تراث

على موائدِ الجودِ والقصيدِ ..

 

هَاتَانِ قِصَّتَانِ مَاتِعَتَانِ من تُرَاثِنَا اللَّيبيِّ الزَّاخِرِ بِالنَّوَادِرِ والطرائفِ، وهما من أروع القِصَصِ التي يُمْكِنُ أن تُضْرَبَ بها الأمثالُ، الأولى في الكرمِ الليبيِّ النَّادرِ، متمثَّلةً في إكرام خليل اعميش الدَّايخ للشَّاعِرِ حسن لقطع، دون سابقِ معرفةٍ، بل دون أن يعرف من هوَ، إكرامًا وَصَلَ حدَّ الإغداقِ عليهِ، ترحيبًا وبشاشَةً وَهَشاشةً وكساءً وتبجيلاً، وردَّ الشَّاعِرُ الجميلَ والإكبارَ بقصيدةٍ خالدَةٍ ظلَّتِ النَّاسُ تُرَدِدِّهَا إمَّا استشهادًا بها على الكرمِ اللِّيبيِّ الأصيلِ، وإمَّا أنموذجًا للعرفانِ بالجميلِ، وإمَّا تلذُّذًا بالشِّعْرِ الشِّعْبِيِّ الرَّائعِ الذي أجادَ الشاعر حسن لقطع نَظمَهُ في ممدوحِهِ بدرجَةٍ عاليةٍ منَ البراعةِ.

والثَّانِيَةُ قصيدَةٌ مدهشةٌ في وَصَفُ الشَّاعِرِ لـ (أم الهناء) شقيقَةُ مضيِّفِهِ خليل اعميش الدَّايخ.

وإليكمُ القِصَّتينِ مفصَّلتينِ مدعومتينِ بالشِّعْرِ المُبْهِرِ:

نزلَ الشَّاعِرُ حسن لَقْطَع ضيفًا على بيتِ خليل اعميش الدَّايخ، الملقِّب بـ (اعميش) وهو من بيت (بوالقراقع)، منقبيلَةِ المغاربَةِ، فأكرَمَ وِفَادَتَهُ دونَ أن يعرفَهُ, وأغدقَ عليهِ من كُلِّ ما يملكُ، وقد كَانَ الشَّاعِرُ فقيرًا، رَثَّ الثِّيَابِ، رَدِيءَ الهَيْأَةِ، تبدو عليهِ علامَاتُ الحاجةِ والبؤسِ والافتقارِ.
وأوضاعُ النَّاسِ – في ذلكَ الوقتِ- كانت متشابِهَةً، وكلُّهَا تقربُ من حالةِ الفقرِ والعوزِ والاحتياجِ، ويبدو أنَّ هناكَ من أهلِ النَّجْعِ من عَرفَ الشَّاعِرَ لقطعَ، فأشارَ عليهِ بأن يقصدَ بيتًا بعينِهِ، هو بيتُ (اعميش)، وقد كانَ بيتًا كبيرًا واسعًا، منتصبًا وسطَ بقيَّة بيوتِ النَّجْعِ، ففعلَ الشَّاعِرُ ما أُشِيرَ عليهِ بِهِ، فَقَصَدَ بَيْتَ ( اعميش)، وفيهِ اُستقبلَ اِستقبالاً حسنًا دونَ أن تُعرَفَ شخصيَّةُ الضَّيفِ، وكانَ أهلنا – وقتَهَا – لا يسألونَ الضَّيفَ عنِ اسمِهِ وأهلِهِ وقبيلَتِهِ إِلَّا بعدَ مُضِيِّ ثلاثةِ أيَّامٍ من قدومِهِ عليهم.

وقد كانَ لقطع متوجِّسًا من موقفِ قدومهِ على شخصٍ لا يعرفُهُ، خجولاً من حالتِهِ، فأدنَاُه اعميش منه، وأبدى له ودادًا وبَشَاشَةً، واحتفاءً بِهِ حدَّ التَّوقيرِ العَظِيمِ، فأَجْلَسَهُ بإلحاحٍ على أفخمِ فرش البيتِ، ثمَّ أخرجَ طاسَاتِ الشَّاي، وقد كَانَ نادرًا في ذلكِ الوقتِ، وممَّا يُحْسَنُ تقديمُهُ للضُّيُوفِ، فأخْرَجَهَا بعدَ أن كانت ملفوفَةً في قطعَةِ قُمَاشٍ، وموضوعةً في أحدِ الصَّنَاديقِ الَّتِي تُعدُّ لهذا الغرضِ، وفي إخراجِها، دلالةٌ على أَنَّهُ سَيُكْرِمُ ضَيْفَهُ.

