غلاف رواية طريق جهنم
طيوب عربية

طريق جهنم … قراءة نقدية (6)

د.الصديق بشير نصر

● شخوص الرواية (أ)

رواية (طريق جهنم) رواية تنتمي إلى النمط التطهيري Catharsis الذي يعمل على تحرير المشاعر والعواطف كالشفقة والحزن والشوق والخوف عبر العمل الفني، والكاتارسيس نوعٌ من التنفيس تُستخرَج من خلاله الأحاسيسُ المكبوتةُ، وجميعُ الأعمال التراجيدية (مسرحية أو روائية) هي من هذا النمط، ولذا يمكن أنّ نصنّف رواية (طريق جهنم) بأنها رواية تراجيدية (مأساوية)، وشخوصها أو أبطالها هم شخصيات تراجيدية Tragic characters بالدرجة الأولى، وفي الوقتِ نفسه هي رواية أخلاقية تعالج انهيار القيم الأخلاقية الإنسانية، رواية (طريق جهنم) تحكي عن تكسّر أجنحة اليمامة، واليمامة هي الإنسانية، وأجنحتها: الحرية، والعدالة، والمحبة، رواية تحكي حالة التفسخ الأخلاقي وانعدام القيم التي ألقت بخيرة أبناء المجتمع الليبي تحت مقصلة الجلاد، المريض، والمهووس بالعظمة الجوفاء، المتلبّس بجنون الارتياب Paranoia، وأجنحة اليمامة The Wings of the Dove رواية للكاتب الأمريكي هنري جيمس، يسلط فيها الضوء على مأساة الإنسانية حينما يتفشى فيها الجشع والأنانية، ونحن هنا نستعير هذا التعبير المجازي لأجنحة اليمامة، لنطلقه على رواية أيمن العتوم لتخليصها من سطوة عنوانها المرعب، مع الإبقاء على قيمها الفنية والتراجيدية، ودون تجريدها من حالة الكاتارسيس فيها، ويماماتُ أيمن العتوم سجيناتٌ كسيراتُ الجناح يُرِدن أن يُحلّقن في الفضاء البعيد حيث الحرية، وحيث تتلاشى الحدود.

غلاف رواية طريق جهنم.
غلاف رواية طريق جهنم.

إنّ خلقَ الشخصيات Characterization في العمل الروائي، هو توصيف أو تمثيل للأشخاص (أو الكائنات، أو المخلوقات الأخرى) في الأعمال الفنية السردية والدرامية. وقد يشمل هذا التمثيل أساليبَ مباشرةً مثل إسناد السجايا والخصائص عند ذكر الأوصاف أو التعليقات عبر طرق غير مباشرة (أو “الدرامية”) التي تدعو القراء إلى استنتاج الصفات من تصرفات الشخصيات أو الحوار أو المظهر.

– ماذا يفعل التوصيف أو خلق الشخصيات Characterization للقصة؟

باختصار، إنه يسمح لنا بالتعاطف مع نماذج الشخصيات الرئيسة والثانوية في الرواية، ومن ثمّ نشعر أن ما يحدث لهؤلاء الناس في القصة يحدث لنا بشكل غير مباشر؛ كما أنه يعطينا إحساساً بأنّ الشعور بالحرية، أو ما يشبه الحقيقة الحية، هو جزء مهم من التوصيف، نصل إليه عبر التأمل، وعبر الإحساس الوجداني الذي يثير القواسمَ المشتركة بين ثالوث الرواية: المؤلف، شخصيات الرواية، المتلقي، وتعين على ذلك التكوينات البنيوية المتجذرة في أعماق النفس البشرية التي يظهرها السرد، أو يتضمنها الحوار ما يتيح لنا فرصة رؤية قلوب الشخصيات ودراسة دوافعها في أفضل القصص، وهو في الواقع التشخيص الذي يحرك القصة، لأن شخصيةً مُقَنّعَة في موقف صعبٍ تخلق جوّاً خاصاً بها على رأي كارين برناردو Karen Bernardo في كتابها (خلق الشخصيات في الأدب Characterization in Literature، وهناك أنواع مختلفة للشخصيات تتفاوت في أدوارها التي تقوم بها داخل البناء الروائي، من أهمها: الشخصية الرئيسة أو المركزية Major or central character، وهي شخصية محورية وحيوية لا تغيب عن أحداث الرواية، ولا تتخلّف عن وقائعها المهمة، والحبكة الروائية تدور حول هذه الشخصية أو الشخصيات الأخرى الرئيسة إن وُجِدت، وفي رواية (طريق جهنم) تقابلنا شخصية (العقيد) وهي شخصية مركزية، وشخصية (علي العكرمي) وهي شخصية مركزية أيضاً، أشبه ما تكون بالمحور الذي تدور حوله الشخصيات الأخرى، وتقوم الشخصيات الثانوية Minor characters ربتكملة الأدوار التي أناطها المؤلف بالشخصيات المركزية من أجل تدوير عجلات الرواية إلى الأمام كلما أصابها شيءٌ من الإعياء أو الفتور، ومن هذا النمط ما أُطلِق عليه اسم شخصية عود الثقاب Matches character، وهي الشخصية الدرامية التي تظهر في زمان ومكانٍ محدّدين، تتوهج برهةً من الوقت قصيرةً لتضيءَ بقعاً معتمةً في العمل الروائي، ثم لا تلبث أن تخفتَ وتموتَ، ومن هذه الشخصيات في رواية (طريق جهنم): شخصية (سعد) الشاب المرهف الحسّ الذي وُصِف في الرواية بأنه «كان حسّاساً جداً، قلبُه وردةٌ يجرحها وخزُ الشوك»، حاول الانتحار بقطع شرايين يده، شخصيات البحّارة الذين أحضروا المواد المتفجرة لتفجير النصب في بنغازي، وشخصية (سالم) الذي نهش مرضُ السُّل جسدَه، عود ثقاب توهّج في الرواية فجأة ثم انطفأ، أراد الروائي أيمن العتوم أن يصوّر لنا حالة المصاب بالمرض المعدي داخل الزنزانة، وأصحابه ينظرون إليه في حسرة ولا يستطيعون أن يقتربوا منه خوف العدوى، فتظلّ عيناه شاخصتان إليهم تستجديان عطفهم، صورة فنية تعبّر عن حالة العجز الإنساني عن تقديم العون، صورة تشبه صورة غريق يطلب النجدة من أناس يتفرجون عليه وليس بينهم من يحسن السباحة، ومن نمط الشخصيات هذه (محمد المجراب) الأستاذ الجامعي الذي أُخذ من أمام تلاميذه في الجامعة وسيق إلى السجن، كان رجلاً وديعاً باسماً، أصيب بمرض السكري منذ طفولته، وقد تعايش مع هذا الداء الصامت طيلة حياته، وكان أشدها ما كان من معاناة داخل الزنزانة، لم يكن يأتيه الدواء إلا بعد معاناة، 
مات في السجن بسبب الإهمال، يصور لنا أيمن العتوم لحظة موته، فيقول:

“قبل أن يموت بيومين كان لديه موعد في المستشفى تحصلنا عليه بعد ستة أشهر من الانتظار، وبالرغم من ذلك فإنّ الحارسَ لم يأخذه في الموعد المحدّد، وأهمله كالعادة فساءت حالته حتى دخل في غيبوبة، وكنّا نقطّر في فمه الماء من أجل أن يصحوّ، أو أن نحافظ على خيط الحياة الرفيع الذي يصله بعالمنا من أن ينقطع [..] وكدتُ أُجنّ وأنا أرى النورَ في عينيه يخبو تدريجياً، والحركة في ترقوته تقلّ حتى تسكن تماماً، ونحن نجأر إلى الله أن يبقي على حياته.. صار جسمه بارداً فعرفنا أنه غادرنا [..] كانت شفتاه تفترّان عن ابتسامةٍ ورديّةٍ، «ما أجمله!» قلتُ؛ في الموت كما في الحياة، ظللت وديعاً باسماً جميلاً، قبّله الحاج صالح على جبينه، وتمتم بكلماتٍ خافتاتٍ، ورأيت عيناه تنسكبان، كدنا نقتلع الأبوابَ من الطرق حتى جاءنا الحرسُ وعلموا بالخبر، فأخذوا جثته ولفّوها في كيس كما تؤخذ الأشياءُ المهملةُ، كان في نظرهم شيئاً، كتلةً من اللحم والعظم لم تعد صالحة أن تواصلَ بقاءها في السجن [..] لم ندر ما فعلوا بالجثة، ولم ندر أين دُفِنت؟، نسيانُ الأموات الأحياء صعبٌ” ص 373 – 374.

– عود ثقاب، توهّج ثم انطفأ!!

