المقالة

صدام المصـالح بين الفـساد والإصـلاح

أحسب أن سؤالنا الوحيد والأساسي هو السؤال الاقتصادي المتعلق ليس بالأكل الشرب والكسوة والمأوى، بل الحصول عليها على نحو سهل وبجودة عالية ورفاهية كاملة.

كوننا أبناء أرض تقذف الملايين الدولارية كل يوم، جعلنا لا نكتفي بما لدينا وهو في الغالب “فقير” بل نريد أن لنحصل على الأساسيات والكماليات، بما يحقق لنا سعة العيش و رغد في الحياة.

فبعد الدفق الكبير خلال السبعينيات، وسياسة التقشف في الثمانينات، داعب عقولنا حلم الحياة المرفهة، خاصة بعد الإعلان عن توزيع ثروة المجتمع وارتفاع سعر النفط والانتهاء من دروب سلكناها، كانت تأكل جزءا من رصيدنا المالي في مصرف ليبيا المركزي.

فما الذي حدث على وجه التلخيص والسرعة.

أذكر هنا تصنيف منظمة الشفافية العالميةحيث يذكر أن ليبيا تعد إحدى الدول العشرة في الفساد الإداري التي حسب منشور أمين اللجنة الشعبية العامة يري “الاحتفال” به لهذا العام في 90/12/2004 تطابقا مع اليوم العالمي لمحاربة الفساد.

في تقرير منظمة الشفافية العالمية التي تأسست عام 1993 رتب 146 بلدا، يتأسف على إن معظم البلدان النفطية لم تحصل إلا على ترتيب منخفض.

وربما غنيا عن القول إن الفساد الإداري يتشكل من جملة الخيوط السوداء التي تحاك في العتمة وبضمير حالك السواد انه شراء الدمم، والعمولات المشروطة وغير المشروطة، والاختلاسات التي حتى وضح النهار وتبادل الرشاوى، وانتهاك بنود القوانين، وبتزوير الملفات الإدارية ما فيها أو بشرائها من الذين يمتلكون حق توقيعها المعتمد.

أنه الفساد الذي يستند على وساطة أحدهم، ومحسوبية هذا، ونفوذ ذاك، إما على حساب جهة أو قطاع أو القبيلة وربما حتى الشارع.

أنه يظهر علانية بين ثنايا موظف عام بدرجة سادسة، يمتلك مقومات معيشته على أعلى مستوى حيث الفـرق واضح بين مصاريفه الشهرية وبين قيمة مرتبه الشهري. كما يظهر واضحاً على كتف أحدهم أو في حقيبة أحد الوجهاء بمظهره.

ومهما يكن من الأمر فإن عملية انتشار الفساد نراه منعكسا على الشوارع الكبرى التي (تلهد) عليها سيارات غالية الثمن وبرفاهية من يقودها خلف زجاجها المصقـول.

وفي هذا الشأن نجد أن التوجه الاشتراكي من1977 إلى أول بدايات التجارة عند 1989 م لا نجد من ملامح الفساد إلا تلك الممارسات التي واجهت التوجه وحاولت إرجاعه إلى النص المكتوب فقط.

ذلك أن الأسواق الشعبية وهي تجربة مثالية (وليست منتجات جي في سي حسب الإعلان الدعائي لها في شوارعنا)، وجدت من يفسد فيها ويفسدها عبر طرق شتى، حتى تم إقفالها وحل محلها السوق الممتاز.. إن منظمة الشفافية وهي تقاوم الفساد تتناسى أو ربما تغفل عن أن الرشوة هي إحدى بنات السوق التجاري.

لهذا عندما فتحت التجارة أبوابها دخلت الرشوة منها، وتم شراء بعض عناصر الأجهزة التي لها علاقة بدخول وخروج وبيع السلع والبضائع دون أن يخسر التاجر شيئاً لأن ما يدفعه، يضيفه على ثمن البضاعة، ويمكن هنا أن اذكر الجمارك والمواني والبلدية والاقتصاد والشرطة والعاملين في البوابات والمفتشين في مراكز التحليل، جميعها ذات علاقة بمرور البضائع الأمر الذي يفتح نوافذ الرشوة بين التجار وبين العاملين فيها.

على سبيل المثال والأمر هنا لا يتعلق بالرشوة فقط إذ أن عملية الاختلاس، وقبض العمولات اثرت بشكل سلبي على بعض القطاعات

الزراعية مثلا.تم إقناعنا بان الموز يمكن أن يزرع في أرضنا وتصير ليبيا من ضمن المصدرين له إذ رصدت الملايين ( بعملات ) طبعا وتم إنشاء المشاريع في الزوايا وفي عين زاره وما لبث حتى صارت أطلالا.

وهكذا المشاريع الإسكانية والمدرسية والطرق وبرامج الصيانة والتوريدات….. الخ

وبين هذا الفساد وعدم محاربته تقاطعت المصالح الشخصية وتصادمت فيما بينها دون حساب النتائج.

وأنا هنا لست ذات نظرة ” شو بنهاور ” التشاؤمية التي تري أن العالم وجد ليعكر صفـونا، وأن الحياة لا

تأتي عل ما نشتهي وتذهب بنا كما يحلو لها، بل نظرة تفاؤلية، تجعل من المستحيل ممكنا ويسيراً.

