غلاف رواية طريق جهنم.
طيوب عربية

طريق جهنم … قراءة نقدية (7)

د.الصديق بشير نصر

(طرِبتُ بالآهة السكرى فواعجبي
هل ينبُتُ الحزن بين الشدوِ والطربِ؟
أمُد عُمرَ المُنى جِســراً لأعبُرَه
وأنتهي قبلَ أن أسعى إلى طلبي
فلستُ أدري هي الأحشاءُ قد تعِبت
أم قد تعِبتُ أنا حتى من التعبِ؟)

شعر: أيمن العتوم

● شخوص الرواية (ب)، الأمهات والزوجات في (طريق جهنم)

غلاف رواية طريق جهنم.
غلاف رواية طريق جهنم.

الأمهات والزوجات في رواية أيمن العتوم (طريق جهنم) قلوبٌ أغتيل في داخلهنّ كلُّ معاني الطهر والجمال لما قاسين من قهرٍ وإذلال، إنهن ورودٌ وأزاهيرُ أذبلتها سنون الغبن، فداستها بكلّ امتهان أقدامُ العسكر وصيّرتها أوراقاً يابسة تذروها رياح الزمن العاتي، وكأنّ أولئك الجندرمة ما خرجوا ذات يوم من رحم امرأة اسمها الأم.

من لا يعرف عبقَ الرياحين وعبيرَ الزهور وأريجَها لا يألف إلا العفونة. إنّ أعظمَ قلبٍ صنعه الباري هو قلبُ الأمّ. هو مستودعُ الحبِّ والحنانِ، ينفطر إذا أصابته ألحاظ الورى بغضاً، وهو وردةٌ تجرحها اللمسةُ الآثمة. ولو تمثّل المرء كيف تكون الأم فكرةً في الذهن لعلِمَ المعنى الخفيَّ لبيتٍ من الشعر يتنازع نسبتَه كثيرٌ من الشعراء، وهو:

وَمَرَّ بِفِكْرِي خاطِراً فجَرَحْتُهُ
وَلْم أرَ شَيْئا قَطُّ يَجْرَحُهُ الفِكْرُ

لقد أفرغ المؤلفُ أيمن العتوم للأم مساحةً في روايته ليتحدث عن المأساة عندما تتجاوز أصحابها إلى غيرهم. وكثيراً ما تكون الحالة أكثر مأساوية إذا تعدّت إلى الأمهات والآباء والأبناء والزوجات.

عذابٌ مزدوج يمارسه الجلاد على الضحية، حينما يتعدّى جُرمُه الحدودَ التي أَذِنت بها الشرائع والقوانين، ليُلْحِقَ كلَّ صنوف المهانة والإذلال والاحتقار بأقرب الناس إلى الضحية. تلك منتهى الخساسة. “إرادوا كسر إرادتي فلم يفلحوا، فشرعوا يُعذبونني بكم، فلا تمنحوهم ذلك”، والأم تقول: “ليتني أنا ولستَ أنت يا حبّة القلب. هلموا خذوني ودعوه”.

تخيّل عُتُلاً زنيماً يقف على باب السجن يدفع شيخاً عجوزاً متهالكاً يسأل عن فلذةِ كبده فيسقطه بغلظةٍ وهو يُرْغي ويزبد كالثور الهائج، أو يصفعُ أمّاً على وجهها فتتحجّر دموعُها في عينيها مخافةَ أن تُظهِرَ ضعفاً أمام هذا المتحجّر المتبلّد الإحساس، بله الميت الشعور، فينتابه شيءٌ من الزهو وكأنه أصاب انتصاراً أو فتحاً عظيماً يظلّ يتباهى به أمام نظرائه من أشباه البشر. قلوبُ الأمهات تحكمها قوانينُ مدفونةٌ في أعماقها هي أقرب إلى الغريزة أو الفطرة أو الجِبِلّة منها إلى الشرائع المصنوعة. ولما كانت قلوبُ الأمهات على هذا النحو، فإنها تظلُّ تلاحق وليدَها، وتدفع عنه كلّ أذى، ولن يبرح أن يكون في عينيها ذلك الطفل الغرّير ولو بلغَ من العمر عِتيّا. هكذا، أو مثل هذا، يصوّر أيمن العتوم الأم، وكيف تحتضن وليدَها الذي ظلت تنتظر قدومه، ثم تسلخ من عمرها ولحمها ودمها وأعصابها وهي تغذيه وتنشِّئه ليكون عصاها التي تتكئ عليها في خريف العمر، ثم لا يلبث أن يحطّ ببابها وحشٌ كاسرُ فيخطفه منها.

“جاءت أم سجين قاطعةً ما يزيد عن ألف كيلومتر من أجل أن تراه. كان طيفُ ابنِها زادَها في الطريق، ودافِعَها غلى تحمّل آلام ومشاق لا يقوى عليها من كان فتيّاً، فكيف بمن سرق منها الهرمُ كلّ عضوٍ سليمٍ في جسدها؟!! كانت تحلُم به في كلّ لحظةٍ، ها هي تسمع صوته حين خرج من رحمها بعد سنين من الانتظارِ المُمضِّ. لقد كان صوتُه موسيقاها التي تستعيدها من أجل أن تبتسم، ها هو يحبو، لقد كان يضع في فمه كلّ شيءٍ يجده في طريقه، ويبكي فتسرع لكي تُكفْكِفَ دموعه، ها هو يقف متأرجحاً على قدميه، إنه يمشي بضع خُطُواتٍ ويسقط، لكنه يقف من جديد ويمشي، وهي تكاد تبكي من الفرح لأنه يفعلها، ها هو يلبس أوّلَ حذاءٍ يختاره بنفسه، ويمشي به مختالاً بين رفاقه، ها هو يعود من المدرسة ضاحكاً قائلاً بصوتٍ عالٍ: «إنني الأولُ على صفّي يا أمّي» تحضنه في ذلك اليوم، وتقبله طويلاً، ثم تُشيح بوجهها بعيداً عنه حتى لا يرى دموعَ الفرحِ المنهمرة من عينيها، فالأطفال مازالوا أطفالاً وعليهم ألا يرونا في حالة ضعفٍ، يجب أن نبدوَ أقوياء أمامهم دائماً.. لقد أصبح شاباً قويّاً، صار له أصدقاء كثيراً ما يزورونه ويأكلون معه، ويخرجون معه. وها هو يحصل على المعدّل الذي يُدخِلُه كلية الطب. أقامت له أمّه ليلةَ فرحٍ كأنه عريس، وها هو يتخرّج في الجامعة، ويرغب أن يدرس الاختصاص في لندن، لقد أراد أن يعرفَ أسرارَ القلوب، فأراد أن يُصبحَ جرّاحاً [..] هل بكت كلّ هذه الدموع من أجل ما سيحدثُ معه في المستقبل. المستقبل الذي يتزيّأ بلباس الرهبان فيما هو يُخفي المدية تحت ثيابه الفضفاضة” ص 157 – 158