وثمة أعواد ثقاب أخرى توهجت في ثنايا الرواية، كشخصية عبد الرحمن الشرع الشاعر الذي كتب يرثي صاحبه عبد العزيز الغرابلي قائلاً: “جبلٌ على قلبي رحيلُك يا جبلُ،. لو أنّ عاصفةً تُزحزح غاشياتِ الحزنِ عن عينيّ،. لو دكناءُ مزنة تنتهي ماءً،. لأوصلتُ السؤالَ إلى التي استولت عليك لنفسها،. كيف اتفقنا يا بلادي في نحبته،. ولمن تركتِ نزيفه ينهال،. كم طرقت أيادينا حديدَ السجنِ،. لان ولم تَلِن هذه المدينة،. كم صرخنا لم تُجب غير السماء استنفرت رعداً،. بكت مطراً،. أقَلبُكِ من حجرٍ،. قلبي لا يصدّق؛ هه إغفاءةٌ في الظهر تصحو بعدها لتُعيد كلَّ نشاطك اليومي،. كان لقاؤنا سهلاً وعاديّاً،. وكان حوارُنا حول الغد المأمول والأعراسِ نارياً،. بكتِ السماءُ ولم تُجِب هذي المدينةُ،. هل نعاتبُها، نخاصمها، أم أنها في الليل متلك ترتوي نزفاً بصمتٍ،. إنها ياصاحبي أيامُهم،. لكنّه في آخرِ الأيامِ يشتدّ النزيفُ،. وآخرُ الأيام مُغْبِرةٌ،. ويومٌ ماطرٌ يأتي” ص 293.

وفي رواية (طريق جهنم) الشخصية الدينامية (المتحركة)، وهو الشخص الذي يظهر ويغيب على طول الرواية، وقد يكون هذا هو المؤلف، المايسترو الذي يقود الأوركسترا، يدخل حينما يقتضي الأمر الانتقال من حدث إلى حدث، أو حينما يقتضي الأمر تبريراً ما لوقوع تلك الأحداث حتى يعطيها صيغة تبريرية وجودية، أو يستلزم الأمرُ تقديمَ تفسيراتٍ ضمنيّة لظهور أو اختفاء بعض الشخصيات، وهذه الشخصية الدينامية في (طريق جهنم) هي بلا ريب مؤلف الرواية أيمن العتوم.

وهناك نوعٌ آخر من الشخصيات يظهر في كثير من الروايات يُطلق عليها الشخصية الساكنة أو الثابتة Static character التي لا تتحرّك وتظلّ تأخذ دوراً واحداً لا يتغير، ومثلها في (طريق جهنم) شخصية السجانين، وثمة الشخصية الدوّارة A rounded character، وهي الشخصية المتناقضة والمزاجية، المتقلبة الكثيرة الدوران التي لا يهدأ لها حال، تثبت وتنفي، تحب وتكره، وخير ما يمثلها في رواية (طريق جهنم) شخصية (العقيد)، ومن الشخصيات التي يرغب الروائيون في توظيفها تلك التي يُطلق عليها وصف الشخصية المجنونة Mad characters، لأنها إطارٌ يستوعبُ كلّ ما يريد أن يقوله المؤلف من معقول ولا معقول، وهذا النمطُ يمثله في (طريق جهنم) المعلم الأستاذ علي عون، الذي يصاب في السجن بالخبل، وتتشابك الصورُ في مخيلته، فتتمثل له أشباحاً يُحادثها، لينتهيَ به المطاف قبل مغادرة الفانية إلى ادّعاء المهدية، ومن الشخصيات الثانوية في العمل الروائي، الشخصية الحانية المتسامحة التي يلجأ إليها كلّ واحدٍ فيجد عندها السكينةَ والأملَ، وهي في (طريق جهنم) شخصية مهمة يحتاجها السجين فتخفف عنه هول المأساة التي يعيشها، وفي (طريق جهنم) يمثلها الأستاذ (صالح القصبي) الذي أطلق عليه السجناء على اختلاف هويّاتهم وصف (المسيح) لفرطِ حنوّه وحنانه، وكأنه مُرادُ الشاعر من قوله:

نزلنا دوحَه فَحَنَا علينا
حُنوّ الوالداتِ على اليتيم

وأرشفنا على ظمأٍ زُلالاً
ألذَّ من المُدامةِ للنديمِ

يــَصُدّ الشمسَ أنّى قابلتنا
فيحجبها ويأذن للنسيمِ

ويمكن أيضًا تصنيف الشخصيات على أنها أبطال أو خصوم. بطل الرواية هو عادة الشخصية الرئيسة التي تعاني من الصراع الناجم عن الخصم، أو قوة معارضة في القصة، الشخصيات داخل العمل الروائي، إذن، هي أبطال في مواجهة خصوم Protagonists Vs. Antagonists، وقد حدد عالم النفس كارل غوستاف يونغ Carl Gustav Jung اثني عشر نمطاً أصلياً للنفس البشرية، واعتقد أن هذه الأنماط مخزونة في العقل الباطن الجمعي للناس عبر الحدود الثقافية والسياسية، وعادة ما يتم الاستشهاد بهذه النماذج البدئية Archetypes الاثني عشر في شخصيات خيالية، النماذج الاثنا عشر ليونغ هي شخصيات: البريء، واليتيم، والبطل، والراعي (من يعتني برعاية الآخرين)، والمستكشف، والمتمرد، والمحبّ، والخالق (المبتكر)، والمهرج، والحكيم، والساحر، والحاكم، وتكاد رواية (طريق جهنم) تضم جميع تلك الأنماط، وهذا التنوع النمطي يمنح الرواية غنىً وآفاقاً متسعة للرؤى، وأهمُّ ما يميّز روائياً عن روائيٍ آخرَ هو قدرته على منح الحياة لشخوصه الفنية، ببث الحياة فيها عند القارئ المتلقي الذي تظلّ صورته ومواقفه عالقة بذهنه لوقتٍ طويل، يقول توفيق الحكيم:

“قوّةُ الخلقِ الفني لشخصية قصصية لا تكون فقط في حياتها المتدفقة النابضة داخل القصة نفسها، بل في حياتها خارج القصة، في حياتها الممكن استمرارها على وجوه أخرى في رؤوس الناس” توفيق الحكيم: فن الأدب ص 214.

وحينما تكون شخوصُ الرواية شخصياتٍ حقيقيةً فذلك أدعى لتأسيس نوع من التعاطف مع أحداث الرواية ووقائعها، وتكون تلك العلاقةُ أكثرَ إثارةً وأكثرَ وجدانيةً حينما توجد ثمة صلةٌ بين تلك الشخوص أو بعضها والقارئ المتلقي، حينئذٍ تكون قراءةُ الرواية تجربةً فريدةً تختلف كليّاً عن أية قراءةٍ أخرى، والسبب في ذلك أنّ المتلقي يتحوّل بشكلٍ أو آخرَ إلى نموذج يتحرّك في الظلّ بين تلك الشخوص، حيث يستشعر كلَّ عبارة تقال في الرواية، ويتمثّل كلَّ مشهدٍ فيها.

ورواية (طريق إلى جهنم) لم تشدّني فيها المادةُ الأدبيةُ الرفيعةُ الطاغيةُ على كلّ جوانبها، ولا نسيجُها الروائي المُحْكمُ الصُّنع فحسب، بل شدّني إليها أيضاَ، وبشكلٍ أكبر، شخصياتُ الرواية الذين عرفتُ أكثرهم عن كثب، وعاصرتُ محنتهم، وربما لحكمةٍ يعلمها الله أن جنّبني تجربتهم المريرة لأنه يعلم أنني أضعفُ من أن أخوض تجربة قاسية تمتد إلى ثلاثين عاماً في السجن، بل ربما أضعفُ من أن أصمدَ فيما دون ذلك من السنين، كثيرٌ من شخصيات الرواية عرفتها قبل السجن، وبعضها عرفته بعد السجن ممن كتب اللهُ لهم الحياةَ، وبعضهم لم ألتق به في حياتي قط، وربما كنت سمعتُ عنه من هنا أو هناك، فحَسِبتُ أنني أعرفه وقد جاء في الأثر الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما وأحمد في مسنده وأبوداود في سننه: (الأرواح جنود مجنّدة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).

شخوص رواية (طريق جهنم) جميعهم شخصيات حقيقية، أبقى المؤلفُ على أسمائهم حفظاً للحقيقة وخوفاً عليها أن تموت وتندرس فتتصور الأجيال اللاحقة أنّ الرواية محض فانتازيا، وسَتَرَ بعضَهم احتراماً للضعف الإنساني الذي لا يخلو منه أحد.

(طريق جهنم) أثارت مشاعري وهيّجت ذكرياتٍ حزينةً في نفسي إذ أعادت إليّ صوراً كادت تُقبر في ذاكرتي، فأعادتني إلى حسن الكردي، وصالح القصبي، وعلي كاجيجي، ومحمد الصادق الترهوني، وعبد الله حمودة، وعلي العكرمي، ومحمد امهدب احفاف، وأخيه أحمد، والشيخ علي يحيى معمر، وآخرين أمثال: عمرو النامي الذي لقيته بعد الإفراج عنه، ثم أعيد إلى السجن ليلقى حتفه فيه، وعبد الحميد البشتي، والبهلول نشنوش، وأحمد الثلثي صديق الطفولة، وأستاذي في الإعدادية علي صالح عون، وعمر الككلي…

ربما ليس من شأنِ النّاقدِ الأدبيِّ أن يستعرضَ خصوصياتِه مع شخوصِ الرواية، ولكنّه قد يُضطرّ إلى معايشتها، ولو وجدانياً، ليتحقّقَ من مبلغِ السّطوةِ الفنيّةِ للرواية على المتلقّي، وما وقعُها عليه؟ وهل نجح الكاتبُ الروائيُّ في ذلك أم لا؟ وما مبلغُ اعتدالِه وإنصافِه في تصويرِ تلك الشخصيات؟ وما درجةُ المبالغةِ والتهويلِ في ذلك؟، إنّ القارئَ العاديَّ الذي لم يتعرّف على تلك الشخصيات عن كثبٍ، ولم يُكتَب له أن يلقاها ذات يومٍ، لا يمكنه أن يحكُمَ ما إذا كان ما جاء في الرواية هو من ضروب المبالغة والتهويل، أو هو حقيقةٌ واقعةٌ وليس من نسج خيالِ المؤلّف.

