا ، في حين أن أفق الفن طليق ، فالموقف الأيديولوجي لا يصنع العمل الفني . لقد حاول الزنوج  وعلى رأسهم رتشارد رايت كتابة أدب يعبر عن التفرقة العنصرية في أمريكا ، وحاول العرب بعد  نكبة 1948م اختراع أدب المقاومة ، وظل الفريقان يدعوان إلى الالتزام بالقضايا التي يكتبون عنها ، واصبح واجب الأديب هو تحقيق قيم الحق والخير ، بدل من تحقيق المتعة والجمال. ومن هنا تحول  الأدب من صانع أمل إلى صانع ألم .

إن طبيعة الكتابة الأدبية تختلف عن الكتابات الأخرى ، فالأديب غير مطالب بالتعليم والصناعة  ، وكذلك من سوء الفهم أن يُنظر إلى أعماله على أنها أعمال اصلاحية . لقد كتب ( غوتييه ) يوما ما :” ليست غاية الأدب أن يصنع حساء من جلاتين ، والمسرحية ليست خط قطار حديدي أو أي شيء آخر يخدم الحضارة ويدفع الإنسانية في طريق التقدم” ، إن سيطرة الضمير الأخلاقي والاجتماعي على النصوص الكلاسيكية ، كان العامل الرئيس في ارتباط الأدب بقضايا المجتمع ، ومن هنا ظهر شعار” الفن في خدمة المجتمع ” ، ومن ثم أصبح الأدب يوحي بالحقائق السياسية والاجتماعية بدلا من أن يوحي بجمال الوجود ، والفاشلون من الشعراء( كما يقول دي ليل ) يجهلون أن جمال بيت من الشعر هو مستقل تماما عن قيمته الاخلاقية أو اللاأخلاقية وفقا للعالم الذي يعبر الشعر عنه ، وأن خلق الجمال يقتضي صفات خاصة تفوق القدرة الإنسانية نوعا ما . ومن هذه الناحية بالذات نكمن غاية الكتابة .

  • مدير تحرير مجلة رؤى

مقالات ذات علاقة

هرطقات ليبي معزول (5): عن العروبة ومستقبلها

مصطفى بديوي

مختصر القول

قيس خالد

ضياع مركز كمبوت الثقافي

المشرف العام

اترك تعليق