المقالة

عَـوَالِمُ الخَيَالِ وَأَسْرَارُ الإِبْدَاعِ وَالجَمَـالِ

كَثِيراً مَا كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي أَهَمِّيَّةِ الخَيَالِ لِحَيَاتِنَا عُمُوماً، وَلِلْعَمَلِ الأَدَبِيِّ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، إِذْ كَيْفَ يَكُونُ طَعْمُ الحَيَاةِ مِنْ دُونِ ذَاكَ الصَّدِيقِ الجَمِيلِ الذِي نُسَمِّيهِ الخَيَالُ؟، ثُمَّ بَدَا لِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّنَا نَفْهَمُ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ الوَاقِعَ المَعِيشَ؛ لأَنَّهُ فِي الأَصْلِ لَيْسَ هُـرُوباً مِنَ ضِيقِ أُفُـقِ هَـذَا الوَاقِـعِ (بِكَافَّةِ تَجَلِّيَاتِهِ وَصُـوَرِهِ وَتناقُضَاتِهِ)، بِقَـدْرِ مَا هُوَ إِدْرَاكٌ جُزْئِيٌّ لِمَا خَلْفَهُ مِنْ حَقَائِقَ وَدَوَافِعَ وَحَوَافِزَ، تَكْمُنُ خَلْفَ مَظَاهِرِ الحَيَاةِ، وَسُلُوكِ الإِنْسَـانِ. ثُمَّ أَيْنَ سَيَكْمُنُ جَمَالُ الشِّعْـرِ وَسِحْرُ الرِّوَايَـةِ وَمُتْعَـةُ القِصَّـةِ مِنْ دُونِ الخَيَـالِ؟، خُصُوصاً عِنْدَمَا يُوَظَّفُ لِخِـدْمَـةِ مَضَامِينَ سَامِيَةً، وَغَـايَـاتٍ نَبِيلَةٍ. فَالخَيَـالُ مَلَكَةٌ مِنْ مَلَكَاتِ العَقْـلِ، تُمَثَّلُ بِهَا أَشْيَاءٌ غَـائِبَـةٌ عَنـَّا كَأَنَّهَا مَاثِلَةٌ حَقّاً أَمَـامَنَا، نَرَاهَـا، وَنَشْعُـرُ بِهَا.

وَجَـاءَ فِي “المُعْجَمِ الأَدَبِيِّ” لِجبُّور عبد النُّور أَنَّ: المُخَيِّلَةَ هِيَ الخَيَالُ، أَيْ المَلَكَةُ المُوَلِّدَةُ لِلتَّصَوُّرَاتِ الحِسِّيَّةِ لِلأَشْيَاءِ المَادِّيَّةِ الغَائِبَةِ عَنِ النَّظَرِ. وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَسْتَعِيدَ الصُّوَرَ التِي شَاهَدَهَا صَاحِبُهَا مِنْ قَبْلُ، وَتُسَمَّى عِنْدَئِذٍ “المُخَيِّلَةُ المُتَذَكِّرَةُ أَوِ المُسْتَعِيدَةُ”، وَهِيَ تُشْبِهُ الذَّاكِرَةَ التِي تَسْتَحْضِرُ صُوَرَ الأَشْيَاءِ، بَيْدَ أَنَّهَا أَكْثَرُ دِينَامِيَّةً مِنْهَا، فَتَسْتَثِيرُ الصُّوَرَ مُحَرَّرَةً مِنَ التَّمَرْكُزِ فِي الإِطَارَيْنِ المَكَانِيِّ وَالزَّمَانِيِّ، أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي  مِنَ المُخَيِّلَةِ فَهِي التِي تَعْتَمِدُ صُوراً سَابِقَةً، فَتُوَلِّدُ مِنْهَا صُوراً جَدِيدَةً، وَتُسَمَّى عِنْدَئِذٍ “المُخَيِّلَةُ الخَلاَّقَةُ”، وَهِيَ مُخَيِّلَةٌ تَبْنِي مِنْ رُكَـامِ الصُّـورِ المَحْسُوسَةِ المُتَرَاكِمَةِ فِي الذَّاكِـرَةِ عَـالَماً جَـدِيداً فِي نَسَـقٍ مِثَـالِيٍّ، وَإِمْكَـانَاتٍ لاَ تَنْضَبُ. فَإِذَا عُنِيَتْ بِالعَـالَمِ الحَقِيقِيِّ تَزِيدُ فِي إِغْنَائِهِ، وَإِثْـرَائِهِ، وَجَعْـلِهِ أَكْثَرَ بَهْجَةً وَجَمَـالاً.