وقد لا أُراني مبالغاً إذا قلتُ إنّ الروائي أيمن العتوم كان يسعى لتحرير شخصياته من قبضته، فاطلق لها العنانَ لتتكلّم على لسانه وكأنها تلبّسته، وكأنه يعمل بنصيحة لويجي بيرانديللو في مسرحيتة (ست شخصيات تبحث عن مؤلف)، وقد أعانه على ذلك بطل الرواية علي العكرمي، وهو أيضاً فنانٌ بالفطرة، وصاحبُ ثقافةٍ عاليةٍ ونهمٍ معرفيٍّ يعلَمُهُ من صَحبه ولو لوقتٍ قصير، سواء داخل السجن أو خارجه، وثمة قاعدةٌ لا تغيب عن نقاد الروايات الأدبية، وهي أنّ أبطالَ الرواية هم إما محض خيال، أو حقيقة واقعة أو خليط منهما بنسبٍ متفاوتةٍ، ومفتاح اكتشاف ذلك متروك بعضه للقارئ اعتماداً على تجربته وثقافته، وبعضه شيفرات يزرعها المؤلف في النصّ يلتقطها القارئ الفَطِن، فيتخذها وسيلةً إلى الولوج إلى العوالم الخفية في الرواية…

واستطاع الروائي أيمن العتوم أن يكسر الجدار الرابع في عدة مواضع من روايته، وكسرُ الجدار الرابع Breaking the fourth wall مفهوم شائع في الأعمال الدرامية ، ولكنه تجاوز تلك إلى الأعمال الروائية أيضاً، واتخذ هذا المفهوم صورةً اوسعَ مما كانت في الدراما التي اقتصر المفهومُ فيها على كسر الجدار أو الحائط الرابع الوهمي المواجه للمتفرجيين على الشخوص وهي تتحرك على خشبة المسرح، الحائط الرابع في الرواية هو الجدار الذي لو تهدم انكشف ما بداخل الغرفة، وهذا الحيّز المكانيّ المربّع في رواية (طريق جهنم) هو الكتلة الخرسانية المصمتة،المربعة أو المستطيلة، التي يُطلق عليها اسم (السجن)، وببراعة الفنان، كسر لنا أيمنُ العتوم في روايته الجدارَ الرابع، بل ربما كسر الجدران جميعها حتى بتنا نرى ما يجري داخل ذلك الحيّز المادي المُسمى (سجناً) فضلاً عن الحيز المعنوي الذي تتحرّك فيه عقول وعواطف وأخيلة المساجين، وقد رسم لنا أيمن العتوم صوراً من ذلك، مثل صورة ذلك المجنون الذي كان يطوف من الخارج بأسوار السجن لسنين طويلة ٍ وكأنه مشدود إليها بقوةٍ مغناطيسيةٍ غير مرئية، وكأنه يريد أن يقول للعالم الذي يتحرك خارج السجن في بلادة: “ويحكم !! ثمة عالم آخر وراء هذه الجدران”…

جاء في (طريق جهنم): “من المفارقات التي كانت تحدث أنّ مجنوناً كان يأتي إلى جدار السجن العالي، ويجلس ساعاتٍ طويلةً، يُصيخُ السمعَ، فإذا ما سمِع أصواتَ المُعذّبيين، فتح كيساً يُحضُنه بين ذراعيه، وأخرج منه بعض الخبز، وفتّته إلى قطعٍ صغيرةٍ، وكوّمها في يده، ثم رماها بكلّ ما يستطيع من قوّةٍ لتقعَ داخل السّور ظنّاً منه بأنها تصل إلى هؤلاء المُعذّبين، رآه حرسُ الأبراج فسكتوا عنه أوّلَ مرّةٍ [..] كرّر ذلك مرّاتٍ عديدةً، حتى نزل إليه اثنانِ من حَرَسِ الأبراج، أشبعه أحدُهما ضرباً بالهراوة على رأسه وجسده، ثم حملاه إلى الجانبِ الآخرَ من الشارعِ وألقَيا به هناك [..] ظلّ ذو القلب الطيّب يبكي وهو ينزف من رأسه، ويمسح بيده دمَه، ثم يُخلطه بما تبقّى في جيوبه من قطع الخبز، ويرميها من مكانه فتدوسها السياراتُ العابرةُ، لم يبرح عادته، يغيب في الليل ويأتي في الصباح وقد جمع الخبزَ من الحاويات أو مما تصدّق عليه به أهلُ الصدقة [..] واضب على ذلك عشرين عاماً [..] ولم يتأخر يوماً واحداً عن موعده، غير أنّ ظهره تقوّس قليلاً ، وشعر رأسه غطى على عينيه، حتى حان حينُه [..] كان يتهيأ لرمي ما في يده بعد أراد هذه المرّة أن يكون جسدُه أقربَ إلى أصدقائه الذين يُعذّبون، فمشى خطوتين في الشارع، لم يسمع بوق السيارة المسرعة [..] سُمعت أصوات كوابح عالية وصوت ارتطام بشري حالم بالحديد القاسي، وصرخةٌ أخيرةٌ دُهِست على الفور أطلقها المسكين قبل أن تقتله السيّارةُ العابرةُ وتقتل خبزّه في آنٍ واحدٍ” ص 198…

فالمجنون رمزٌ للعالم الخارجي الذي يعجّ بالحركة خارج جدران السجن، ولا يدري بما يجري وراء تلك الأسوار، انهار الجدار أمام ناظري المحنون وأدرك ما يدور هناك، وفتح في عقله نافذة تطلّ على الدنيا المحرّمة والعالم المحظور، خطابٌ ضمنيٌّ يقول لنا إنّ الصمتَ عما يجري وراء تلك الأسوار جريمة بشعة، ومن يزعم أنه لا يعلم عما وراء تلك الجدران فهو كاذب، لأن كسر الجدار الرابع ليس مستحيلاً، وقد استطاعه ذلك المجنون المسكين، وتوظيفُ المجنونِ في الأعمال الروائيّةِ والدراميّةِ وسيلةٌ لنقل فلسفاتٍ صادمة قد لا يستوعبها العقلُّ في حالاته المستقرّة، أو بالأحرى قولُ ما لا يُقال، وربما هو مراد هنري الرابع بطل رائعة بيرانديللو التي تحمل اسمه (هنري الرابع Enrico IV)، وهي تحكي قصة شاب كان يرتدي في حفلٍ تنكري ملابسَ هنري الرابع أمبراطور ألمانيا، ويمتطي حصاناً، ويسقط من على صهوته فيصابَ في رأسه، فيظلّ يتخيّلُ في حالة جنونية أنه هنري الرابع بحق حتى بعد أن يفيق، أراد بيرانديللو أن يقول كلاماً لا يقبل إلا أن يجريَ على لسانِ مجنونٍ، أو عاقلٍ يدّعي الجنونَ، وبذلك يجرؤ على نقد القيم السائدة والعادات المستحكمة دون أن يتعرّضَ إلى الاتهام، يقول هنري الرابع:

“هل تعرفون ما معنى وجودكم في حضرة مجنون؟ معناه وجودكم مع شخص يهزّ هزّا عنيفاً كلّ ما ركبّتموه في أنفسكم، وكلّ ما بنيتموه حولكم، وكلّ ما يحكم عملكم من منطق”.

ولعلّ شخصيةَ (المجنون) أو (المخبول) في العمل الروائي أداةٌ فنيةٌ تهدم الجدار الرابع، بل الجدران الوهمية جميعها ، لأنّها تضعنا في حالةٍ نتجاوز فيها الآلامَ الجسديةَ التي تمسّ المساجين إلى شيء محجوب وراء الجدار هو أكثر هولاً ورعباً، إنه عذابات الروح والعقل، تلتئم جراحُ الجسد ولا تلتئم جراحاتُ الروح والعقل، وعلى رأي جبران في (المواكب):

وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلته
وقاتلُ الروح لا تدري به البشرُ

تعترضنا في رواية (طريق جهنم) صورٌ حزينة استبدّ بها الجنون: صورة علي عون الأستاذ المعلم المثقف الذي فقد عقله بسبب وقع الهراوات التي كانت تهوي على راسه كالمطارق، انتهى به المطاف إلى حالة من الهلوسة والهذاءات، وبات يتخيّل صوراً ويتحدث مع كائنات غير موجودة إلا في ذهنه، وتصوّر أنه المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جَوْراً وظلماً، “الدجّال يسبق خروج الشمس من مغربها، وأنا أسبق الدجّال [..] ولولا أن يُكذَب الناسُ كلَّ ما أقول، لأخبرتُك من أيّ الأمكنة يخرج، وفي أيها يتنقّل، وفي أيّ زمان، لكنّ عقول الناس الصغيرة، والتي حُشِيت بالهراء لا تحتمل ما أقول، فأصمت” ص 208.