ببراعة الفنان، مرّة أخرى، يزرع أيمن العتوم في مخيلتنا صورةَ هذه الأم وهي تنتظر ولدَها في المطار مزهوّةً وقد عاد إلى الوطن يحمل شهادةً عاليةً في جراحة القلب من لندن. ولكن، ثم ولكن. ولكن أيُّ لكن تلك المفجعة التي تنتظرها؟! خرج جميعُ القادمين من السفر إلا ولدَها. ماذا حدث؟ هل من جوابٍ أو مجيب؟ كيف اختفى ولدُها الطبيب وتبدّد؟ لعله سبقها إلى البيت!. تصويرٌ يقطّع نياطَ القلوب:

“كيف لصوته الساحر أن ينقطعَ فجأةً، كيف لصورته أن تغيبَ إلى أجلٍ غيرِ معلومٍ؟ كيف له أن يحرمَها من أن تحتضنَه، وتطيرَ بابنها الذي فتح بابَ القلبِ على مصراعيه لسعادةٍ غامرةٍ؟ [..] قالوا لي أخيراً إنه مسجون. ولكن لماذا يُسجنُ جرّاحٌ قادمٌ من لندن من أجل أن يخدمَ وطنه؟! ها هي تحاولُ أن تستبطنَ شيئاً مخفياً في نبرة صوته في مكالمته الأخيرة، إنها تبدو كما لو كانت قادمةً من بئرٍ عميقةٍ. قطع جدار السجنِ عليها خيالاتها وأحلامَها. يصل إليها الدورُ، يسألها الحارسُ الفظُّ على البابِ عن اسم ابنها، فتقوله له. فيردّ بكل بساطة: “ممنوعةٌ عنه الزيارةُ”. تحاول أن تعرفَ لماذا؟، لكنّ سجّانةً أخرى تأخذ العجوز بعيداً وتُلقيها على الطرف الآخر من الشارع [..] جرّت رِجليها وعادت منكسرةً. شيءٌ ما ثقيلٌ جداً فوق كاهليها يجعلُ خُطواتها بطيئةً. إنها لا تكاد تمشي. أكان فقدانُ الأب مؤلماً إلى هذا الحدّ؟ [..] تبحث عن أحدٍ ليُساعدَها، لكنّ الشارعَ كان خالياً من كلّ ذي قلبٍ وإن كان مزدحماً، ربما ظنوها متسوّلةً، ربما ظنوها مجنونةً. أليس للمجانين أحدٌ يسألُ عنهم؟ واصلت طريقها، رفعت يدها لكي يُشفقَ عليها أحدُهم فيوصلها إلى مجمع الباصات الذاهي إلى محافظات الجنوب. يحملها ابنُ حلال، تتحامل حتى تصعدَ بمعاونته الدرجة إلى الباص. وتُلقي بكلّ أعباء السنين الغابرات على أقرب كرسيٍّ. تُلقي بكلّ أحزانها وأوجاعها، وهي تسمع صوتَ فرحةِ ابنها حين جاءها نبأ تفوقه في الثانوية العامة [..] تسند رأسها على زجاج النافذة. بعد أربع ساعات وقف الباص في المحطة الأولى، كانت تبدو نائمةً، أرادوا أن يسألوها عن وِجهتِها القادمة، لكنهم فضّلوا ألا يوقظوها. حمل الباص حمولته الجديدة، وهي ما زالت في مكانها. اقترب منها السائق، هتف بها بلطفٍ لكنها لم تستفق. كانت تبدو كما لو أنّ ألف سنة من الهموم قد شكّلت تجاعيدَ وجهها في تلك اللحظة. هزّتها امرأةٌ من كتفيها، لم تستحب لأحدٍ. كانت مشغولةً في عالمٍ لا ينتمي إلى هذا العالم” ص 159.

فاضت روحُها وهي تغادر هذا العالم المجذب القاسي، مخلفةً وراءها ولدَها وهو يقبع في زنزانةٍ مظلمةٍ ضيّقةٍ بين أيدي مجرمين سفلة.

تحفل الآداب والفنون العالمية بصورة المرأة الأم، والمرأة الزوجة، إذ رُسِمت بكلّ الألوان، وتبارى في رسمها أعظمُ المصورين والرسامين والمثّالين على مدى القرون. الداخل إلى متحف اللوفر، أغنى متاحف العالم، تعترضه أجمل لوحات العالم التي تصور الأم وهي تحتضن وليدها وقد حفّتها الملائكة لدافنشي ورفائيللو. كما تعترضنا لوحة (البراءة) وهي مثالٌ من الأمثلة المذهلة المنحدرة من حقبة النيوكلاسيكيّة، للرسام ويليام أدولف بوغيرو Bouguereau William Adolphe وهي لوحة استعاريّة (الليغوريا) تصور معنى البراءة. تمثل لوحة البراءة Innocence المعنى الحقيقي لفضيلة (البراءة) في الأم والطفل والحمل الوديع تحمله الأم بين ذراعيها كما تحمل طفلها. إنه النقاء والطهر الكاملان الخاليان من كلّ شوائب الآثام والذنوب والخطايا. وليتخيّل القارئ أنّ هذه الصورة الجميلة يتم تشويهها وحرقها ونحرها من الوريد إلى الوريد. لا معنى لذلك غير اغتيال الإنسانية بدمٍ بارد.