وَفِي ذَاتِ السِّيَاقِ، يَرَى بَعْضُ البَاحِثِينَ أَنَّ الخَيَالَ نَوْعَانِ، أَوَّلُهُمَا: تَفْـسِيرِيٌّ، وَيَبْدُو هَذَا فِي الصُّـوَرِ الجُزْئِيَّةِ (البَلاَغِيَّةِ)المَعْرُوفَةِ، مِثْلَ التَّشْبِيهِ وَالاسْتِعَارَةِ وَالكِنَايَةِ وَغَيْرِهَـا، وَالثَّانِي: هُوَ الخَيَـالُ الابْتِكَارِيُّ، الذِي يَعْتَمِدُ عَلَى إِقَــامَةِ رَوَابِطَ بَعِيدَةٍ بَيْنَ الأَشْيَـاءِ، تَحْتَاجُ إِلَى رَهَـافَـةِ الحِـسِّ، وَنَفَاذِ البَصِيرَةِ، وَالإِدْرَاكِ العَمِيقِ لِلأَشْيَــاءِ، لِكَيْ نَفْهَمَـهُ وَنَعِي مَعَانِيهِ التِي قَدْ تَكُونُ مُسْتَتِرَةً خَلْفَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الخَيَالِ، الذِي تُشَخَّصُ فِيهِ المَعْنَوِيَّاتُ، وَتُقَامُ العِلاَقَاتُ المُخْتَلِفَةُ بَيْنَهَا، مِمَّا يُكْسِبُ المَعْنَى جَـلاَءً وَوُضُـوحاً، وَيُوصَفُ هَذَا الأَخِيرُ بِأَنَّهُ “أَحْسَنُ أَنْوَاعِ الخَيَالِ”، وَمِقْـيَاسُ الجَمَالِ فِيهِ أَنْ تَأْنَسَ النَّفْسُ إِلَى العِلاَقَاتِ الجَدِيدَةِ بَيْنَ الأَشْيَـاءِ، وَأَنْ تَسْتَشِفَّ مِنْ خِـلاَلِهَـا آفَـاقـاً أَرْحَـبَ مِنَ المَعَـانِي وَالصُّـوَرِ الطَّـرِيفَةِ وَالمُثِيرَةِ وَالمُمْتِعَـةِ.

وَكَمَا قَالَ أَحَدُ المُفَكِّرِينَ: “إِنَّ الخَيَالَ يَخْلُقُ الجَمَالَ”، لأَنَّهُ فِي نَظَرِي أَهَمُّ مَلَكَةٍ مِنْ مَلَكَاتِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، التِي بِهَا تُبْدِعُ، فَتُحَـرِّكُ المَشَاعِـرَ، وَتُدْهِـشُ النُّفُـوسَ، وَتَنْقُلُهَا إِلَى عَـوَالِمَ مَلِيئَةٍ بِالغَـرَابَةِ وَالإِمْتَاعِ وَالأَمَلِ، وَرُبَّمَا الأَلَمِ وَالحُـزْنِ وَالتَّشَظِّي؛ وَذَلِكَ لأَنَّ الخَيَالَ هُوَ مَصْدَرٌ مِنَ مَصَادِرِ السَّرْدِ القَصَصِيِّ وَالرِّوَائِيِّ، وَكَثِيراً مَا تَكُونُ تِلكَ “العَـوَالِمُ الخَيَالِيَّةُ” التِي يَنْسِجُهَا الكَاتِبُ أَكْثَرَ صِدْقاً وَجُـرْأَةً وَأَمَانَةً فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الوَاقِعِ مِنْ أَحْـدَاثِ الوَاقِـعِ نَفْسِهِ، بِصُوَرٍ وَأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ حَسَبَ طَبِيعَـةِ العَمَلِ الأَدَبِيِّ، وَطَرِيقَةِ تَوْظِيفِ الخَيَالِ فِيـهِ.