ومن مجانين (طريق جهنم) الإيطالي (إدواردو سيليتشاتو)، وهو رجل أعمال إيطالي في نهاية العقد الثالث من عمره، وجد نفسه في زنزانة انفرادية بتهمة التآمر مع إدريس الشهيبي لإسقاط نظام القذافي، لم تأكل سياط السجّانين من جسده كما نهشت أجسادَ أبناء الوطن، ولكنهم ألقوا به في السجن الانفرادي، مكتفين بتجويعه وإيهامه بأنهم قتلوا صاحبه الإيطالي المهندس (إنزو كاستيللي) الذي سُجن معه بالتهمة نفسها، وجاءوه بجسده بعد تخديره وهو ملطخٌ بدمٍ كذبٍ، وقد صُبِغ ظهره العاري بلون أزرق حتى يبدو وكأنه مات تحت وطأة التعذيب، صدّق الإيطالي إدواردو ذلك واصيب بحالةٍ من الهلع والرعب، ثم رأى صاحبه حيّاً فانخلع قلبُه إذ حسب أنه شبح فأصابه مسّ، إذ كيف يكون ذلك وقد أخبره الجلادون أنهم سيرمون بجثة إنزو لتنهشها كلاب الصحراء:

“انزوى إدواردو في زاوية الزنزانة يوماً كاملاً زائغ النظرات، لم يبرح مكانه، ولم يأكل شيئاً مما قدموه له من الطعام،. بعد شهرٍ حكموا عليه بالإعدام، وبعثوا به إلى المقبرة [..] كان إنزو في العقد الرابع من العمر، وهو ابنٌ لضابط صفّ في الشرطة الإيطالية ومتزوج من أسكوتلندية، كان عالماً باللغة الإيطالية علم المتخصصين الحاذقين، وله إلمامٌ واسعٌ باللغة اللاتينية [..] وكان قويّ البنية مفتول العضلات، معتزّاً بنفسه حريصاً على قضاء جُلَّ وقته بين سماعٍ للراديو، أو قراءة في كتاب، أو ممارسة للرياضة، أو انغماس في نقاش [..] اقتسمتُ معه السريرَ ذا الطابقين، وحلّ هو في الطابق الأعلى، اندمج معنا في محيطه الجديد بسرعة، وأصبح له بعد أيام الضيافة الأولى ما لنا، وعليه ما علينا [..] كان السجينُ بعد الخروج من المحقرة إلى الزنازين العادية بمثابة الخروج التام من السجن نفسه والإفراج عنه؛ لما في المحقرةِ من ضنكٍ شديدٍ، وكان مع كلُّ ما يلقاه في الزنازين من آلام يرى أن العيشَ مع نزلاءَ آخرين يسمعُ أصواتهم – ولو كانت صرخاتهم وهم يُعذّبون – هو انتصارٌ حقيقيٌّ على فظاعة ما يحدث في المحقرة التي هي قبرٌ حقيقيٌ في داخله ميّت حيّ! كان الخارج من المحقرة إلى الزنازين يعتقد أنه كُتِبت له الحياة” ص 328 – 330.

عندما رأى إدواردو صاحبَه إنزو أصابه رعبٌ شديد، كيف يكون ذلك و إنزو مات؟!!، كان يقول إنه الشيطان تجسّد في إنزو، إنزو مات، وظلّ هكذا حتى تاب إلى رشده، كان (إنزو) منبهراً من شخصية محمد الصادق الترهوني أحد الستة الذين مكثوا في السجن ثلاثين عاماً، فهو لا يراه إلا جالساً في سريره يقرأ في مصحفه أو كتابه ولا يغادره إلا عند قيامه بواجبه في التنظيف وغسل الصحون، ويبدو أن سلوك الشباب داخل الزنازين وهم يعكفون على قراءة القرآن وحفظه أثار اهتمامه، فكان لذلك يُهرَعُ إلى إنجيله يقرأ فيه، وعلى يدي إنزو تعلم رهطٌ من السجناء اللغة الإيطالية، وتاريخ أوروبا، والحروب التي اندلعت فيها في فترات زمنية مختلفة، وحدثهم عن الثورة الفرنسية وعصر التنوير، وعصر الثورة الصناعية، وكان يكتب لهم نصوصاً مسرحية بالإيطالية ويقومون بتمثيلها لتحسين مهاراتهم في اللغة الإيطالية، أفرِج عن إدواردو وإنزو في عام 1986 بعد أن حُكم عليهما بالإعدام، وذلك وفق صفقة مع الحكومة الإيطالية.

الشخصيات الروائية في عمل أيمن العتوم هي بذور يزرعها في أرضِ روايته، ثم يتعهدها بالرعاية والسقيا، فتخرجُ نباتاً طيباً، تتوجه الورود والرياحين، وقد يخرج بعضها نبتاً شيطانياً تغطية الأشواك من كلّ جانبٍ، أيمن العتوم يتعامل مع شخوص روايته بحنوّ كما يحنو الوالد على ولده، حتى المتمرّد منهم يحسن إليه فيظهر ما فيه من فضائل محجوبة حتى يؤوبَ إلى كنف أبيه أوْبةَ الولد العاق، حتى السلوك السلبي لبعض الشخوص يبحث له عن تعلّة، فلا يظهر في عين القارئ بالمظهر الكريه، فالسجين الذي ينتحر، والسجين الذي يطعنُ رفيقه بآلة حادة يبحث له عن تبرير، وهل من تبريرٍ غير غول السجن الذي لا يسلم من أنيابه الحادّة أحدٌ.

ولعله من المناسب أن نستعرضَ عدداً من تلك الشخصيات التي شكّلت المادة الخام للرواية، وهي شخصياتٌ تجد بين بعضها البعض انسجاماً ظاهراً، وبين بعضها الآخر تنافراً، انسجام وتنافر يخضع لتكوين الشخصيات نفسها إمّا سلوكياً وإمّا أيديولوجياً، لم يسلم السجناء أصحاب الأيديولوجيات من الصراع الفكري داخل الزنازين، ولولا بُعْدُ النظر من بعض السجناء من أصحاب الثقافة العالية لزادت همومهم هموماً، صور ذلك المؤلف فيجري هذا الكلام المبهر على لسان علي العكرمي:

“كانت الخلافاتُ التي تنشبُ تُهيّجُ الجميعَ، كنتُ أراها أسوأَ من المؤبّدِ، إذا كان السجنُ لم يؤدّبْنا، ولم يُعرفْنا أدبَ الحوارِ مع الآخر والقبول به، فأيّ مكانٍ آخر سيفعل؟ كنتُ استغرب من أولئك الذين يتناحرون وهم لم يبلغوا من العلمِ شيئاً” ص 400.

وتلك الشخصيات على اختلاف اتجاهاتها عرّف بها الأستاذ على العكرمي، ولم يغْفَلْ عن ذكرَ أحدٍ ممن عرفه في محنة السجن، ومَن لم يرد ذِكرُه في الرواية إنما يعود للمؤلف الذي يختار ويترك حسبما تقتضيه الصورة الفنية التي يسعى لرسمها في الرواية، وربما كان يختار أشدّها محنةً أو ألماً، أو يكتفي بعرض الصورة المشتركة بأن يتحدث عن إحدى شخصياتها، ويكون بذلك قد اكتفى بذكرها عن غيرها. ولو أراد المؤلفُ، أو راويه علي العكرمي، أن يكتبَ عن كلّ سجين لتحوّلت الرواية إلى عملٍ ملحميّ، أو إلى عملٍ توثيقي مُدوّن في سجِل، وقد سمعتُ عِتاباً من بعضهم: لماذا لم يأتِ ذكرٌ لفلان ولفلانٍ؟، ولو شئتُ مجاراة هؤلاء الفضلاء لقلت أيضاً: لماذا لم يأت ذكرٌ للأستاذ العجيلي الأزهري الذي كان أحدَ الستة الذين أمضوا ثلاثين سنة في السجن؟ ولماذا لم يُذكر الأستاذ المرحوم سالم عاشور القماطي الذي أمضى أربعة وعشرين عاماً في السجن؟ وهذان الفاضلان من شباب حزب التحرير، وهما ايضاً نموذجان فريدان جديران بالذكر، وثمة شباب آخرون لم يرد لهم ذكرٌ من شباب حزب التحرير القُصّر الذين أمضوا سنوات الجمر في غيابات السجون، وكانوا يوم أُلقي عليهم القبض من القُصّر دون الثامنة عشر، مثل: محمد لطفي الحواسي، وعبد الرحمن الساعدي، وعبد الرحمن بيوض، الذي قتل بطريقة تراجيدية مؤلمة، ومحمد الحاجي، وآخرين أذكر منهم: نور الدين عبد السلام الغزيوي، والعجمي صوفيا، ومحمد علي كردي، ورجب محمد الصيد، وعلي الصويعي حديدان، وسالم الأخضر، و عمر المهدي الحمروني، وعبد الناصر الجعفري، وفتحي الشايبي، وعثمان القماطي، وعبد الحفيظ الزياني، والصادق عمر عطية، وسالم العقيلي، وربما فاتني ذكرُ بعض الأسماء…

وهذه الشريحة من المسجونين فاتت المؤلف، وربما كان ذكرها أمراً مهماً لأنها ستتحدث عن موضوع خطير وهو: محنة الأطفال والصبيان في السجون، لقد وضع الأستاذ علي العكرمي كلّ ما احتفظت به ذاكرته بين يديّ الروائي أيمن العتوم، ولم يأبه ألبتة للاختلافات الأيديولوجية حيث استفاض في الحديث عن التروتسكيين والقوميين، والعسكريين، وغيرهم من المنتمين للتكتلات الأخرى، وغير المنتمين ممن ابتُلوا بعذابات السجن، لم يكن الأستاذ علي العكرمي هو من يقدّم هذه الشخصية، ويؤخر تلك، لأنّ ذلك من مهام المؤلف الذي ينتقي ما يحسب أنه يحقق الأغراض الأخلاقية والفنية التي جُعلت من أجلها الرواية، قد يشاطرني الرأي ممن قرأوا تلك الصور الأدبية الرفيعة المستوى التي صاغها المؤلف يشرح فيها عمق معاناة عبد العزيز الغرابلي، والشلطامي، وعبد الحميد البشتي وهم ليس من الاسلاميين، أنّ حظهم في الحديث عنهم كان أكثرَ من حظّ شباب حزب التحرير وشيوخ الإخوان وشبابهم، بذكاء بارعٍ أنصفت الروايةُ شخوصَها بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية والسياسية، وهذا أمرٌ إيجابي يُحسب للرواية، ويُذكر فضلُه للمؤلف ولراويه الأستاذ علي العكرمي الذي عاش في كنفِ رجالِ مربين من طرازٍ فريدٍ، في مدرسة لا تنبذ الآخرين وتقصيهم كما ظهر ذلك في الرواية، وهي شهادة يُقرها المخالف قبل الموافق.

