قصة

من عام لعام أقريب

 

الحادية عشر مساءً

لوح لأصدقائه بالتحية، وهو يرسم ابتسامة توديع على شفتيه،  وأدخل المفتاح في قفل الباب،وأداره ببطء ينشد عدم إيقاظ والدته،التي تعودت أن تذهب للنوم مع وحدتها مع أول ساعات الليل، والتي إن حدث واستيقظت، ستستقبله كالعادة باستجواب مًطول، عن سبب تأخره،وعن وقته كيف قضاه، وعن معادن أصحابه، وهل أكل ؟ أو حافظ على الصلاة ؟  ثم تتبع ذلك بمحاضرة بات يحفظها، عن أهمية تنظيم الوقت، ضرورة الاهتمام بالدراسة،والدقة في اختيار الأصدقاء، والتركيز على عدد محدد منهم ( فاللي يكثر الأصحاب يودر أخيارهم )  خاصة أنه بات قاب قوسين أو أدنى من التخرج.

ولج إلى البيت حيث سيجد الهدوء والأمان، والوقت الكافي لمراجعة المادة المعضلة التي ظل لثلاث سنوات يحاول معها كل جهده دون فائدة.

وحين استجاب الباب لحركة يده، هاجمه إعصار من الأطفال:

– خالي!…عمي!…خالي!…عمي!

ضرب رأسه بكفه:

– آه ! لقد نسيت!.

عطلة نصف السنة للمراحل الأساسية  قد بدأت، و أخواته وإخوته المتزوجون والمبعثرون في أنحاء البلاد شرقها وغربها، يستغلون تلك الفرصة لتغيير الجو عند الجدة.

دارت به الدنيا،فضغط على شفتيه في حسرة،أسلم نفسه لموجات العناق الطويل والقصير، ودخل حجرته بعد السلام المشحون بالصدمة،…أقفل الباب،وهو يزفر للخلاص.

  أخرج مذكراته وحاول أن يذاكر، لابد من اجتياز هذه المادة، إذا حدث وحملها معه للعام القادم، للسنة الأخيرة، سيكون الأمر أكثر من صعب، سيطر على ارتباكه بعد أن زفر الهواء من رئتيه عدة مرات، شعر بالارتياح المشحون بشيء من الحماس ، لكن ثرثرة النساء في البيت، وصراخ الأطفال في كل الزوايا كان أيضاً أكثر من صعب، وفي إصرار المحارب،مزق منديلاً ورقياً، لملم منه كرات صغيرة، وسد بها فتحتي الأذنين، فتحولت الضوضاء في الخارج، إضافة إلى صوت قلبه، و الدم وهو يجري في عروقه إلى هدير غامض.

 لملم دفاتره، وخرج.

منتصف الليل

– سأذهب إلى فخري، فهو يحمل هذه المادة أيضاً، وسنذاكر معاً.

هذا ما سولت به له نفسه، لكن فخري كانت له طريقة أخرى في المذاكرة، هذا ما رآه واضحاً في حولقة عينيه وشردوهما، وكلماته المبعثرة، ومشيته المترنحة ، إضافة إلى الدليل القاطع الذي كان بين شفتيه، لفة حشيش التي كانت تحترق بين السبابة والوسطى، وتحرق معها أيام عمره.

– أمجد ؟!…. تفضل……، الشلة كلها هنا،…….نحن نشاهد فلماً ثقافياً،….. أدخل وشاركنا الموضوع.

 قالها فخري بعقل غائب تماماً، فشعر هو بالخيبة والمرارة،ودون أن يعتذر، أدار له ظهره وغادر.

الواحدة صباحاً

جرجر خطواته إلى صديق آخر، فخرج هذا الأخير إليه، وهو يتلعثم، يصفر وجهه تارة، ويحمر تارة أخرى، وقبل أن يتجرأ بسؤاله عن سبب ربكته، أنفجر صوت زوجة أبيه خلفه يزعق:

– من على الباب ؟

لم يعلق ولم يتكلم، غادر وترك صديقه غارقاً في همومه.

الواحدة والنصف صباحاً

دق باب صديقه عماد، فخرجت أخته الصغيرة، وفي عينيها كذب، وقالت:

– مش قاعد.

تلقف كلماتها الباردة بالشفقة والحزن، نظر إلى حذاء عماد المتوسد قرب العتبة ، ثم إلى سيارته القابعة  عند الباب، وعندما استدار إلى الشارع، لمح شبحه الهزيل  يرتعش خلف ستار النافذة.