أيمن العتوم روائي يحمل بين جوانحه شحنة ضخمة من العواطف نحو الأمهات، ولا سيما أمهات المساجين. أراد أن يرسم لنا صورة ذلك الحمل الوديع وقد أنشب فيه الوحشُ نيوبَه، وكيف لا يكون ذلك وقد ابتُلِيَ هو نفسُه بتجربة السجن المريرة، فأحسّ بوجع أمه المفجوعة به. إنّ أحاديثه عن مآسي الأمهات بهذه الصورة المؤثرة تعكس تجربته الحقيقية الحية التي ما برح يتحدث عنها في أشعارة التي كان يكتبها في الزنزانة، وقد ضُمّ بعضُها في ديوانه (نبؤات الجائعين). أليس هو القائل في قصيدته (ياليلة العيد) التي قالها في السجن، يهديها إلى أمّه: “إلى الصابرة أبداً.. الراضية.. الطيبة التقيّة.. إلى تلك التي ما زال طيفُها في ليالي السجنِ يملأ عليّ كلّ ذرات غرفتي.. إلى أمي”. وفي هذه القصيدة، وتقع في ثلاثة وثلاثين بيتاً، يقول في بعضها:

أتوبُ في العيدِ عن شَجْوي وآهاتي
فمن لحُزنٍ تربّى في حُشاشاتي
طرِبتُ بالحزنِ حتى صار يُسكرُني
فلست أطْربُ إلا في عذاباتي
إنّي لأعجبُ مِنّي كيف تَــألَفُني
دُنيا الضّنا وتُهنّيني جِراحاتي
رسمْتُ بؤسي بدمعٍ لستُ أذرُفُه
إلا لِتزدان بالألوانِ لوحاتي
يا ليلةَ العيدِ لا صُبحٌ بأغنيةٍ
قد أسفر الطيرُ فيها عن موافاتي
مُشتّتٌ في مهاوي الريحِ تنثُرُني
فمن تُلملمُ بعد الريـحِ اشتاتي
أبَعْدَ أُمي ولم أسعد برؤيتها
منذ اعتُقِلتُ أُراني بابتساماتي 
أُحبها وهي تدري كم أُقدّسُها
وكم تُعاني بأقسى من معاناتي
بذلتُ عمري لها فدوى لموطِئِها
إن كان يغفرُ هذا بعضَ زلاتي
أُمي التي صبرَت عنّي وعن نزَقي
وغضّت الطرْفَ عن كُبرى حماقاتي

في تاريخنا العربي الإسلامي صورٌ مُشرقة للأمهات، كان من الحريّ بأدبائنا أن يحولوها إلى أعمال فنية قد لا نجد لها نظيراً في الآداب العالمية. ربما شدّتنا صورة الأم التي رسمه غوركي في روايته (الأم)، أو تلك التي صوّرها لنا برتولت بريشت في مسرحيته (الأمُّ شَجاعة). ربما نَغْبِطُ الغربَ على الاحتفاء برموزهم وأبطالهم. فتلك (جان دارك) أو (جان دي أورليان) حرقوها ثم جعلوها قديسة وأقاموا لها النصبَ والتماثيل في أكبر الساحات بالبلاد الأوروبية. ففي باريس وحدها ثلاثة تماثيل ضخمة لها وهي على صهوة جوادها تلوّح بسيفها. امرأة وقفت في وجه المحتل الغازي بعد أن تخاذل الملك والنبلاء، فخرجت تطلب الحرية لبلدها في جيش من العامة والرّعاع، فحققت انتصارات لم يحققها جيش فرنسا. لقد كُتِب عن جان دارك في الأدب العالمي ما لم يُكتب عن غيرها، وتحولت سيرتها إلى أعمال سينمائية، وزُرِعت حكايتها في قلوب النشء الجديد…

وفي الثقافة الفرنسية تمثل المرأة (الأم) رمزاً للوطن والحرية، حتى إنّ أوجين ديلاكروا رسم لوحته الشهيرة التي تمثل امرأةً تحمل الراية وهي تقود الشعب نحو الحرية إبان الثورة الفرنسية، وجعل لها عنواناً هو (الحرية تقود الشعب). تلك المرأة هي (الأم)، هي فرنسا تحنو على أولادها، وتأبى أن يرسفوا في أغلال العبودية والإذلال. وعندما يأتي الحديثُ عن المرأة الزوجة، وعن قيمة الوفاء يحدثوننا عن (بينيلوبي)، زوج أوديسيوس (أوليسيس) بطل أوديسة هوميروس، حتى إنّ بعض شعرائنا العرب أُخِذوا بذلك فكتبوا فيها شعراً رائقاً جميلاً، إكراماً لقيمة الوفاء. وهذا شيء حسنٌ لا ريب، ولكن في تراثنا العربي الإسلامي نماذج مثيرة جديرة بالإظهار تغنينا عن كلّ ذلك لم يأبه لها أحد، ولم تنل عنايةُ الأدباء والفنانين. لست أدري لماذا استدعت ذاكرتي شخصية اسماء بنت أبي بكر الصديق (ذات النطاقين) وأنا أتلمّس ملامح شخصية أم علي العكرمي إحدى الشخصيات النسائية اللاتي ورد ذكرهن في رواية (طريق جهنم)!!. يُخيّل إليّ أنّ ثمة قواسمَ مشتركة بينهما. ربما هو الإباءُ والشمَمُ والجَلَدُ أمام المحنة. أسماء ذات النطاقين هي صاحبة العبارة الشهيرة التي حفظها لنا التاريخ: “ماذا يضيرُ الشاةَ سلخُها بعد ذبحها؟”. عبارةٌ قالتها لابنها المُقْدِمِ على الموت وهو يخشى المثَلةَ بجثته. وهي أيضاً التي تقف أمام جثة ابنها عبد الله بن الزبير مصلوبةً، وتقول: “أما آن لهذا الفارس أن يترجّل”، تقول ذلك في وجه قاتله الحجاج غير هيابة ولا مرتاعة. هذه الصورة وحدها تكفي أن تكون مادةً أدبية رائعة.