لقد انتقى أيمن العتوم شخصيات روايته من مستويات فكرية مختلفة، وسلّط الضوءَ على جوانبَ من مأساتهم داخل السجن، فساق لنا صوراً عن آلامهم بعيداً عن آلام السياط والكيّ وخلع الأظفار والحرمان من الطعام، فذكر لنا مأساة الأمهات والأباء لفقدان فلذات أكبادهم، وما يعانون من إهانة واحتقار عند كلّ زيارة لا يؤذن بها إلا بعد أمدٍ طويل، وصوّر لنا د، العتوم مآسي الزوجات والأبناء، ومبلغ الظلم الذي حاق بهم، وتلك الدموع التي تنحدر من مآقي الشيوخ والعجائز وقد تجمدت فوق وجوههم المغضّنةِ التي تنظر هنا وهناك، وتحدّق من وراء أسوار السجون تترقّبُ لعلّ أطيافاً لبنيهم ترتسم عليها وتلوّح لهم بأياديها، أو لعلّ قلباً متحجراً صلداً، لم يعرف الرحمةَ يوماً يُشفق عليهم، ولكن:

إذا حَرسيٌّ قعقع البابَ أرْعَدَت
فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها

لا بأس أن نختار بعضاً من شخصياتِ الرواية لنتحدث عنها هنا:

– (حسن الكردي)…

نموذج للرجل القوي الشكيمة، الحليم الليّن، المثقف ثقافة عالية قلما تجدها عند الأساتذة الأكاديميين، قابلته بضع مرات في أوّل السبعينيات قبل أن يُعتقل، وأنا يومئذٍ طالبُ في الصفّ الأوّل من المرحلة الثانوية، كان يومئذِ في مقتبل العمر، نحيلاً، فاحمَ الشعر، صارمَ النظرات، غائرَ المحجرين، يرتدي معطفاً أسودَ في الشتاء، اجتمعت به مرّة في المركز الثقافي بشارع عمر المختار، وسرنا سويّاً نذرع طرق المدينة، وكنتُ يومها حديثَ معرفة به، وقد اتخذ من الحديثِ عن الشعر سبيلاً ليتكلّم معي في موضوعات أخرى، تلطّفاً منه لكي لا يحدثني مباشرة عن حزب التحرير، ووعدني يومها أن يعطيني مذكرةً في علم العروض كان يدرُسُها يوم كان طالباً في كلية الآداب ببنغازي، لم يتحقق ذلك إذ سبقني إليها تلميذٌ آخرُ كان زميلاً لي في مدرسة قرقارش الإعدادية، وطار صوابي من ذلك فهُرِعْتُ غاضباً إلى مكتبة (النجاح) في سوق المشير واشتريت كتاب (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب) للسيد أحمد الهاشمي، ثم زرته في بيته مرتين، أو ربما أكثر، وبعضها بمعية صديقي الحبيب محمد لطفي الحواسي، وكان يحدثنا عن الحالة التي انحدرت إليها الأمةُ الإسلامية، وكان حريصاً على أن يردّ مسألة الانحطاط تلك إلى الهبوط والتدني الفكري الذي تعاني منه الأمة، وهو عينُ قول الأستاذ تقيّ الدين في مطلع كتابه (نظام الإسلام)، وكان لا يفتأ يردّد: “ينهض الإنسانُ بما لديه من فكر، وينحطّ بما لديه من فكر”؟

رأيت حسن الكردي مرتين في محاضراتٍ بنادي نجوم الوحدة، مناقشاً، قويّ العارضة في الجدل، وفي بيته تعرفتُ على فكر حزب التحرير ولم أنخرط فيه ولا في غيره، إذ كانت عواطفي مع كلّ مسلم يدعو إلى الله، ولم أر ضرورة التكتل أو الانخراط في أيّ جماعة، وعرفت عن طريقه أهم كتابين من كتب الحزب: كتاب (نظام الإسلام)، وكتاب (التفكير) وكلاهما لتقي الدين النبهاني مؤسس الحزب، يشاء القدر أن يكون حسن الكردي جاراً لنا لبعض الوقت في حي الأندلس حيث كان يقطن مع أخيه منصور رحمه الله في بيت أخيهما الأكبر الأستاذ علي الكردي الذي كان يومئذٍ مسافراً بالخارج، كان حسن الكردي دمثَ الخلقِ طلقَ المحيّا، يعرفه أغلب المثقفين والشيوخ في طرابلس الغرب على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية، وإن تنكّر بعضهم لتلك المعرفة بسبب المحنة التي ابتُلِي بها شباب حزب التحرير على يد نظام الاستبداد السابق، مخافةَ أن يُصيبَهم ما أصابه من أذىً، أذكر أنني قلتُ يوماً لأحدهم، وهو من الشخصيات المرموقة في البلد: “هل تعرف حسن الكردي؟ فأجابني: لا، فقلتُ له: كيف ذلك وقد رأيتك في وليمة زفافه في منطقة رأس حسن بطرابلس!!”، فاحمرّ وجهه خجلاً، كان الشهيدُ حسن الكردي نموذجاً رائعاً للشباب المسلم الملتزم، حِلماً، وعلماً، وهيبةً، ووقاراً، وهكذا كان شأنُ جميعِ صحبه من شباب حزب التحرير الذين عرفناهم ونحن لمّا نقضِ بعدُ من ميعةِ الصّبا أربَنا، حتى لكأنّ الشاعرَ أرادهم بقوله:

(عَلَيْهِم وَقَارُ الحِلْمِ حَتَّى كَأَنَّمَا
وليدُهم من أجل هيبته كَهْلُ)

رأيته في سجن (الحصان الأسود) عندما ذهبتُ أزور صديق عمري الأستاذ المحتسب محمد لطفي أحمد الحواسي الذي سُجن مع شباب حزب التحرير في الحملة المميتة التي شنّت على المثقفين والمفكرين وطلبة العلم في عام 1973، وكان صاحبي هذا لم يتجاوز يومئذٍ سبع عشرة سنةً من عمره، وفي تلك الزيارة رأيت الأستاذ البهلول نشنوش صاحب مكتبة النور، وإليه يرجع الفضل في تعرّفنا على الفكر الإسلامي المعاصر، كان رجلاً مشرباً بالحمرة، رأيت فيه انكساراً وألماً وهو يستقبل زائريه، وفي هذه الزيارة سألت حسن الكردي: “هل حقاً زاركم القذافي في السجن، وجادلك وأقنعك شخصياً بفساد مذهبك الفكري؟”، وهو ما سمعناه من القذافي يوم زارنا في مدرسة طرابلس الثانوية من أجل تجنيد الطلاب للكلية العسكرية، فأجاب: “كلا، لم يحدث هذا، إنه يكذب”.

صوّر د، أيمن العتوم شخصية حسن الكردي كما رسمها له علي العكرمي تصويراً جميلاً، جاء فيه: «كانت أمي تُحبّ (حسن الكردي) وتفضّله على بقيّة أصحابي، كانت تطلبُ منه ألا يتركني، أن يظلّ مرشداً لي، أن يُعينني على الصلاح، لا أدري إن كانت تخافُ علينا معاً، لأنّ قلبها قال لها إننا سنفارقها مُبكّراً، لكنّ ما أعرفه أنّ (حسن الكردي) كان نعمَ الرفيق، بعد أقلّ من عام على رحيل (محمد مهذب حفاف) و(صالح النوّال)، رحل حسن الكردي، وعمره 42 عاماً، كان النظامُ يقتلُ شبابَ ليبيا، كان لا يريد لزهورهم أن تتفتحَ، ولا أن تكبرَ أكثرَ، ولا لشذاهم أن يعبقَ في الأجواء، كانت آلةُ القمعِ التي اعتادت على سحقِ الزهور يُؤذيها العبقُ النديُّ، لأنها تعيش في المستنقعات الآسنة، أعدموه بعيداً عنّا، لا أحد يدري إن سلّموا جثمانه إلى زوجته التي خُطِف زوجُها بعد سنتين ونصف من زواجهما، حين قالوا لها بكلّ برود: «إنّ حسن مات»، هكذا كأنهم قالوا ذلك لعابرٍ في الشارع ، لم تستطع أنّ تصدّقَ أنّ هذه الروح لم تعد تدبُّ في الأرض، ولا أنّ أنفاسَها لم تعد تحلّق في الأجواء، لم تتقبّل فكرةَ رحيلِه، إنها مع أولاده الثلاثة، الذين لا يتجاوز أكبرهم عمراً السنوات الأربع، ينتظرون عودةَ فارسهم، ينتظرون عودةَ الأبَ الحاني، لقد انطفأ نور البيت عندما غادرهم إلى المعتقل في تلك الليلة المشؤومة، أيكون لليلةٍ واحدةٍ أن تُحيلَ كلّ النهاراتِ من بعدها إلى ظلامٍ دامسٍ ” ص 309.