وَلاَبُدَّ مِنَ الإِشَـارَةِ هُنَا إِلَى أَنَّ الخَيَالَ هُوَ عُنْصُرٌ مُكَمِّلٌ لِعَنَاصِرِ النَّصِّ الأَدَبِيِّ الأُخْرَى، التِي تُعْتَبَرُ كُلُّهَا أَدَوَاتٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الأَدِيبُ فِي التَّعْبِيرِ عَن مَّا يَعُنُّ فِي خَاطِرِهِ مِنْ مَشَاعِـرَ وَأَحَاسِيسَ، فَيُقَدِّمُهَا لِقُرَّائِهِ فِي عَالَمِهِ الأَدَبِيِّ المُتَخَيَّلِ الذِي قَدْ يَنْبُعُ مِنْ صَمِيمِ الحَيَـاةِ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا، وَهُمُومِهَا وَأَفْرَاحِهَا وَأَتْرَاحِهَا، وَقَدْ يَكُونُ خَيَـالاً صِـرْفاً. وَلِذَلِكَ يَرَى إيليَا حَـاوِي فِي كِتَابِهِ {فَـنُّ الوَصْفِ} أَنَّ: “الخَيَالَ هُوَ الغُرْفَةُ المُظْلِمَةُ التِي تُحَوِّلُ الظِّـلاَلَ الشُّعُـورِيَّـةِ المُمَـوَّهَـةِ إِلَى صُـورَةٍ ذَاتَ شَكْـلٍ وَحُـدُودٍ وَمَعْنَى”.

وَحَتَّى الشَّخْصِيَّاتُ التِي تُنْسَـجُ فِي القِصَّةِ القَصِيرَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ أَوِ القَصِيدَةِ الشِّعْرِيَّة قَدْ تَكُونُ خَيَالِيَّةً لَكِنَّهَا تَتَغَذَّى مِنَ الوَاقِعِ وَتَنْبَثِقُ مِنْهُ، وَتَسْتَلْهِمُ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا مِنْ فَيْضِ بَحْرِهِ الوَاسِعِ.

وَيُؤَكِّدُ المفكر والفيلسوف الألماني جورج ويلهلم فريدريك هيجل (1770-1831) عَلَى أَهَمِّيَّةِ الخَيَالِ عِنْدَ المُبْدِعِ، فَيَقُولُ: “المُخَيِّلَةُ أَهَمُّ مَلَكَةٍ فَنِّيَّةٍ عَلَى الإِطْـلاَقِ”، وَيُطْلِقُ هيجل عَلَى الخَيَالِ المُبْدِعِ اسْمَ “التَّخَيُّـلِ”، الذِي لاَ بُـدَّ أَنْ يَكُـونَ مَبْنِيّـاً عَلَى التَّأَمُّـلِ المُتَرَوِّي، وَاليَقِـظِ لِفَهْـمِ الأَشْيَـاءِ.