الثانية صباحاً

سيذهب إلى صديقته (منى )  إنها ذكية ومثابرة، وسوف تساعده على استذكار المادة كثيراً، فصرخ صوت في عقله:

– منى ؟…وفي هذه الساعة من الليل ؟.

 حتماً سيرمى به أباها أو أخاها  من على الدرج أو من أعلى الشرفة، ولو توقع أن يكونا متسامحين ومتحررين كما هي الموضة هذه الأيام ، فكيف سيضمن حين يكون معها أن يكون الشيطان ثالثهما.

 استبعد الفكرة، سيذاكر في الحديقة العامة، وأمره إلى الله،فصرخ الصوت في عقله، من جديد:

– الحديقة ؟! في الظلام والبرد ؟.

 لكنه هذه المرة لم يطاوعه، أختار كرسياً بالقرب من عمود النور، وفتح كراسته، وبدأ يمر على الكلمات بنظره، لكن الصوت في عقله كان على حق، إذ أن زعيق إطارات سيارات   ( التمتيع ) على الإسفلت المرهق، والتي اعتادت أن لا تبدأ سيمفونياتها الصاخبة إلا في سكن  الليل….. إضافةً إلى البرد الذي بدأ ينخر عظامه،كلها عطلت تركيزه، واستولت على انتباهه، وزاد الأمر سؤً أن بدأت تمطر:

– يا حبيبي ! لم ينقص غير هذا.

الثالثة صباحاً

قرر العودة إلى البيت ،سيكون الأولاد نيام في مثل هذه الساعة، وسيجد فرصة لبعض المراجعة، لكن الأخوات وزوجات الإخوة لم يزلن ساهرات يقلقهن، مغادرته المفاجأة، وغيابه الطويل:

– خير، كيف حال صغير العائلة ( أوليد العجوز )؟

– لماذا غاردت ؟

– هل تناولت العشاء ؟

– نحن بشوق إليك، وإلى معرفة أخبارك.

– هيا أخبرنا آخر نكتة.

– لا.. لا حدثنا عن الجامعة، وبنات الجامعة.

– هل جهزت عروساً ؟ إن لم تفعل فأنا لدي عروس تحفة.

– لماذا شعرك منكوش هكذا، وبنطلونك، ممزق عند الركبة ؟، هل كنت في عراك ؟.

– لا يا جاهلة، هذه الموضة، آخر صيحة.

– وماذا تعرفين أنت عن الموضة ؟

 وبدت بوادر المعركة، فصرخ مُلجماً جموح الثرثرة حوله:

– كفى !!! أريد أن أذاكر.

الرابعة صباحاً

لكنه لم يذاكر كان متعباً وناعساً، فاستسلم للنوم.

السابعة صباحاً

أيقظه صراخ الأطفال قبل الفجر وقبل أن يرن المنبة ، وفي هذه المرة لم يسخط عليهم، فهو سيجد فرصة للمذاكرة في المكتبة الجامعية، قبل أن يبدأ الامتحان في العاشرة والنصف، أمامه أكثر من أربع ساعات، سيدخل المكتبة، وبالتحديد، قسم الدوريات في الطابق الثالث، فهو أكثر هدوءً.

التاسعة صباحاً

لكن ثرثرة الطلبة و الطالبات رغم زعيق المشرف، هذا يتحدث في الهاتف النقال، وهذه تناقش موضوع دراسي مع صديقاتها وتصر دون أدالة على أن رأيها هو الصائب، وهذان عاشقان لم يجدا من مراتع الجامعة الرحبة غير هذه الطاولة بالقرب منه، يتهامسان بصوت حالم هامس تحول في أذنيه إلى زعيق.

العاشرة صباحاً

انقطع التيار الكهربائي

– كملت !.

لكنه لم يتزحزح من مكانه، عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، سيخرج الطلبة والطالبات إلى النور، وتبقى له القاعة وحده، وقد يعود التيار الكهربائي بعد قليل ويجد الفرصة.

وكأنهم سمعوا عن قراره وأرادوا مكايدته، لم يتزحزح أحد منهم من مكانه، بل على العكس، فقد شغل كل منهم جهازه النقال، وأكملوا هدرزتهم على أضوائها…فبدت القاعة تذكره بعيد المولد،… خرج المشرف من مكمنه وقد فاض به الغضب فتسلح بشيء من الشجاعة، وأصدر أمره بالخروج من المكتبة نهائياً.

أغلق مذكراته،وهم بالنهوض والمغادرة وهو يقول :

– من عام لعام أقريب.

مقالات ذات علاقة

مدينة بلا آخرة

نجوى بن شتوان

تَمـَردَ قَــلمي

محمد عياد العرفي

الجوع

حسين بن قرين درمشاكي

اترك تعليق