لقد وقفتُ في تاريخ الطبري على خبر يحكي موقفاً يجمع بين أسماء وابنها عبد الله بن الزبير (حمامة المسجد) في آخر لقاء يضمّهُما، خُيّل إليّ أنه اللقاء الأخير عينه بين علي العكرمي وأمه.

جاء في تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك) 6/188 تصويرٌ لهذه المرأة الأسطورية، لا بأس أن ننقله على طوله، فثمة وجهُ شبهٍ، في الموقف، بينها وبين أم علي العكرمي في رواية (طريق جهنم) أردنا الإشارة إليها.

“دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع اكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنتَ إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكتَ نفسَك، وأهلكتَ من قتل معك، وإن قلت : كنتُ على حق فلما وهن أصحابي ضعفتُ، فهذا ليس فعلُ الأحرار ولا أهلُ الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها، وقال : هذا والله رأيي، والذي قمتُ به داعياً إلى يومي هذا ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببتُ الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضبُ لله أن تستحلَ حُرَمَه، ولكني أحببتُ أن أعلم رأيك، فزدتيني، بصيرة مع بصيرتي . فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنُك، وسلمى الأمر لله، فإنّ ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يَجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهدٍ، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزيةً لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك قال: جزاك الله يا أمّه خيراً، فلا تَدَعِي الدُّعاءَ لي قبل وبعد. فقالت: لا أدَعُهُ أبدا، فمن قتل على باطلٍ فقد قتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين”.

قُتِل ابن الزبير، وصُلِب مُنكّساً أياماً، وكانت تمرّ به أمّه وهي عجوزٌ عمياء وتقول: “أما آن لهذا الفارس أن يترجّل”. قامت بتغسيله وتكفينه بعدما تقطّعت أوصالُه.

إنّ معاناة الأمهات كما صورها (أيمن العتوم) جديرة بالتأمل. وإنّ أسلوبَ الروائيِّ العتوم في تصوير نماذج الأم ممثلاً في شخصية أم بطل الرواية (علي العكرمي)، وفي شخصية خالته، وفي شخصيات أمهات وزوجات أُخريات، أسلوبٌ تصويري بارعٌ ومؤثّرٌ.

ومبلغُ ظني أنّه لا أحد من الروائيين العرب الذين كتبوا عن محنة السجون وسجناء الرأي في بلداننا العربية عالج هذا الموضوع كما عالجه أيمن العتوم في روايتيه (يا صاحبي السجن) و(طريق جهنم)، إلا أن يكونَ قد ورد وروداً عابراً.

وحكاية أمّ العكرمي كما قصّها علينا أيمنُ العتوم، ببراعته المعتادة، تصلح أن تكون مادةً سينمائيةً. أم العكرمي كان لها أخت وأخ يعيشان في تونس، كانت “مثل غصنٍ في أرضٍ وشجرته في أرضٍ أخرى”. تزوجت من رجلٍ يكبرها كثيراً وأنجبت منه ولدها علياً، الذي لم تكتحل عيناه يوماً بل ساعة من نهار برؤية أبيه الذي مات بعد أيامٍ من مولده، وظلّت أمّه وهي في ريعان شبابها ترعاه وتنشئه النشأة الصالحة، وتعاني من كلّ صنوف المرارة والهوان وشظف العيش من أجل أن تهيئ لوليدها حياةً كريمة وتعليماً جيداً. كانت تمرّ بها الأيام فلا تجد فيها حتى رغيف الخبز اليابس تطعمه إياه. خاطت الملابسَ حتى ضعُفَ بصرُها، وغسلت الملابس حتى نال الصقيعُ من أصابعها.

“لقد أكل البردُ كلّ شيءٍ في جسدها، تحمّلت حمّارةَ القيظِ، وصبّارة القرِّ لمرافقتي إلى المدرسة، وكانت تتباهى بي عندما نجحت في دراستي، وتفوقتُ – وأنا اليتيم – على أبناء الأثرياء من أبناء الجيران في بلاد المهجر. كانت تحضر تباعاً جلسات المحاكمة، وتعبّر لي عن قلقها من نحول جسمي رغم ما كنتُ أتسم به من اعتدال مقارنةً بأجساد أقراني التي تبدو كأنها أشباح. مع تأجيل كلّ جلسة كانت تعود باكيةً إلى المنزل منفطرةَ القلبِ الذي لم يعد يحتمل، القلبُ الذي استوطنه مرضٌ عُضال لم يُغادرها حتى غادرت معه” ص 170.

ناضلت تلك الأمُّ في بلاد المهجر، وهي المرأة المحجّبة، فنالت إعجابَ العائلات المحافظة في بلدٍ عَرَف مُبكّراً الدعوةَ لموجةٍ عارمةٍ من السفور والتحرّر. كانت غريبةً في ذلك الوقت عن أهل تونس. لقد نجحت تلك الأمُّ الرائعةُ في تربية ابنها تربيةً حسنةً، وحرصت على أن يتعلمَ تعليماً جيداً، فكانت تصحبه إلى المدرسة وتظلّ تنتظره حتى انتهاء حصص الدرس لتعود به. كانت امراةً أميةً لا تعرف القراءة ولا الكتابة، ولكنّ ثمة شيء في أعماقها يدفعها إلى تعليم ولدها، ربما لتحقق فيه آمالها وأحلامها المجهضة. كانت تغني له، في شعر شعبي: (يا ريتني عصفور فوق المكتب ** انشوف (عليوة) كيف يقرا ويكتب).

اشتغلت هذه الأمُ الكادحةُ عاملةً في إحدى المدارس؛ كانت تمشي منذ طلوع الفجر أربعة كيلومترات على رجليها في طقسٍ شديد البرودة لتصل إلى المدرسة التي كانت تعمل بها وتُعدّ الإفطارَ لتلاميذها نظير مبلغ شهري زهيد لا يتجاوز خمسة دنانير. كانت تبيت أحياناً في بيتٍ مجاورٍ للمدرسة عند إحدى صاحباتها لتتجنب مشقة الذهاب والعودة في الأيام الشاتية المطيرة. وعند عودتها إلى بيتها تظلّ تخيط الملابسَ للناس حتى ساعات متأخرة، وظلت تكدح على هذا النحو ستة عشر عاماً. لقد أصابها البرد بالروماتيزم الذي عشّش في عظامها، فسكن في قلبها ومفاصلها، حتى أودى بها في نهاية المطاف.