إنها بعض المعالجات الإدارية للخطوات التي قطعناها وتكمن في توطين المعرفة التي تمر بثلاث مراحل حسب ما يراه ” لوك ” وهي الإدراك الحدسي ثم الإدراك الحسي ثم الإدراك اليقيني الذي يبدأ بالجزئيات وينتهي بالكل وأن تعمم المعرفة لفصل الشرور عن الخيرات وتكون الحرية في الاختيار بين ما هو مضر وما هو نافع.

إن اعتبار مصلحتي الشخصية هي ضمن مصلحة الآخرين، فمعرفتي بجهلي تدفعني للتعلم وعلمي بمرضي تجعلني أعالج عللى وإحساسي بالخطر يدفعني الى سلك طرق الآمان.

انه الوعي العام حتى من منطلق ديني والأخذ بالحلال والحرام.

حقيقة ونحن والجميع يسعى لتحقيق مصلحته الشخصية يذوب الإحساس العام بكل ما هو مشترك

وعلى قمة هذا المشترك الوطن الذي يضمنا جميعا.

الثورة جاءت من اجل تكريس المشتركات فيما بيننا، من حرية وعدل وتوزيع الثروة.

ولست محتاراً هنا عندما تم إلغاء قطاعات وإنشاء قطاعات أخرى، ثم تم فكها وتركيب القطاعات الأولى.

لأنها المصلحة وليس سواها المحرك للعقول التي جاءت بها.

فبين عملية الفـك وإعادة التركيب أو بناء تركيب جديد ليس مرده إلا العراك الذي شب بين هذه المصلحة والمصلحة الأخرى..

ليس هناك اعترافا إلا بالمصلحة المشتركة للجموع الذي خرجت تؤيد الثورة وهي تعلن الحرية والاشتراكية والوحدة ولتغتال كل الأمراض الاجتماعية من فساد واضح وخفي ولتنتصر للحق ففيها وبها لا مظلوم ولا مغبون بل الجميع سواسية كما خلقهم الله سبحانه.

أما الكتاب الأخضر فهو يقرر..

( أما عمليات استغلال إنسان لإنسان. واستحواذ فرد على أكثر من حاجته من الثروة. فهي ظاهرة الخروج عن القاعدة الطبيعية، وبداية الفساد وانحراف حياة الجماعة الإنسانية، وهي بداية ظهور مجتمع الاستغلال.

وحتى إذا أصبح الفساد واقعاً اجتماعياً فإن الثورة كفعل إرادي ترفضه وتتدخل على عمد وإصرار لتغير الوضع ولو أعتاد الناس عليه وأسلموا له.

وأحسب أن جملة من الخطوات يمكن أن تكون مغيرة

أولها إعداد برنامج ثقافي يستند على المبادئ الأساسية للإنسانية والتي ركز عليها الكتاب الأخضر بالعودة إلى القيم والمثل العليا وسلوكيات السلف الصالح.

 – محاسبة كل الذين أداروا الفساد وعطلوا مقومات المجتمع وقبضوا الرشاوى والعمولات واختلسوا وسرقوا المال العام وجهد الآخرين.

– سد الحاجات وعدم التفاوت بين أفراد المجتمع عبر العديد من الحلول الممكنة

– تفـعيل الرقابة خاصة على المال العام وحركة دولاب الإدارة

– تبادل الجهات الرقابية بين شعبية وأخرى.

– تكوين شركات عامة لكل المتطلبات الأساسية للمجتمع

– توسيع دائرة العمل ببناء قلاع إنتاجية لسد السوق المحلي بجودة عالية لخفض حجم الاستيراد من الخارج والعمل على نظام المقايضة. وإنشاء قاعدة زراعية.

– إصلاح البنية التعليمية وتغيير فلسفة التعليم.

– تقنين العمل الشعبي وعدم السماح بالتصعيد أكثر من فترة واحدة ولكل الأمانات واعتبار العمل الشعبي ضريبة مواطنة لكل قادر عليها.

– اعتماد الملاكات الإدارية بحيث تكون الوظيفة العليا عبر التخصص وسنوات العمل والكفأة وليست عبر التزلف والنفاق والوساطة والمحسوبية.

وبصرف النظر عن تقرير منظمة الشفافية العالمية التي يمكن أن يكون لها مآرب في ذلك وما مدى صحة تقريرها وعلى أي استناد اعتمدت عليه فإن المهم هو هذا الوطن الجميل وهذه الثورة التي تحارب الفساد وتمارس الفعل الإصلاحي وتسعي إلى سعادة المجتمع.

المهم أن تكون المصلحة تلتقي مع أخرى للصالح العام

المهم أن ننكر ذواتنا وتكون التضحية من أجل قيمتها لا لغاية أخرى.

هكذا بدأت حضارة العرب مع الإسلام وسطعت شمسنا على الأرض وحسبت لنا الأمم ألف حساب

مقالات ذات علاقة

يوسف الشريف: لكن أين الصحف الخاصة!؟.

أحمد الفيتوري

القديس بوشناف.. القيمة والقامة

المشرف العام

الكفاءات في السياق الليبي

المشرف العام

اترك تعليق