أَماَّ الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار  (1884 – 1962) فَيُلاَحَظُ اهْتِمَامُهُ بِالإِبْدَاعِ الشِّعْرِيِّ وَالجَمَالِيِّ عُمُوماً، بَلْ إِنَّهُ يَعْـتَبِرُ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ ذَا أَهَمِّيَّةٍ فَلْسَفِيَّةٍ كَبِيرَةٍ. وَلَعَلَّ فِي كِتَابِهِ الأَخِيرِ المُسَمَّى (شَاعِرِيَّةُ أَحْلاَمِ اليَقَظَةِ) دَعْوَةٌ كَبِيرَةٌ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْ جَمِيعِ القُيُودِ الَّتِي تَحُدُّ مِنْ تَذُوُّقِنَا لِلإِبْدَاعِ عُمُوماً وَلِلشِّعْرِ عَلَى وَجْـهِ الخُصُوصِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ “الإِنْسَانَ يَتَخَيَّلُ أَوَّلاً، وَيَرَى بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بِالمُنَاسَبَةِ”، وَبِالنِّسْبَةِ لَهُ فَإِنَّ التَّخَيُّلَ الحَالِمَ لَهُ جَانِبٌ إِيجَابِيٌّ؛ حَيْثُ أَنَّ قِيمَتَهُ تَكْمُنُ فِي زِيَادَةِ الوَعْيِّ، مِنْ خِلاَلِ إِعَادَةِ تَنْظِيمِ مَعْرِفَتِنَا بِالعَالَمِ، لِذَلِكَ يَجِبُ الانْتِبَاهُ؛ لأنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَنْتَقِيَ مِنْهُ مَا يُسْهِمُ فِي تَقَدُّمِ وَعْيِّنَا، وَبِالتَّالِي فَإِنَّ التَّخَيُّلَ الحَالِمَ الذِي نُرِيدُ دِرَاسَتَهُ هُوَ التَّخَيُّلُ الحَالِمُ الشَّاعِرِيُّ، الذِي يُمْكِنُ لِلوَعْيِّ المُتَزَايِدِ أَنْ يَتْبَعَهُ. وَيُؤَكِّدُ باشلار أَنَّ: “الإِبْدَاعَ أَيّاً كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى نَشَاطٍ تَخَيُّلِيٍّ افْتِتَاحِيٍّ حَوْلَ الشُّعْلَةِ التِي تَتَحَوَّلُ مِنْ مُجَرَّدِ مَوْضُوعٍ جَامِدٍ إِلَى كَائِنٍ يَحْيَا وَيَتَطَوَّرُ”.

وَيَـرَى جـان ستاروبنسكي فِي تَحْدِيدِهِ لِمَفْهُـومِ (الخَيَالِ) فِي كِتَابِهِ (النَّقْـد وَالأَدَب): أَنَّ الخَيَـالَ الأَدَبِيَّ لَيْسَ إِلاَّ فَـرْعاً خَـاصّـاً لِمَلَكَـةٍ نَفْسِيَّـةٍ عَـامَّـةٍ جِـدّاً، لاَ يَنْفَصِلُ نَشَـاطُهَا عَنْ نَشَـاطِ الشُّعُـورِ، وَتُشِيرُ لَـفْظَةُ (خَيَالٍ) إِلَى العِـلاَقَةِ الَّتِي تَصِـلُ فِعْـلَ الكِتَابَةِ الأَدَبِيَّـةِ بِالمُعْطَيَـاتِ الأَسَـاسِيَّـةِ لِوَضْـعِ الإِنْسَـانِ، وَتُسْهِـمُ فِي إِقَـامَـةِ رَابِطَـةٍ ضَـرُورِيَّـةٍ بَيْنَ النَّظْـرَةِ الأَدَبِيَّـةِ وَأَوْسَـعِ نَظَـرِيَّـاتِ الشُّعُـورِ.