لقد قُتِل هذا الرجل النبيل غيلةً داخل السجن مع صاحبه الرائع الشهيد (عبد الله المسلاتي) الذي لم يُكتب لي أن ألتقيه يوماً من الأيام، وإن كنت أحسُّ بأنني أعرفه من فرط ما سمعتُ عنه من ثناءٍ وذكرٍ طيّبٍ، حدث ذلك في اليوم الذي حدثت فيه معركة باب العزيزية في الثامن من مايو 1984، تحكي لنا رواية (طريق جهنم) على لسان رفيقهما علي العكرمي كيف تمّ إعدام هذين الفاضلين:

«جاء إلى قسم المحقرة على الساعة الحادية عشرة ليلاً أحدُ الحُرّاس من عائلة القذافي، وهو ضابط الصف (صالح سلطان) صاحب السلطات الواسعة في السجن رغم تدنّي رتبته العسكرية، وطلب من (عبد الله المسلاتي)، و(حسن الكردي) الخروج، فعرفنا أنها الشهادة، فأصر الأستاذ (عبد الله المسلاتي) و(حسن الكردي) على أن يستحمّا، وصليا ركعتين، ولبسا أحسنَ الثياب…

قال عبد الله: “أريد أن أقابلَ اللهَ نظيفاً”، قال حسن: “لن يروا مِنّا أيّ ضعفٍ”، كنتُ أرقبُهما وأبكي، شيءٌ ما في قلبي كان يقول إنهما لن يعودا، كان واضحاً تماماً أنّ الموتَ قد اختارهما، كان وجه (عبد الله) مشرقاً كأجمل ما يكونُ الإشراق، كان يبتسم وينظر إلينا بِحُنوٍّ، ويودّعنا، قال، وكأنّ الكلماتِ التي قالها قالها عنه أحدُ الملائكة: «اللقاءُ على الحوض، إنما نحن كُلّنا مرتحلون» بكيتُ في داخلي، كانت الدموعُ تنهمر في أعماقي، انزويتُ في سريري، وضممتُ يديّ على رأسي، لم أكن قادراً على أن أودّعَهم، قال عبد الله مُوجّها كلامه لي: «تعال يا أخي،. تعال يا عليّ،. أريد أن أحضُنَك؛ لربما لن يُتاحَ لي أن أراك مرّةً أخرى،. تعال»، اقترب مني، وقفتُ، وأشحتُ بوجهي حتى لا يروا الدموعَ التي راحت تتدفق، حضنني ، فشعرتُ بأنّ رحمةَ الله قد تنزّلتْ عليّ، وغمرتْ المكانَ بأكمله، كان هادئاً تماماً، غنّى أنشودته المفضّلة كأنه ذاهبٌ إلى احتفال: «يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي» وخرجا، شعرتُ أنّ روحي خرجتْ معهما، وعمّ ظلامٌ دامسٌ كلَّ شيءٍ” ص 308.

غادرنا هذان الرجلان النبيلان، كما غادرنا آخرون، ولا نعرف لهم قبوراً تضمهم، ولا حتى شواهدَ مهشّمة تدلّ عليهم، وكأنّ قبور الشهداء ترعبُ قاتلي سكّانها وجلاديهم، إنهم يخافون أن تنهضَ إليهم من تحت أطباق الثرى، إنّ أطيافَ الضحايا وهي تراود عقولَ الجلادين في يقظتهم وفي منامهم تحوّل حياتَهم إلى جحيم لا يُطاق، وذلك عذابُ الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} إذ تتراءى لهم جرائمهم كائناتٍ موحشةً تنهش فيهم من كلّ جانب.

– (صالح القصبي)…

الأستاذ المعلم الذي جمع بين جوانحه كلّ معاني النُّبلَ، وحسبه أن السجناء كانوا يُطلقون عليه اسم (المسيح) لفرط رقته وتسامحه، كان نموذجاً متفرداً في كلّ شيء، وإذا لم يكن للحنوّ والبِشرِ والدماثة والصلاحِ من معانٍ فإنها هو، التقيتُ به مرّةً واحدةً قبل أن يُسجنَ، وأنا بعدُ تلميذٌ صغيرٌ، فانطبعت في قلبي صورتُه الجميلة بوجهه الوضيء، وصوته الخفيض، وبلحيته السوداء المهذّبة، كان أستاذاً رائعاً بحقّ، عشتُ معه محنته من خلال مذكراته التي كانت تهرّبها من داخل السجن سيدةٌ فاضلةٌ مجاهدةٌ هي زوجُ صديقنا الشهيد أحمد الثلثي، لقد وضع الأستاذ صالح القصبي بين يدي مخطوطةَ تلك المذكرات بعد خروجه من السجن، وعهد إلي بالاعتناء بها وطبعها، فعشتُ كلّ صفحاتها بجوارحي حتى جعلتُ المقدمة التي كتبتها لها بعنوان (كأني معكَ) على غرار عنوانه الذي اختاره لمذكراته (كأني معكِ)، وهو يحدّث فيها عن تفصيلات حياته داخل السجن، ولا أشكّ أبداً، أنّ المؤلّفَ أيمن العتوم قد وظّف الكثير من مادة هذه المذكرات الغنيّة بالمعلومات في روايته (طريق جهنم)…

“مرّ عيدٌ، إثنان، عشرة، بل عشرون عيداً، كأن لم يمرّ إلا الأسى، زارنا البقُّ شهوراً طويلةً، راق له أن يلتصقَ بأجسادنا الهزيلة، لم أدرِ ماذا كان يُعْجِبُه فيها، لم يعد لنا مِنّا إلا العظام، اللحمُ نشف، والجِلْدُ رقّ، والعظام فقط هي التي برزت، لم أر مُرزّأً في السجن مثل الحاج صالح، ولم أر في مثل صبره أحداً، لكأنّ المصيبة كان يحلو لها أن تحلّ بداره ، وتستعذب البقاء في فنائه، ولكأنه كان يُحسنُ ضيافتها، فلا ترى منه إلا قلباً ثابتاً، ووجهاً باسماً راضياً [..] كانت قدرة الحاج صالح على النسيان، أو ربما التناسي ليست عند أحدٍ منّا وإن ادّعينا أنّ صبرَنا صبرُ الجبال الرواسي، ولا أدري إن كان ينسى بهذه السرعة أم أنّ قلبَه كان مثل الإسفنجة يمتصّ كلّ الماء الأسود ولا يُخرِج إلا ماءً مُقطّراً زُلالا، كان الحاج صالح أكثَرَنا تنظيماً للوقت واستفادةً منه، فهو في شغلٍ دائمٍ، إمّا يُعطي درساً في التاريخ أو الفقه أو الأدبِ، وإمّا يُعلّم غيرَه أو يساعده على حفظ القرآن الكريم، وإما يقرأ إذا وجد إلينا الكتابُ سبيلاً، وإمّا يغسل ثيابَنا كما اعتاد منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً [..] لم يقع الحاج صالح في خصومةٍ مع أحدٍ طوال فترة سجنه، وفي أحلك الظروفنا وأصعب أوقاتنا كان يُرى هادئاً مبتسماً، يمدّ يديه بالسلام والحبّ لكل أحدٍ، يقف إلى جانب المرضى، يُخفف عنهم، لم يكن طبيباً عضوياً، لكنه كان طبيباً من نوع آخر، ولولا كلماتُه المعجونةُ بالرضا، ونظراتُه المشعّةُ بالحب لفقد أكثرُنا عقلَه، كان يتفقدنا في النوم مثلما تتفقد الأمُّ أبناءها [..] كان أكبرَنا، كلنا في الزنزانة أصغرُ منه، ومع ذلك خدمنا كلّنا، وخدم نزلاءَ المهاجع الأخرى، وكان يفرح إذا طَلَبَ منه أحدٌ شيئاً، أو استشاره في أمرٍ، وكنّا نرجع إليه في المدلهمّات، وما كان يُستثنى من العذاب على عِظمِ قدْرِه، ولم أره مرّةً واحدةً شاكياً [..] كان عليه إجماعٌ في السجن، ربما الوحيدُ الذي حاز على هذا الاحترام الكبير من الأطياف والتوجهات كافةً، كان ملاكاً يمشي على الأرض، وسماه التروتسكيون (المسيح)” ص 253 – 255…

هذا نموذج فريد لشخصية متميّزة من شخصيات رواية (طريق جهنم)، وأخلاقه في السجن لم تفارقه حتى بعد خروجه منه بعد ثلاثين عاماً، ما جالسته قطُّ إلا أحسستُ بالسكينة، إنه السكينةُ عينُها، شخصيةٌ كان لا بدّ من الإتيان بها في الرواية للتأكيد على أنه بقدر ما في السجن من بلايا ففيه رحماتٌ تغْشى القلوبَ، لا يعرفها إلا من صدق اللهَ عهدَه، وأسلم قيادَه إليه.