عاد علي العكرمي إلى وطنه ليبيا بصحبة أمّه، وأخذ يشعر برغد العيش، فابتسمت له الحياة، وتحصّل على وظيفة عمومية أهلته لها إتقانه للغات الأجنبية. ولكن لا شيء من ذلك يدوم، إذ باغثته يدُ الظلم فذبحت أمانيه وأجهزت على كلّ أحلامه. تحوّلت البلادُ إلى معتقل كبير، وأُلقِي بخيرة أبنائها في غيابات السجون، فقُتِل فيه من قُتِل، وجُنّ من جُنّ، ولم يسلم إلا من كتب الله له عمراً وأفسح له في الأجل.

وجد علي العكرمي نفسه، مع نخبةٍ من أبناء وطنه، داخل زنازين معتمة عفنة، ليظل حبيساً فيها ثلاثين عاماً، وما كان ليصدّق أنه سيمكث فيها يوماً أو بعض أيام، فضلاً عن أنه سيقبع فيها عقوداً ثلاثةً حتى صار كأنه حجرٌ من أحجارها.

في الفصل رقم (24) الذي يحمل عنوان (ليس لي غيرك)، يحدثنا أيمن العتوم عن لقاءين وجدانيين بين علي العكرمي وأمه الأول في السجن، والثاني في المستشفى. تمكَنَت من زيارته في السجن قبل أن يخلَدَ جسدها المنهك إلى الراحة في المستشفى، ويجري بينهما هذا الحوار القصير:

“– يا بُنيّ أما من مخرجٍ مما أنت فيه؟ ألا يمكن أن تجعلني أموت وأنا أُكحّل عينيّ برؤياك؟ قالول لي لو أنك تخليت عن أفكار الحزب فسيطلقون سراحك.

– كيف أتخلى يا أمّي عنها؟ أكذب؟ أقول إننا مخطئون؟ وهل تريننا يا أمّ كذلك؟

– يا بنيّ أنا تعِبتُ

– والله يا أمي لو بيدي لحملتك في قلبي، ولدفعتُ عنك كلّ أسى.

يا بنيّ أتعرف؟ قبل ثلاثة أيام نقلوني إلى المستشفى، قالوا إنّ داء القلب قد استفحل، وإنه لا بدّ من تدخّلٍ جراحيٍّ.

– إنّ الله لن يُضيّعنا.

– إنني أريد أن أفرح بك قبل أن تموت.. أريد أن أرى عروسك إلى جانبك.. أريد أن أرى أولادك يملؤون البيت ضجيجاً.. ليس لي غيرك في الدنيا يا حبيبي.. لم يعد قلبي الضعيفُ يحتمل رؤيتك خلف القضبان أكثر. أنا أطلبُ منك أن ترحمني.

– الله حسيبنا يا أمي، وهو الذي يرحمنا.

– (أخذت نفساً عميقاً لتبدأ نشيداً هو أقرب إلى النشيج): يا زهوة بالي.. يا رضيوة عيني.. متبّع طريق الحزب ومخلييني…

– هل أصبحتِ شاعرةً يا أمي

– ما أنت فيه يا بنيّ ليس سهلاً. لو تدري ما فعل بي غيابك؟

اشتدّ بها المرضُ فنُقِلت إلى المستشفى، وشاع في الناس أنّ السجناء السياسيين سيُطْلَق سراحُهم بمناسبة عيد الأضحى، فذبّت في جسدها المنهك الحركة، وسرت النشوةُ في قلبها المكلوم، وتحاملت على نفسها وعلى قلبها الملتاع فأرسلت من يشتري لها الحلويات، وقامت مبتهجةً بتوزيعها على نزيلات المستشفى.

“هُرِعتُ إليها، كانت نائمةً من شدة الألم والتعب. دبّ فيّ الحزنُ دَفْعةً واحدةً. اقتربتُ أكثر من وجهها الملائكيّ، ها هي عيناها المغمضتان تنطقان بالرضا رغم الوجع، وها هما كفّاها اللذان خطّت عليهما السنون سطورَ معاناتها ينسدلان على جانبيها في طمأنينة. كانت شاحبةً، لكنّ نوراً ما كان يشعّ في جبينها. أكنتُ أراه وحدي أم يراه الآخرون معي؟ [..] فلما رأتني فزّت وهتفت باسمي، فانكببتُ عليها احتضنها، فضمتني إليها بكلّ ما في الكونِ من شوقٍ وفرحٍ، وتفجّرت في عيونها المدامعُ، فرحنا نبكي معاً [..] كان فرحها هيستيرياً لا يوصفُ. لم أُخبرها بأننا سنعود بعد يومين إلى منافينا. توسّلت إليّ بأغلظ الأيمان أن أحلق اللحية. وأصرّت أن أزورها في المساء من اليوم نفسه. فعلتُ. إصرارها على الزيارة المسائية كان مردّه إحساسها الذي لم يخِب بقؤب عودتي إلى السجن، أخبرتها بأننا عائدون إلى المنفى. ربما كانت تعرف أو لا تعرف، لم أكن متيقناً من ذلك، لكنّ قلبها لم يحتمل أن تفقدني من جديد، فأصيبت بنوبةٍ قلبيّةٍ حادّةٍ. كان حُزنها ذابحاً هذه المرّة. قالوا لي: “هنا لن نفعل أكثرَ مما فعلنا، يجب نقلها إلى مستشفى بلندن” طلبتُ منها مراراً وتكراراً مسامحتي عمّا سببته لها من متاعب” ص 167.