وَفِي كِتَابِهِ المُهِمِّ “فَنُّ الرِّوَايَةِ” يُشِيرُ كولن ولسون إِلَى أَنَّ: “الخَيَالَ الذِي يَعْمَلُ مِنْ خِلاَلِ الأَدَبِ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِينَا شَكْلاً مِنْ أَشْكَالِ التَّجْرِبَةِ البَدِيلَةِ، وَالغَرِيبُ فِي أَمْرِ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ البَدِيلَةِ أَنَّهَا مُفَضَّلَةٌ مِنْ عِدَّةِ نَوَاحٍ عَلَى العَالَمِ الوَاقِعِيِّ؛ فَإِذَا كُنْتُ جَائِعاً فَإِنَّ الاسْتِغْرَاقَ فِي أَحْلاَمِ اليَقَظَةِ حَوْلَ الطَّعَامِ لَنْ يَمْلأَ مَعِدَتِي، بَلْ إِنَّهُ سَيُفَاقِمُ مِنْ شِدَّةِ جُوعِي، وَلَكِنَّنِي إِذَا كُنْتُ مُحْبَطاً وَضَجِراً وَابْتَدَأْتُ بِتَحْرِيكِ خَيَالِي، فَإِنَّ فِي مَيْسُورِ أَحْلاَمِ اليَقَظَةِ أَنْ تَمْنَحَنِي ذَلِكَ الرِّضَا الذِي تَمْنَحُهُ التَّجْرِبَةُ الحَقِيقِيَّةُ”. فَالخَيَالُ بِهَذَا المَعْنَى يُسَاعِدُنَا فِي صُنْعِ وَقَائِعَ بَدِيلَةً، لَهَا خُصُوصِيَّتُهَا، وَلَهَا نَكْهَتُهَا الخَيَالِيَّةُ المُدْهِـشَـةُ، التِي تُدْخِلُنَـا فِي عَـوَالِـمَ جَدِيدَةٍ سَاحِـرَةٍ وَمُمْتِعَةٍ، نَرَى فِيهَا ذَوَاتَنَا بِشَكْلٍ جَدِيدٍ لَمْ نَعْتَدْ عَلَيْهِ سَـابِقـاً. وَحَتَّى عِنْدَ الرُّومَنْطِقِيينَ وُجِدَ الإِيمَانُ المُطْلَقُ بِالخَيَالِ، وَبَلَغَتْ نَظَرِيَّةُ الخَيَالِ الشِّعْرِيِّ ذِرْوَتَهَا عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَالمُفَكِّرِينَ الرُّومَنطِقِيينَ. (وَالجَـدِيرُ بِالذِّكْـرِ أَنَّ الرُّومَنْطِيقِيَّةُ اتِّجَـاهٌ فَنِّيٌ فِي الأَدَبِ يَتَمَيَّزُ أَسَـاساً بِطُغْيَانِ العَـاطِفَةِ عَلَى مَا عَـدَاهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ النَّصِّ الأَدَبِيِّ الأُخْـرَى، لِلمَزِيدِ أُنظُـرْ: جبُـور عبد النُّورِ، المُعْجَـمُ الأَدَبِيُّ، بيروت: دارُ العِلمِ لِلمَلاَيين، بِدُونِ تَارِيخٍ، ص 133).

  وَمَا أَجْمَلَ قَوْلَ الأَدِيبِ الرَّاحِلِ مُصطفَى لطفي المُنفلوطي فِي كِتَابِهِ الشَّهِيرِ{النّظَرَاتُ}: “إِنَّ الشَاعِرَ يَتَمَكَّنُ بِبَرَاعَةِ أُسْلُوبِهِ، وَقُوَّةِ خَيَالِهِ وَدِقَّـةِ مَسْـلَكِهِ مِنْ رَفْعِ السِّتَـارِ المُسْبَـلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّامِـعِ ـــ أَوِ المُتَلَقِّي ــ فَيُرِيهِ نَفْسَـهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، حَتَّى يَكَادُ يَلْمَسُهَـا بِبَنَانِهِ، فَيُصْبِحُ شَرِيكَهُ فِي حِـسِّهِ وَوُجْـدَانِهِ، يَبْكِي لِبُكَائِهِ، وَيَضْحَكُ لِضَحِكِهِ، وَيَطِيرُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الفَضَاءِ الوَاسِعِ مِنَ الخَيَالِ، فَيَرَى الطَّبِيعَةَ بِأَرْضِهَا وَسَمَائِهَا، وَشُمُوسِهَا وَأَقْمَارِهَا، وَرِيَاضِهَا وَأَزْهَـارِهَا، وَسُهُـولِهَا وَجِبَالِهَـا، وَنَاطِقِهَـا وَصَامِتِهَـا، مِنْ حَيْثُ لاَ يَنْقِلُ إِلَى ذَلِكَ قَـدَماً، أَوْ يُـلاَقِي فِي سَبِيـلِهِ نَصَبـاً”.