– عبد العزيز الغرابلي…

لم ألقه في حياتي، ولكن بلغني من أخباره ما يَسُرُّ من صاحبه وشقيق روحه صديقنا المبتلى عبد الحميد البشتي (رحمه الله)، فعبد العزيز المشهور بين السجناء بــ (زيزو): “كان راهباً في محراب الحبّ، أخرج بهدوئه ودفء قلبه كلّ ضغينةٍ في النفوس فأحببناه جميعاً، رسوماته ظلّت تزيّن جدران الزنازين، لم يرسم وجهاً عابساً في حياته، كلّ الشخوص التي رسمها كانت تبتسم، لم يقل قصيدةً حزينةً واحدةً في حياته، كلّ القصائد التي كان يكتبها كانت تضحك” ص 292.

كان عبد العزيز وجبةً التهمها المرض في شهر يناير من عام 1984 مع البرد القارس، كان يردّد دوماً بالرغم من شدة المحنة والمرض الذي ابتُلي به: “نحن إن مِتنا فمن أجل الربيع،. وإذا عِشنا فمن أجل الربيع”… الربيع رمز الحرية، والنماء، والميلاد، في داخل السجن، كان الغرابلي يحرر مجلة يشاركه في تحريرها صديقه عبد الفتاح البشتي أ أُطلِق عليها اسم (أبريل)، ثم تكونت حلقة سريّة داخل السجن في عام 1980 تحت اسم (جمعية المتراس)، وكانت لها مجلة باسم (المتراس)، صدر منها تسعة عشر عدداً، جاء في افتتاحية العدد الرابع من (المتراس) عام 1978 التي كتبها الغرابلي: “في السجن يكبر الوطن،. في السجن، بقدر ما يضيقون مساحة الأرض حولك، بقدر ما يتسع الصدرُ والقلبُ حتى ليحوي كلّ العالم، وتمتلكك الرغبة، لأن تضمّ في داخلك كلّ دقائق هذا العالم بمن فيه وما فيه، يأتي الشعور بحبّ العالم وحبِّ الناس عنيفاً، عنيفاً إلى حدٍّ يختلط فيه الحبُّ بالألم ، ويوصلك إلى مشارف بحر من الحزن، في السجن يكبر الوطنُ،. وتراه بحجم العالم، فالعالم وطنُك، والنازفون دماءهم من أجل بناء الغد الأفضل إخوتُك، والرائعون القابعون في كلّ سجون العالم رفاقك [..] في السجن نعشق الحياة كما لم يعشقها إنسانٌ من قبل، لأنهم يصادرون الحياةَ على مداخل الأبواب الحديدية، وبينما تتركز حربهم لأن ينتزعوا من داخلك كلّ معنىً للحياةِ ، تظلّ أنت تحارب، بالحياة، فتحلُمُ بحياةٍ جديدةٍ مشرقةٍ، فرِحةٍ، وترى أنّ ذلك سيكون على أنقاضِ كلِّ سنين الزيف هذه، وكلّ التشوهات، والتعفّن الحاضر، ومسخ الإنسان إلى أقصى حدٍّ، ويتركّزُ حُلُمُك في صورة جديدة كلَّ الجِدّةِ للوطن” ص 291… مات عبد االعزيز الغرابلي بعد أن تآكل جسده ونهشته الأمراض، فتليّف كبدُه وتقيأها دماً، مات العصفور في قفصه وهو يغني للحرية.

– (عمرو النامي)…

هذا الرجل النبيل لقيته مرّة واحدةً في حياتي لقاءً عابراً بعد خروجه الأوّل من السجن، وكنت أسمع من أصحابه وأصدقائه: الأستاذ عبد الله الهوني، والشيخ د، محمد الطاهر المقوز، وشيخنا الداعية الأديب الشاعر فتح الله احواص، وصديقنا العزيز محمود الناكوع، وآخرين وهم يكيلون له الثناء لعلمه ولجميل خصاله، فقلت في خاطري:

والناسُ أكْيَسُ من أن يمدحوا رجلاً
حتى يروا عنده آثارَ إحسانِ

عمرو النامي، المفكر، والشاعر، آهات الناي الحزينة التي كان تنادي خرافه في شعاب الجبال وفي بطون الأودية يوم خرج من السجن، وأدرك أنّ الأناسي ّ أكثرُ توحشاً من الضواري، وأفتكُ من جوارح الطير، فقرّر التوحد والاعتكاف في البراري بعيداً عن صخب الدنيا، وهو يردد قول الشاعر العربي القديم الأحيمر السعدي، وينسب البيت للشنفرى:

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئب إذ عوى
وصوّت إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

لم يرُق هذا التصرف للمستبد الحقود، فقذف به إلى السجن من جديد، وأوكلّ أمر تعذيبه إلى أحقر الخلق ممن تجمعت فيهم كلُّ سوءات البشر، حتى أفقدوا ذلك العقل الرشيد رُشدَه، جاءت كثير من تفصيلات حياته في السجن على لسان علي العكرمي الذي ربطته به أخوة ومحبة في الله، وكان مما كتبه لعلي العكرمي في السجن بضع رسائل تشتم بين سطورها معاني الإباء والشمم، أليس هو ذلك الشاعر المطبوع القائل الذي يُتغني بقصيدته الرائعة الكثيرون ولا يعرفون أنها لعمرو النامي الليبي، وفيها يقول:

أُمّاه لا تجزعي فالحافظُ الله
إنّا سلكنا طريقاً قد خبِرناه

لم يكن اختيار الروائي أيمن العتوم لهذه الشخصية من بين الشخصيات التي أوردها في روايته عبثاً، لقد زرع هذه الشخصية في قلب الرواية ليكمل لنا رسم اللوحة الفنية في جانبٍ مهم من جوانبها، إنه لونٌ فريد يقصّ علينا حكاية الشاعر المفكر الذي لم تلن له رأسه تحت وقع المطارق، وهكذا شأن كلّ مفكر صاحب رسالة، لقد اختار سقراط أن يموت طوعاً بالسم على أن يتخلى عن معتقداته، وكذلك فعل كوبرنيكوس وآثر أن يموت حرقاً بتهمة التجذيف على أن يتخلى عن مبادئه العلمية، الشاعر الحكيم والمفكر الذي أُزهقت روحه وهو في إبّان نضوجه العلمي، آثر أيضاً ألا يقف في صفوف الظلمة والمستبدين، وذلك هو الموقف الحقيق بكلّ مفكرٍ حرٍّ ملتزمٍ بقضايا أمته، ودينه، يقول الشهيد عمرو النامي في إحدى رسائله إلى علي العكرمي:

«أخي علي،. نحن ننال من الحريّة بقدْرِ ما نتخلّص من الخوف الذي في قلوبنا، اقتُلِ الخوفَ تنل حريّتَك، الحريّةُ أغلى من الموت في سبيلها، يبدو الموتُ إلى جانبها كائنٌ صغيرٌ متطفّلٌ [..] نحن بالحريّةِ أحياءُ، وبالعبودية موتى، وأعجبُ من أولئك الذين يبيعون حياتَهم بلا ثمن [..] الأملُ ليس وهماً كما يعتقد اليائسُ، الأملُ حالةٌ ؛ انظر حولك وستجدُ أنّ كلَّ شيءٍ يحتفي بالأمل، كلُّ شيءٍ يتحوّل إليه، كلُّ شيءٍ يريد أن يكونه، تخيّل أن الكون والكائنات بلا أمل؛ كيف يمكن أن تكون هناك حياةٌ كيف يمكن أن يُعبدَ الله، الآخرةُ أملُ الدنيا، الفوزُ أملُ المُعذّبين، النهاية أملُ المتعَبين، الحقيقة أملُ الخائفين، العدلُ أملُ المظلومين» ص 303.