وبعدَ أنِ اطمأنَّ الضَّيفُ الشَّاعِرِ إلى مشاعِرِ الودِّ والإكرامِ التي أحاطَهُ بها مضيِّفُهُ، تهلَّلت أسارِيرُهُ، وانشرحَ صدرهُ، وطابتْ نفسُهُ، وبدا عليهِ البِشْرُ الانشراحُ، فأخذَ اعميش العَبَاءَة القديمَةَ الرَّثَّةَ التي كانَ يرتديها لقطع، وأحرَقَهَا، وطَلَبَ من زَوْجَتِهِ أن تُحْضِرَ لَهُ (جردًا) جديدًا كانَ يدَّخِرُهُ في خزانَتِهِ الخَاصَّةِ، معَ كسوَةٍ، وعمامَةٍ، وألبسَهَا لضيفِهِ المُتَعَجِّبِ من فعلِ هذا الرَّجُلِ الجَوَادِ، ثم أمرَ رَاعيهِ بأن يأتي بشَاةٍ من غنمه ويذبحَها ليولمَ لضيفِهِ، فامتطى الرَّاعِي حمارًا وأحضرَ (ثني) وذبحَهُ استعدادً للبدْءِ في الوليمةِ.

حينَهَا أقبلَ اللَّيْلُ، وعادَ أهلُ النَّجْعِ إلى بيوتِهِم، وقد علموا بضيفِ (اعميش) فتقاطروا على بيتِهِ للترحيبِ بِهِ، ونيلِ نصيبِهِم منَ الوليمَةِ البَاذِخَةِ، ومن مائدةِ الشِّعْرِ العَامِرَةِ أيضًا، لاسِيَّمَا وأن كثيرًا من أهلِ النَّجْعِ يعرفونَ لقطع، ويدركونَ مكانَتَهُ ومقدرَتَهُ الشِّعريَّةَ الخارقةَ، ثمَّ طَفِقَ بعضُ من حضروا يُقَبِّلونَ رأسَ الشَّاعِرِ، كَمَا كانَ يفعلُ البُسَطَاءُ من أهلِ البَادِيَةِ معَ بعضِ أبناءِ القبائلِ الشِّريفَةِ، تبرُّكًا بهم، واعتقادًا ببركتِهمِ.
فَتَسَاءَلَ اعميش متعجِّبًا: “ضيفي امرابط ..!؟ ”
فقيلَ لَهُ إِنَّ ضَيْفَهُ هوَ (الطَّالِب حسن لَقْطَع). والطَّالِبُ لقبٌ يطلقُ لتوقيرِ الشُّعَرَاِء كَانَ شائعًا ذلكَ الزمنِ.

وبعدَ قضاءٍ ليلةٍ ماتعةٍ قضاها الشَّاعِرُ معزَّزًا مكرَّمًا، محتفًى بِهِ عندَ نجعِ (بوالقراقع)، وفِي ضيافَةِ رَجُلٍ كريمٍ ذي كرمٍ أسطوريٍّ، غَادَرَ النَّجْعَ مُنْتَشِيًا بهذَا التَّبْجِيلِ، مسرورًا بمراسمِ استقبالِهِ وضيافتِهِ وتوديعِه، ثمَّ حَلَّ ضيفًا على الباشا (صالح لطيوش)، الذي كانَ يعرفُهُ، ويعلمُ قدرَهُ، وَيُقَدِّرُ منزِلَتَهُ، فَأَكْرَمَهُ، وَأَقَامَ لَهُ مأدبَةَ عَشَاءٍ فاخِرَةً دُعِي لحضورِهَا عددٌ من أعيانِ ومشائخ (الرَّعيضاتِ)، وأثناءَ الحديثِ سألَهُ الحاضرونَ عنِ استقبالِ (اعميش) ومنه الباشا لطيوش الذي سألَهُ قائلاً: ” ياك غير سترنا امعاك أعميش؟” فَارتجلَ الشَّاعِرُ حَسْنُ لَقْطَع القصيدَةَ التَّاليَةَ، مُشِيدًا فيها بكرمِ وجودِ وأخلاقِ اعميش بهذِهِ الأبياتِ، مانحًا إيَّاهُ شكرَهُ، مُخَلِّدًا ذِكْرَهُ:
اعميش يا عرب ماني اللِّي قايلَّهْ * علي طول عمرك ما اتدير عفانه

اعميش خير من نقب الرَّعيضي كِلَّهْ * نقولها وفي حضرةْ وجوه عيانه

اعميش فِ العرب ما فيه من مَاثَلَّهْ * امفيت بو ابريق امهدي في فرجانه

وعبدالنبي بالخير في وِرْفَلَّهْ * والكِزَّة وسيف النصر في فزَّانه

بوه هو اللِّي مختار وْمخوِّلَّه * لطيوش اللِّي باشا ذهب نيشانه

بعدَها عادَ الشَّاعِر حسن لَقْطَع إلى مدينة اجدابيا، وهناكَ استقبَلَهُ (أولاد شامخ) وأقاموا لَهُ غَدَاءً لائقًا بِشَاعِرٍ كبيرٍ مثلِهِ، حَضَرَهُ سادةُ القبيلَةِ وَكبرائِهَا، وكانَ بينَ الحُضُورِ الشَّاعِرُ الكَبِيرُ (علي بوفلَّاقه)، وهو من أصدقَاءِ الشَّاعِرِ، فاندَفَعَ لَقْطَع يُحَدِّثُهُم بما قَالَهُ من شِعرٍ في الشَّيخِ الجَوَادِ (اعميش)، فَسَأَلَهُ الشَّاعِرُ علي بوفلَّاقه مستثيرًا إيَّاهُ، بقُولِهِ: ” وكيف حال أُمّ الهنا ؟
وأُمُّ الهنَاء هِيَ أُخْتُ اعميش، أرملةٌ – حينَها – ذاتُ حُسْنٍ وجمالٍ وعِفَّةٍ وحياءٍ، فأجابَهُ لَقْطَع مُرْتَجِلاً:

هي أمّْ الهنَا هي لوَّلى مازالت * كي التِّصوره لي قاصره لا طالت

هي أم الهنا وحشمها * هن أصباعها هي لوَّله وختمها

جيتَّها نهار وْسام جيل غلمها * ما شَيّْ خسرت والسَّتيرة نالت

ولها ريت مارة عارفك تفهمها * بين الحموره والبياض أشعالت

وعلي طولها من راسه لقدمها * قرونها ثناوي ميَّلنها مالت

جت خاطمه ومواسيه امحزمها * شلوق نقمَرَتْ بين المخاطر ضالت

وصالح ونصر اميعدين احذاها * نريدها اتخيل وما عليهم خالت

لا أظهرَتْ كلمَة بَاسِلَة من فَمْهَا * لا اسْكَتَتْ لا كِثْرَةْ حجايج قالَتْ

إضـافـاتٌ:

– القصيدتانِ ضاعَ منهما كثيرٌ من أبياتهما بسبب بعد الزمن بيننا وبين زمن الشاعر، الذي توفِّي سنة 1952م، في بعض الرواياتِ، وبعدم وجودِ تدوينٍ يحفظ مثل هذه النوادر الشعريَّة.

– خليل اعميش الدايخ القرقعي،كان ذا كرمٍ خرافيٍّ، وقد سمعتُ من بعضِ الكبارِ قولهم إنَّ كلَّ ما قاله عنه الشاعر حسن لقطع هو كلامٌ صحيحٌ.

– بحسب ما يُرْوَى من بعضِ الشُّيُوخِ؛ فأنَّ الشَّاعِرَ قد دعا لاعميش في إحدى قصائدِهِ، وربما في هذا القصيدَةِ التي بين أيدينا، دعا له بأن يكرمَهُ اللهُ بالحَجِّ، ثم يموتُ هناكَ، ويدفنُ بالبقيعِ، وأنَّ هذا الأمرَ قد حدثَ حقيقةً، وبأنَّ بعدَ وفاةِ (اعميش) رآهَ أحدُهم فِي المَنَامِ، مُحَاطًا باللَّبَنِ والحَلِيبِ الَّذِي كانَ يسقيهِ لفقراءِ النَّاسِ، ومحتاجيهم حالَ حياتِهِ.

– يُقالُ إنَّ اثنينِ من أبناءِ خليل عميش، اُستشهِدَا أثناءَ الجِهَادِ ضدَّ الغزوِ الإيطاليِّ لليبيا.

بعض الأسماء التي وردت في القصيدة:

#بوابريق امهدي: أحد مشائخ قبيلة الفرجانِ.

#عبدالنبي بالخير: كبير مشائخ قبيلة وِرْفَلَّة.

#الكِزَّة: هو الشيخ وعبد السلام الكزَّه باشا، أحد كبار مشائخ قبيلة العواقير.

#سيف النصر: الشيخ سيف النَّصر عبد الجليل، والده هو الشيخ سيف النصر بن سيف النصر شيخ أولاد سليمان في فزَّان وبادية سرت، هو قائممقام دور منطقة فزَّان وتولَّى قيادتَه لمدَةٍ طويلةٍ.

#لطيوش: الباشا صالح لطيوش، هو ( صالح الكيلاني علي سليمان).قائمقام دور المغاربة وقد قاده مدة طويلة ، ولد سنة 1878م، وتوفِّي سنة 1948م.

#علي_بوفلَّاقة: علي حمد صالح ابعيص، من عائلة جضران، بيت منصور، قبيلة المغاربة، وبوفلَّاقة لقبٌ غلب على اسمِهِ، وسببه أنه اشترى بندقيَّةً، فكانَ يقسمُ بها قبل أن يتزوَّج: (وحقّ ها الفلَّاقيَّة). وهو شاعرٌ كبيرٌ ، وُلِدَ في نواحي اجدابيا عام 1846 تقريبًا، وتوفِّي سنة 1952م، أي في العام الذي توفِّي فيه حسن لقطع نفسه.

مقالات ذات علاقة

ذكرى شهيد

المشرف العام

تركناه حب الوطن

المشرف العام

«قول الفجي».. خرافة ليبية تتحدى النميمة

أسماء بن سعيد

اترك تعليق