إِنَّ المَنفَلُوطِي ــ بِهَذَا القَوْلِ ــ يَتَلَمَّسُ بِبَرَاعَتِهِ المَعْهُـودَةِ أَثَرَ الخَيَـالِ عَلَى النَّصِّ الأَدَبِيِّ (الشَّعْرِيِّ بِصِفَةِ خَـاصَّةٍ)، حَيْثُ أَنَّ الشَّاعِـرَ/ المُبْدِعَ يَخْتَرِقُ بِهِ الجِدَارَ الوَهْمِيَّ الذِي يَفْصِلُهُ عَنِ المُتَلَقِّي، وَيَنْفُذُ بِسَلاَسَةٍ إِلَى أَعْمَاقِ وِجْـدَانِهِ، وَمَكْنُونَاتِ رُوحِـهِ، فَيُرِيهِ نَفْسَـهُ كَمَا هِيَ، دُونَ مُوَارَبَةٍ أَوْ تَصَنُّعٍ، وَيَمْسَـحُ الغُبَارَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ جَـوَاهِرِهَـا الدَّفِينَةِ، فَيَحْصُلُ هُنَا مَا أُسَمِّيهِ مَجَازاً بِالتَّمَاهِي أَوِ الانْدِمَاجِ الإِبْدَاعِيِّ (إِذَا صَحَّ التَّعْبِيرُ)، الذِي يَعْنِي تِلْكَ الحَالَةَ التِي تَجْعَلُ المُتَلَقِّي يَتَفَاعَلُ مَعَ النَّصِّ لِشُعُـورِهِ أَنَّهُ المُخَـاطَبُ بِـهِ، أَوْ أَنَّ تَفَـاصِيلَهُ تَتَحَدَّثُ عَنْ حَـالَةٍ مُشَابِهَـةٍ لِـمَا هُـوَ فِـيهِ مِنْ بَهْجَـةٍ أَوْ حَـيْرَةٍ أَوْ سَعَـادَةٍ أَوْ حُـزْنٍ…إلـخ، أَوْ أَنَّ المُتْعَـةَ وَصَـلَتْ عِـنْدَهُ إِلَى أَعْـلَى مَـدَىً لَهَـا، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الحَـالاَتِ يَظَلُّ الخَيَـالُ عَـامِـلاً مُشْتَرَكـاً يُمَكِّـنُ الكَـاتِبَ مِنَ التَّحَـدُّثِ إِلَى القَـارِئِ المُفْتَرَضِ، فِي أَيِّ مَكَـانٍ أَوْ بِيئَةٍ جُغْـرَافِيَّـةٍ أَوْ ثَقَافِيَّـةٍ؛ لأَنَّ كَثِيراً مِنَ الهُمُـومِ وَالمَشَاغِـلِ وَالأَحْـلاَمِ يَشْتَرِكُ فِيهَـا النَّـاسُ عَلَى اخْتِـلاَفِ أَمَـاكِنِهِـمْ وَثَقَـافَاتِهِـمْ وَأَدْيَانِهِـمْ وَأَجْنَاسِهِـمْ.