كتب هذا الفيلسوف الكبير، الزاهد المتوحد، لعلي العكرمي يحدثه عن معنى الجنون والحرية: «الجنون الذي هو انفصالُ العقلِ عن الواقع هو تحرّرٌ من نوعٍ خاصّ، إنه تحرّرٌ من قيودٍ قاسيةٍ فرضها علينا البشر من أجل ألا نكونَ احراراً، الحريّة عند هؤلاء مخيفةٌ، تبدو كأنها سقوطٌ في بئر عميقة ليس لها قرار، وليس منها عودة، لكنها عند الذين غامروا بكلّ شيءٍ تبدو أجملَ ما يمكن أن يحدثَ، تبدو صعوداً في السماء إلى المعارج ليس لها منتهى، سيكون لنا غدٌ لأنّ الليلَ تعِبَ من الظلام، وستكون لنا شمسٌ، لأنّ الغيابَ تعِبَ من الوحشةِ، وسيكون لنا فوزٌ لأنّ القلبَ تعِبَ من الحزنِ، وسيكون لنا روحٌ لأنّ الجسدَ تعِبَ من الطين» ص 304…

تخيّل كاتباً عاد لتوّه من رحلة الجنون، عاد من غيبوبة العقل يكتب نصاً عن معذبته (الحرية) كهذا النصّ، وكأنه نسي أنّ سرّ معاناته بسبب هذه المعشوقة المعذبة المسماة (الحرية) والتي ستقضي عليه في المرّة القادمة، أعتقد أنّ هذا النص أو (التناص) هو المحور الذي اختاره العتوم لتدور حوله روايته هذه، نصّ مذهل يصدر عن فيلسوف كبير، بله مجنون يعانق مجنونة اسمها (الحرية)، ذيّل عمرو النامي رسالته إلى علي العكرمي بهذه الأبيات:

سيُزهرُ روضُ الحياةِ العشيب
ونَسْعدُ بالزهر فوق الكثيب

ويتفرجُ السجنُ بعد انغلاق
وينزاحُ ظلّ الضلال المريب

هنالك خلف الجدار الكئيب
تبـــاشيرُ فجرٍ منيرٍ قــريب

وأنفاسُ صُبحٍ وَضيءُ السّمات
وأنسامُ روحٍ رخيٍّ الهبوب

في أواخر عام 1984 اختفى عمرو النامي كما اختفت رسائله، ولم يجد أحدٌ لها أثرٌ ألبتة، ولن تختفي كلماته المترعة بالأمل والثقة في الله أبداً.

– بشير الزعلوك…

في العمل الروائي ثمة حدثٌ ما قد يكون بؤرة الأحداث جميعها، يختار له المؤلف شخصية من شخصيات الرواية، و(طريق جهنم) رواية متعددة البؤر Multi focus، كلّ حدث فيها يحدث دوائر أشبه بالدوائر التي تحدثها الحصاة على صفحة البحيرة عندما تلقى فيها، وأمّ الدوائر، أو أم الأحداث في (طريق جهنم) حادث مذبحة سجن أبي سليم، تلك الواقعة المأساوية التي راح ضحيتها أكثر من ألف شخص أبيدوا عن بكرة أبيهم في سويعاتٍ قليلة، وهذه الحادثة هي نهاية (طريق جهنم) قبل أن تطير البلابلُ السجينة من أقفاصها بالموت أو بالحرية، اختار المؤلف أيمن العتوم شخصيةً من بين شخصيات ذلك الحدث المأساوي المروّع ليروي لنا بأسلوبه الآسر عظم المأساة، شهادةٌ أمام العالم والضمير الإنساني على أبشع مجزرة مارسها زمرةٌ من المتوحشين…

وإذا كان (صالح القصبي) هو المسيح في عيون السجناء، فإنّ بشير الزعلوك – كما تصوره الرواية – أحد حواريي ذلك المسيح، إنه البلسم الشافي والدواء الكافي لمن مسته الأسقام، كتب الكاتب المسرحي دورينمات مسرحية رائعة بعنوان (هبط الملاك في بابل)، والحقيقة لم يهبط الملاك في بابل ولكنها بابل التي هبطت وانحطت، فانكشفت سوأتها، وهي مسرحية تعالج المأساة التي يعيشها البشر عندما يرفضون هدية السماء إلى الأرض، الشخصيات الملائكية في الأعمال الروائية رموز للطهر في مقابل الشخصيات الإبليسية التي تخرج من العوالم السفلية، تخرجُ وهي تفوح منها كلّ روائح العفونة…

في (طريق جهنم) ثمة ملاكٌ هبط من السماء، ظلّ طريقه وحطّ في قلب الجحيم المستعر الذي يعجّ بالأفاعي، والتنانين، وكلّ المخلوقات البشعة التي تُسمى ظلماً بشراً، فنُحِرت ملائكيته ودُنّس طُهرُه، اغتيال الملائكة البشرية تتبعها لعنات وسخط عظيم، الملاك البريء في (طريق جهنم) اسمه بشير الزعلوك:

«بشير صنفٌ آخرُ من البشر، ملاكٌ هبط من السماء، جاء ليساند الحاج صالح في مهمته الرسالية؛ المسحُ بيدٍ من حنانٍ على قلوبِ الموجوعين، والابتسام في وجه المعذّبين، وسرد حكايا الصبر للقانطين، كان بشيرُ للموجوعين وعدَ الشفاء، وللبائسين وعدَ الأمل، وللمحرومين وعدَ العطاء، كان لا يراه أحدٌ إلا ابتسم، ولا ينظر في عينيه أحدٌ إلا ارتاح [..] رجلٌ يألَفُ ويُؤلَفُ» ص 397…

تناهبته نيوبُ الوحوش الآدمية الضارية وهو في طريقه إلى عمله، فألقوا عليه القبض، وكانت عائلته الصغيرة تنتظر قدومَه على مائدة الغذاء، تأخر (بشير) عن الحضور على غير عادته، وما كانوا يدرون أنهم لن يروه بعد ذلك اليوم أبداً…

ظلّت زوجته الملتاعة وابنته (فاطمة) ذات الأربع سنوات، وأخوها (محمد) الذي لم يتجاوز السنتين والنصف، واختهما الرضيعة (براءة) ذات الأشهر الأربعة، ينتظرون وينتظرون، طال الانتظار، ولكنه انتظار عبثي أشبه بانتظار جودو كما يصوره (صموئيل بيكيت) أحد رموز المدرسة العبثية واللامعقول في فرنسا في مسرحيته الشهيرة التي تحمل اسم (في انتظار جودو)، هجم الجلاوزة على بيته يفتشونه بهمجية، فقلبوا ما فيه رأساً على عقب، يبحثون عن اللاشيء، أملاً أن يتحوّلَ اللاشيء إلى شيء يُدينون به بشيراً، كان لبشير حظٌ من اسمه، فما كان البِشْرُ يفارق مُحياه حتى في أحلك الظروف التي قد يتنازل فيها أصلبُ الرجال عن أجمل ما فيهم من خِصال، جاء ذلك اليوم البغيض، موعد الزفاف الدامي أو (عرس الدم) كما راق للمؤلف أيمن العتوم أن يسميه، يومٌ أسودُ تساقطت فيه البلابل التي كانت تغني للحرية وتنشدُ للوطن، وهي مقيّدةُ معصوبةٌ العينين، والجلادون يطلقون النار عليها من فوق الأسوار والأبراج وقد انتابتهم حالةٌ هستيريةٌ، «استطاع بعض السجناء أن يفكّوا قيودَ أيديهم، ويزيلوا العصابات عن الأعين، كان بشير أحدّ هؤلاء، نظر حوله يريد أن يرى حجم الكارثه، لم يكن الرصاصُ ليمهله لمزيد من التفكير، هجم على الجثث، سحب بعضها ممن كانت لا تزال فيهم حياة، [..] رأى أيدي ترتفع إلى السماء، وأخرى تشير باصبع السبابة إليها، وعيون مفتّحة، ودماء تسيل في كلّ بقعة، ركض باتجاه الساحة، تلقاه قنّاصٌ متمركزٌ في الجهة المقابلة [..] جاءته الرصاصةُ في صدره، شعر بدوار، الدنيا تغيم، والأرض تدور [..] كان الدّمُ الدافئ يسيل على صدره، وضع يده على صدره حتى امتلأت بالدم، ومسح بها لِحيته: “أريد أن ألقى اللهَ بلحية مخضّبةٍ بالدّمِ”، تهاوى، لكنه تمالك نفسه [..] هوت يداه عن جانبيه، انحنى جذعُه، وألقى برأسه المثقل بالحبّ على صدره، رأى قلبه تماماُ، رأى بساتين الورد التي تسيّجه، اشتمّ العطرَ الذي يفوح منه، وشاهد أسراب الطيور التي تحلّق في فضائه مبتعدة رويداً رويداً، كان قد أوشك على أن يستسلم، حينما طرق سمعه صوتٌ مألوفٌ، آه، نعم، أرهف سمعه بما تبقى في روحه من حياة، إنه صوت فاطمة: “آه يافاطمة؛ اشتقتُ إليك ياحبيبتي، لماذا أطلتِ عليّ الغيبة؟ [..] اقتربت فاطمة أكثر منه، ربتت على كتفيه، سمعها تقول: “لا بأسَ عليك يا أبي،. اليوم لا تعب ولا حزن، اليوم لاجوع ولا عطش، اليوم لا ذلّ ولا مهانة، اليوم سترتاح يا حبيبي”، سقط على جانبه، وسجّى يديه، كانت روحه تصعد إلى الأعالي، فتح عينيه، رأى فاطمة حقاً، ورأى محمداً وبراءة، وأمَّهم من خلفهم، وهم يبتسمون، كانت الشمس تُرسل أشعتها من بينهم وهم يتحركون من حوله [..] كانت روحُه تحلّق فوقهم، عبر شعاع الشمس، رآها تصعد نحو الله، كان هناك ملائكة يستقبلونه على أبواب السماء، حفّوا به، وأوصلوه إلى مقامه المعلوم، وعلى الأرض كان عُرس الدم لا يزال قائماً» ص 432 – 433…

_________________________

نشر بالسقيفة الليبية.

الإجزاء: 12345

مقالات ذات علاقة

الأدباء والكتاب العرب يعقدون مؤتمرًا استثنائيًّا الأربعاء بالقاهرة

المشرف العام

التجلّيات المعنويّة والإيقاعيّة لاسم فاطمة

فراس حج محمد (فلسطين)

استحضارُ الحروفِ الغائبة

المشرف العام

اترك تعليق