جرى بينهما الحوارٌ التالي، وكان آخر حوار في آخر لقاء جمعهما معاً:

– أفرأيتِ إنْ كُنا مع الله أفلا يكون الله معنا. أفرأيتِ لو سلكنا الطريقَ التي نرى أنها توصل إليه، أفنكون مخطئين؟ فلماذا نُحاسبُ على ما نعتقد؟ ولماذا نُرمى في السجون جرّاءَ من نؤمن؟ والله يا أمي يؤذيني أن تتعذّبي كلّ هذا العذاب، ولكن ألم تعلميني أنتِ أن أُدافعَ عما اغتقده ولو كان ثمنُ ذلك حريّتي؟ ألم تعلميني الشهامةَ والكرامةَ والإباءَ والعزّةَ والأنفةَ؟ من أجل كلّ هذه القيم، من أجل أن نعيشها أخذوني بعيداً عنك، لكن الطريق وإن طالت فستوصل السائرَ إلى مبتغاه، والدروبُ وإن كانت مملؤةَ بالأفاعي والأشواكِ والحفرِ فإنها لا تُثتي الساعي عن غايته. فهل علّمتِني يا أمي أن أنكصَ، أو أتراجعَ أو أتخاذلَ، أو أخرجَ من الطريق؟ كلا. فسامحيني يا أمي سامحيني. إنك وحيدتي أيضاً في هذا العالم، إنني لا أتخيّل أنني يمكن أن أفقدَك، أن أخرجَ من السجن ولا أراك.

– لم تفعل خطأً واحداً في حياتك بحقي حتى أُسامحَك يا بُنيّ.. أما طريق الحزب فإن كنتَ مؤمناً به حقّ الإيمان فامضِ فيه ولا تلتفت، فالله معك، وقلبي معك، والمؤمنون معك.

في صبيحة اليوم التالي سافرت أم العكرمي إلى أحدى المستشفيات بلندن، وكتبَ اللهُ له أن يودّعَها حتى المطار، وكأنّ القدر يقول له: “ودّع أمّك فلن تراها بعد اليوم أبداً”. كانت آخر كلماتها: كلّه يهون من أجلك يا حبيبي.. إذا لم نلتقِ مرّةً أخرى فلا تتركني مع وحشة القبور وحدي. أنعش روحي بالدّعاء لي، وأضئ عتمتي بقراءة الفاتحة.

أُعيد في اليومِ ذاته السجينُ إلى سجنه، وفارقت أمُه الرؤومُ الحياةَ في اليوم التالي لأجراء عملية قلب مفتوح لها في لندن، وماتت غريبة كما عاشت حياتها في غربةٍ ممضّة، وعذابُ فُرْقَةِ ولدِها لم يفارقها حتى أغمد سكينَه في قلبها الموجوع. خبا النور في عينيها وانطفأ، وانطلق شعاعاً في ملكوت الله يدعو على الظَلَمَةِ المجرمين: اللهم خذهم بددا، ولا تخلّف منهم أحدأ، سبحانك ربي إنهم لا يكيدونك!! ماتت المرأةُ القديسة الطاهرة، وفي قلبها غُصص وآهات. أم العكرمي سليلة أمهاتٍ نجيبات، وزوجات كريمات ـ ذكّرتنا بالأسماءين: أسماء بنت أبي بكر أم المصلوب عبد الله بن الزبير، وأسماء بنت الفرافصة زوج الخليفة الذبيح عثمان بن عفان، وهي التي كسرت ثناياها لما أبصرت حسنَها في المرآة مخافةً أن تنسى زوجها ويتهافت عليها الخُطّابُ، وقالت كلمتها المشهورة: “الحزنُ يبلى كما الثّوبُ، فخِفتُ أن يَبْلَى حزني على عثمانَ فأتزوّجَ بعده”.

هي ذي أم (العكرمي) ملاكٌ حطّ رحاله بيننا حيناً، ثمّ عاد وولّى من حيث أقبلَ: (فألقت عصاها واستقرّ بها النوى ** كما قرّ عيناً بالإيابِ المسافرُ).. وكأني بعليٍّ العكرمي وقد بلغه خبرُ موتِ أمّه وهو حبيس القضبان، يتمثل قولّ الشاعر:

ألا يا حمامَ الأيك، إلفُكَ حاضرٌ
وغصنُك ميّادٌ ففيم تنوحُ
أَفِق لا تَنُح من غير شيء فإنني
بكيتُ زماناً والفؤادُ قـــــريحُ

لقد عوّضَ الله علياً عن أمه بأمٍ غيرِها، فأرسل إليه بخالته، وفيها شبهٌ منها في الخُلُق والخِلْقةِ. فأكملت دور أختها وظلّت تزوره، وهو يستشعر فيها روحَ أمه، وكأنها طيفٌ يحمل بين جوانحه رائحة الجنّة، والخالةُ والدة، “والخالة بمنزلة الأم” كما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي.

لم تفلت هذه الشخصيةُ من قلم الروائي أيمن العتوم، فجاء بها ليستكملَ الصورةَ الدرامية لشخصية الأم، كما أحبّ أن يصورَها لنا بقلمه الرشيق، ولغته المشرقة الساحرة. أراد أن يبيّن لنا كيف يكون حالُ السجين بعد أن أوشكَ اليأسُ أن يخالطَه، إذ تُفْتَحُ له طاقةٌ في الجدارِ الأصمّ ينفذ عبرها شعاعٌ رقيقٌ من النور يزيح بعض الظلمة في الزنزانة. لم يأت العتوم بشخصية خالة العكرمي عبثاً، فهو، الروائي النفساني، أراد أن يسلّط بقعة من الضوء على هذا الجانب المخفيّ من سيكولوجية السجين. أراد أن يحدثنا عن معنى الأمل وأثره في القلوب الكسيرة:

“مع كلِّ هذا القهرِ الذي كان يملؤنا، كانت خالتي تزورني، ظلّ وجهُها الذي أرى به الدنيا، ولا أُصدّق أنني أراها، طاقةَ الفرج. ظلّ وجهُها ريحانةَ قلبي تعبَق بشذاه دون أن تذبُلَ، ظلّ وجهُها قَمَري المنيرُ في سُدفةِ الليلِ الطويل. منذ أن ماتت أمي دأبت خالتي على زيارتي، لم تكن الزيارةُ سهلةً لأهل طرابلسَ، فكيف بمن كانوا يقطنون في تونس. كانت خالتي تقطع الحدودَ في العام مرّةً أو مرّتين من أجل أن تراني، من أجل أن تقول لي: “قلبي معك”. كانت هاتان الكلمتان زادي بقية العام. على ضوئهما قطعتُ الليالي الطوال، وعلى نورهما اهتديتُ من الضلال، وعلى فرحة حروفهما التي تتراقص في فؤادي جلبت الفرحة في بحرٍ من الآلام. كانت خالتي تُشبه أمي، بل صارت أمي بعد رحيلها. هل يمكن للأمّ أن تعود في وجهٍ آخر؟!. كان ذلك مستحيلاً؛ لكنه حدث في وجه خالتي. لقلبها النقيِّ ألفُ دعاء، لروحها المحلّقة ألفُ سلام، لقدميها المعفّرتين بالتراب ألفُ قبلةٍ، لأنفاسها اللاهثة وهي تقطع كلَّ هذه المسافات ألفُ بركةٍ، لعينيها الغائرتين ينطفئ بريقهما في كلّ مرّة تزورني وهي تسوق عمرها إلى النهايات ألفُ تحية” ص 339.