وَفِي ذَاتِ السِّيَاقِ، يُعَرِّفُ الكَاتِبُ حليم بركات الأَدَبَ بِأَنَّهُ: “إِنتَاجٌ اجْتِمَاعِيٌّ تُبْدِعُهُ المُخَيِّلَةُ الإِنْسَانِيَّةُ، وَأَنَّ القِصَّةَ مِنْ بَيْنِ أَكْثَرِ أَنْوَاعِ الفُنُونِ الْتِصَاقاً بِوَاقِعِ الحَيَاةِ؛ إِذْ تَتَنَاوَلُ الإِنْسَانَ فِي جَمِيعِ أَبْعَادِ وَتَشَعُّبَاتِ حَيَاتِهِ اليَوْمِيَّةِ. تَتَنَاوَلُهُ أُفُقِيّاً فِي تَفَاعُلِهِ مَعَ الآخَرِ وَالبِيئَةِ، كَمَا تَتَنَاوَلُهُ فِي تَفَاعُلِهِ مَعَ نَفْسِهِ. وَالرِّوَايَةُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَـةِ إِنْتَـاجٌ لِلْمُخَيِّلَـةِ، وَلَكِنَّهَـا تَعْكِسُ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ الوَاقِـعَ الاجْتِمَـاعِيَّ وَتُـؤَثِّرُ فِيهِ، إِمَّا بِتَرْسِيـخِ الثَّقَافَـةِ السَّـائِـدَةِ أَوْ بِالمُسَاهَمَةِ فِي تَكْوِينِ ثَقَافَةٍ جَدِيدَةٍ”. وَهُنَا يَتَّضِحُ أَنَّ الكَاتِبَ يُقَدِّمُ تَعْرِيفاً مُوجَزاً لِلأَدَبِ يَنْطَلِقُ مِنْ اعْتِبَارِهِ إِيَّاهُ إِنتَاجاً اجْتِمَاعِيّاً بِالدَّرَجَـةِ الأُولَى، تَقُومُ بِإِبْـدَاعِهِ المُخَيِّلَةُ الإِنْسَانِيَّةُ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الأَدِيبَ لاَ يَنْقُلُ الوَاقِعَ بِتَفَاصِيلِهِ المُمِلَّةِ وَالرَّتِيبَةِ بِلُغَةٍ مُبَاشِرَةٍ وَأُسْلُوبٍ هَزِيلٍ، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُ أَنْ يُشَكِّلَ صُورَةً تُعَبِّرُ عَنْ رُؤْيَتِـهِ هُوَ لِهَذَا الوَاقِعِ، وَتَتَلَمَّسُ مَوَاطِنَ الجَمَالِ أَوْ رُبَّمَا القَسْوَةُ وَالأَلَمُ وَالاغْتِرَابُ فِي هَذَا الوَاقِعِ، وَلِذَلِكَ يُضِيفُ حليم بركات أَنَّ: “التَّزَاوُجَ بَيْنَ العَقْلِ وَالخَيَالِ قَائِمٌ بِالفِعْلِ وَدَائِماً. وَمِثْلُ كُلِّ زَوَاجٍ لاَبُدَّ أَنْ يَخْتَبِرَ أَزَمَاتٍ حَادَّةٍ. المُهِمُّ أَنَّ مَقَامَ الخَيَالِ مِنَ الوَاقِعِ لَيْسَ هُوَ مَقَامُ الظِّلِّ مِنَ المَوْجُودَاتِ الحَقِيقِيَّةِ. كِلاَهُمَا حَقِيقَةٌ وَوَجْهٌ لِلآخَرِ. رُبَّمَا الخَيَالُ هُوَ ظِلُّ الحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ الحَقِيقَةَ نَفْسُهَا هِيَ أَيْضاً ظِلُّ الخَيَالِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَحْدُودٌ بِدُونِ الآخَـرِ”. إِذاً كِلاَهُمَا يَقْتَرِنُ وُجُـودُهُ بِالآخَـرِ فِي العَمَلِ الإِبْدَاعِيِّ، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الأَخِيرَ هُوَ فِي نِهَايَةِ الأَمْرِ وَلِيدُ الوَاقِعِ مَهْمَا أَوْغَـلَ فِي الخَيَالِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَـةٌ وَانْعِكَاسٌ لِلآخَـرِ، غَيْرَ أَنَّ الخَيَالَ يُعْطِي العَمَلَ الأَدَبِيَّ نَكْهَةً رَاِئقَةً جَمِيلَةً، وَيُضْفِي عَلَيْهِ طَابَعـاً مُبْهِجـاً،  يُثِيرُ أَهْـوَائَنَا، وَيُـؤَثِّرُ فِي جَوَارِحِنَـا، وَيَسْتَوْلِي عَلَى أَلْبَـابِنَـا.