هذا النصُّ المستقطَعُ من الرواية، ترجمةٌ حقيقية لعبقرية العتوم الروائية، التي أحببتُ أن أسميها (ظاهرة أدبية اسمها أيمن العتوم). إنّ الكاتب الروائي الفذ هو ذلك الذي يستخرج لنا صوراً من المواقف تحمل وفرةً من المعاني الباطنة غير تلك الظاهرة السهلة الإدراك التي لا تفوت غيره. كيف يصوّر الفنان ماهية (الأمل)؟ والأملُ اشتعالُ الشوق طلباً للمشوق. وأملُ السجين اشتياقٌ للانعتاق، أمل في الحرية، أمل في اللقاء. كيف للروائي المبدع أن يقيم لقارئه جسوراً تربطه بين أملين : الأمل المفقود، والأمل الموعود؟. وكيف له أن يحسنَ التعبيرَ عما يضطرمُ في قلب الإنسان السجين، وما يعتمِلُ في روحه من صراعٍ بين اليأس والأمل، وكيف أنّ “أحلكَ ساعات الظلمة تلك التي تَسْبِقُ الفجرَ”، “والعيش بدون أمل، هو التوقف عن العيش” على حدّ قول فيودور ديستويفسكي.. ينبغي للروائي أن يكون أحياناً شاعراً ليقتحمَ مواطنَ وعرة لا يسلكها الروائي ولا القاص، وبحسّه الشفاف وخياله المتدفق الجامح يبحرُ بقارئه في عوالمَ أبكارٍ غيرِ موطوءةٍ، فيتلبّس حالةَ الشاعر، حيث يضع أصابعه على حزائن الأسرار، فيجول بنا في مسالك لا عهد لنا بها. أيمن العتوم روائي وشاعر، اجتمعت له متطلباتُ (الرواية والشعر) معاً فتفرّد بالتصوير والتسجيل، وأزاح الأستار المعتمة الكثيفة عن أحوال الأمهات وأحوال الزوجات كما سنرى، والأمل الذي ينساب على لسان أم العكرمي وخالته مشوب بالخوف ألا يتحقق، ولا ريب أنه “لا يوجد أملٌ لا يختلط بالخوف، ولا يوجد خوف لا يختلط بالأمل” على رأي باروخ سبينوزا. كما أنّ الأملَ يظلّ ينابيعَ أبديةً في الصدر البشري لا تغيض ولا تنضب.

من الشخصيات التي اختارها لنا الروائي أيمن العتوم (أم صالح الدلال)، مأساةٌ من مآسي الأمهات اللائي فقدن أولادهن في ظروفٍ غريبة. أمّ مكلومة تبحث عن ولدها الذي اجتمع عليه المجرمون في بيته وأحاطوا به من كلّ جانب.. قيل لها: خمس دقائق وسيعود. لكنه لن يعودَ أبداً. قبضوا عليه وقادوه إلى الجحيم الأرضي. ظلّت أمه تترقب قدومه، وطال انتظارها، ولكنّ غائبها المقيم في فؤادها لا أوبةَ له.

بيني وبين الدهر فيك عتابُ 
سيطول إن لم يمحُه الإعتابُ
يا غائباً بوصاله وكتابه
هل يُرْتَجى من غيبتيكَ إِيابُ
ما غاب من لم ينأ صفوُ وِدَاده
والحاضرون وإن دَنوا غيّابُ 
لولا التعلّلُ بالرجاء تقطّعت
نفسٌ عليك شعارها الأوصابُ
وإذا نأيتَ فليس لي متعلّلٌ
إلّا رسولٌ بالرضا وكتابُ

ظلّت تتخيل قدومه كلّ ساعة، فتقف عند الباب ترقبه لعله قادمٌ، وتوهم نفسَها أنه أوشك أن يقرع البابَ. قتلوا فيها حتى الحلم الذي لم تهنأ به. تحولت ذكرياتُها مع ابنها المخطوف إلى واقعٍ معيش لكنه في الحقيقة ضربٌ من الخيال الذي يتمنى صاحبُه ألا يتبدّدَ. فربّ وهمٍ وخيالٍ أفضلُ من حقيقة مرّة.

“كانت تجلس بانتظاره في غرفة الاستقبال، تهيئ له الشاي الذي يحبّه، وبعضَ أقراص الخبز الذي يشتهيه، وتنتظر أمام البابِ الموصد، متحفّزةً أن يُفتحَ في أيّ لحظةٍ، فيُطلّ منه وجهُ ابنِها الحبيب، وجه صالح، لكنّ البابَ يظلّ موصداً. تمرّ الساعات، تأتيها ابنتُها تقول لها: “ارحمي نفسَك يا أمي. قومي لترتاحي قليلاً”. ينتصفُ الليلُ، ولكنّ قلبها لا يُطاوعُها أن تقومَ من مقامها [..] تغفو قليلاً، تحلُم أنه وصل، ها هو يلبس ثياباً أنيقةً، قد رجّل شعرَه، وخطا خطواته الأخيرة باتجاه بيته، وها هو يطرق البابَ. تسمع في الحُلُم صوت الطرْقات، فتفتح عينيها فجأةً، تستيقظ لتجدَ نفسَها تحلم، وتجد الليلَ قد ذهب. وطلع الفجر والباب ما يزال موصداً [..] بقيت ثماني سنوات تنتظره على الهيئة ذاتها، لم ترحم نفسَها ليلة واحدة. لكنّ اللهَ أراد أن يرحَمَها في تلك الليلة، حلمت به يطْرًق البابَ، يحتضنها. يسأل عن أخبارها، يُقبّل كفّيها، ويطلبُ منها أن تُسامحه. عاتبته قليلاً لتأخره كلّ هذه السنوات، لكنها سرعان ما مسحت بيديها على رأسه وسامحته على الفور. مرّت لحظاتُ الحُلُمِ سريعةً. صعدت إلى السماء بعد ذلك. صارت ترى ابنَها من هناك. انقطع سهرُها أمام الباب الموصد” ص 161

سافرت أمّ صالح الدلال تحملها حُرْقة الشوقِ على جناحيها إلى بارئها:

والشوق أعظم أن يحيط بوصفه
قلمٌ وأن يُطْوى عليه كتابُ
والله ما أنا مُنْصِفٌ إن كان لي
عيش يطيبُ وجيرتي غيابُ

لتطوفَ بين سكان السماء وتحكي لهم قصةَ ولدها الذي تخطفته جوارحُ البشر وألقت به في مكانٍ سحيق لا يُعرفُ له قرار.

لم تخلُ الزنزانات، تلك القبور الفاغرة الأفواه، من نزيلاتٍ يُقذف بهن إلى جوفها. وكان العربيّ الحر قديماً، مسلماً كان أم وثنياً، يستنكف أن يرفع يده في وجه امرأة فضلاً عن أن يقوم بسجنها وتعذيبها. ومن يفعل ذلك ستلحق به المعرّة إلى أبد الآبدين. كانوا في الجاهلية مع قسوتهم وغلظة طباعهم يتنزّهون عن مثل هذه الدّنايا، لأنّ ذلك الفعل لا يقوم به إلا أخسُّ الناس. صوّر لنا العتوم في روايته (طريق جهنم) نموذجاً آخر للمرأة المحتسبة التي سُجنت مع ابنتها أربع سنوات، تلك هي السيدة الفاضلة (مباركة) وابنتها (منى) ولكليهما من اسمه نصيب. استجار أحدُهم بأحد أولادها (خميس) وكان هذا المستجير مطارداً من طغمة النظام الفاشي، فأجاره هذا الولد وأخفاه عن العيون عند أمّه وأخته. ولكن عيون الواشين كانت تتربص بهم ريب المنون، فقُبِضَ على المستجير، والسيدةِ مباركة، وابنتها، وأولادِها الأربعة، وزوجِ ابنتها ، وقضى خميس، ويوسف زوج أخته منى، والمستجير ثمانية عشر عاماً لكلّ واحدٍ منهم، وأمضى عليّ أخو خميس سبعة عشر عاماً، وأخواه محمد وعبد السلام أربع سنوات. عائلةٌ لم يسلم من السجن منها إلا طفلةٌ صغيرة. ولم يكن الأولاد يعلمون أنّ أمهم وأختهم مسجونتان أيضاً في القضية نفسها. لقد ضربت هذه السيدة الفاضلة وعائلتها مثالاً راقياً للشهامة والنبلِ، حتى لا يُقال (ماتت المروءةُ في الناس). ما جنت أيديهم شيئاً إلا أنهم أجاروا مسلماً مستجيراً، وإذا كان الله يعلمنا في محكم كتابه إجارة المشرك ]وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمعَ كلامَ الله ثم أبلِغه مأمَنه[، فكيف بالمستجير إذا كان مسلماً.

ولم ينس الروائي العتوم أن يصور لنا المواقف المشرفة للزوجات في محنة أزواجهن وما لاقين من عناء وعنت. لم تكن الزوجة راعيةً لبيت زوجها المسجون وأمّاً لأولاده فحسب، بل كنّ مجاهدات يسندن أزواجهنّ في القضايا التي سُجنوا من أجلها، ولعلّ شخصية أم عبد القادر زوج الشهيد أحمد الثلثي خير مثال على ذلك. تلك المرأة الجريئة التي تستحقّ أن يكتب عنها لما كانت تقوم به من أعمال يعجز عن القيام بها أشدّ الرجال. كانت – حفظها الله – تهرّب خِلسةً من السجن عند الزيارة صفحاتٍ من المذكرات التي كان يكتبها الأستاذ صالح القصبي، حتى أخرجتها جميعها، وهي بصنيعها ذلك أنقدت تلك المذكرات وحفظتها من الضياع حتى خرج صاحبها من السجن بعد ثلاثين عاماً وسلمتها إليه. تلك المذكرات التي أرّخت لتجربة مريرة في السجن، وكُتِبَ لها أن ترى النورَ مطبوعةً بعد عقودٍ من الزمن تحت عنوان (كأنكِ معي). كانت أم عبد القادر تأتي بالأموال وتقوم بتوزيعها على أهالي المسجونين القادمين إلى الزيارة لتخفّفَ عنهم ما يعانونه من آلام. هذه المرأة المجاهدة وأخواتها توحي لنا صورتهنّ أنهن انحدرن من العصور الذهبية، عصور البطولة والمنعة والإباء والشمم، ولكن الخير والشهامة لا ينقطع في هذه الأمة مادام في جسدها لسانٌ ذاكرٌ وقلبٌ شاكرٌ، وعِرْقٌ ينبض بالتوحيد.

لا أظنّ أنّ الروائي أيمن العتوم قد جاء بهذه الشخصيات، ووزعها على مدار فصول الرواية، اعتباطاً أو عبثاً. شخصيات الرواية هي مادتها الخام التي يتفنن الروائي في خلقها وتشكيلها، ومن ثمّ توظيفها بطريقة صحيحة تبعث فيها الحياة، وتصيّرها كائناتٍ قابلة للتجسد والتمثل. شخصيات يجد القارئ شيئاً من نفسه فيها، خيراً كان أو شراً.

______________________

نشر بالسقيفة الليبية.

الإجزاء: 123456

مقالات ذات علاقة

نادي الندوة الثقافي في الخليل يطلق “نسوة في المدينة”

المشرف العام

أنثى الريح

المشرف العام

جيل التسعينات الشعري وصراع الأشكال

المشرف العام

اترك تعليق