وَقَدْ قَـرَأْتُ ذَاتَ مَرَّةٍ لِلشَّاعِـرِ اليَمَنِيِّ الرَّائِـعِ د.عَبدُ العَـزِيزِ المَقالـح قَـوْلَهُ فِي إِحْـدَى مَقَـالاَتِهِ: “الكِتَابَـةُ الإِبْـدَاعِـيَّةُ –مَهْـمَا أَوْغَلَتْ فِي التَّخْيِيلِ- لاَ تَأْتِي مِنَ العَـدَمِ، وَإِنَّمَا تَتَخَلَّقُ مِنَ الوَاقِـعِ، وَعَبْرَ شَخْصِيَّاتِهِ وَأَمَـاكِنِهِ وَأَحْـدَاثِهِ. وَالمُثِيرُ لِلإِعْجَـابِ حِينَ تَتَمَكَّنُ الأَعْمَـالُ الرِّوَائِيَّةُ العَـظِيمَـةُ مِنْ إِيجَـادِ حَـالَةٍ مِنَ التَّعَـاضُدِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ المُتَخَيَّلِ وَالوَاقِـعِ تَصِـلُ الحَـالُ مَعَهَـا إِلَى دَرَجَـةٍ تَجْعَلُ القَـارِئَ لاَ يُفَـرِّقُ بَيْنَ الوَاقِـعِ وَالمُتَخَيَّـلِ، وَلَكِـنَّ الارْتِقَـاءَ إِلَى هَـذِهِ الحَـالَةِ، يَعْتَمِـدُ عَلَى مَوْهِبَـةِ الكَـاتِبِ، وَعَلَى اتِّسَـاعِ مِسَـاحَـةِ ثَقَـافَتِـهِ، وَاسْتِفَـادَتِـهِ مِنْ كُـلِّ المُكَوِّنَـاتِ التِي تَسْتَحْضِـرُهَـا ذَاكِـرَتُهُ عَنِ المَـاضِي وَالحَـاضِـرِ، عَنِ الجَـدِيـدِ وَالقَـدِيـمِ، عَـنِ المَكَـانِ وَسَـاكِـنِ المَكَـانِ”.

هَكَـذَا هُـوَ الخَيَـالُ سَبْرٌ لأَغْـوَارِ النَّفْـسِ وَالحَيَـاةِ، وَإِظْهَـارٌ لِمَوَاطِـنِ الخَيْرِ وَالجَمَـالِ أَوْ نَقِيضِهِمَـا، إِنَّهُ الخَيَالُ: مُدُنٌ وَقُـرىً تُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْـلِهَا، وَمَشَاعِرٌ وَأَحَاسِيسٌ تَحْمِلُ هَـوَاجِسَ الحُبِّ وَالأَمَلِ وَاللَّوْعَـةِ، وَتَنْثُرُهَا فِي أَرْجَـاءِ الكَوْنِ الفَسِيـحِ، وَتَتَحَدَّثُ عَـنَّا فَتُطِيلُ الحَـدِيثَ، وَتُعَرِّفُـنَا بِأَنْفُـسِنَا الحَـائِرَةِ كَـمَا لَمْ نَعْـرِفْهَا مِنْ قَبْـلُ.

وَأَخِيراً: لَوْلاَ الخَيَـالُ مَا أَبْـدَعَـتْ رِيشَـةُ الفَنَّانِ لَوْحَـةً (تَشْكِيلِيَّةً) جَـمِيلَةً، وَمَا جَـادَتْ قَـرِيحَـةُ الشَّاعِـرِ بِتَرَانِيـمَ شِعْـرِيَّةٍ سَـاحِـرَةٍ، وَلاَ أَبْـدَعَ قَلَمُ القَـاصِّ عَـمَلاً إِبْدَاعِـيّاً مُمْتِعـاً، وَكُـلُّ ذَلِكَ لأَنَّ صَدِيقَنَا الخَيَـالَ يَخْلُقُ فِي نُفُوسِنَا رُوحَ الإِبْـدَاعِ وَالجَمَـالِ، وَيُحَفِّزُنَا دَوْماً عَلَى الابْتِكَارِ وَالمُتْعَـةِ، وَالتَّحْلِيقِ فِي فَضَاءَاتٍ افْتِرَاضِيَّةٍ رَائِعَـةٍ، تَمْنَحُ إِبْدَاعَـنَا طَعْمَ الدَّهْشَـةِ وَالغَـرَائِبِيَّةِ، وَتَصْبِغُهُ بِلَوْنِ ذَوَاتِنَا القَلِقَةِ، فَنَرَى العَالَمَ الفَسِيحَ بِرُؤْيَةٍ جَدِيدَةٍ، نَنْسَى فِيهَا قَسْـوَتَهُ وَلَوْ قَـلِيـلاً.

مقالات ذات علاقة

ترنيمة لبلادي …

عزالدين عبدالكريم

عام الدقيق وعام الذبح

يونس الهمالي بنينه

محمد حسن صوت موجوع يسكن وجدان الليبيين

المشرف العام

اترك تعليق