النقد

صادق ُ النيهوم.. ناقداً

نزوى

عذاب الركابي

الكاتب الصادق النيهوم
الكاتب الصادق النيهوم (تصوير: فتحي العريبي).


.في كتابهِ: (الممارسة النقدية) قالَ بيلنسكي: (النقدُ قيصرُ العالم ِ المُعاصر ِ)..، وفي تعريفهِ لهُ اكتفى بالقول ِ: (انَ النقدَ شكلٌ أدبيّ هام، بلْ من أهمّ أشكال النشاط الإبداعي الاجتماعي، وأكثرها هيمنة ً)- الممارسة النقدية ص5.

و النقد العربي المُعاصر، ورغمَ بروز الأساتذة والنقاد الكبار فيه في ثقافتنا، والمكتبة العربية تزخر ُ بالعديد من الكتب والمؤلفات النقدية، لكنّه ُ ظلَ داخل دائرة ِ الاتهام، امّا لأنه ُ لمْ يواكبْ هذا التفجّر الإبداعي في الشعر والقصّة والرواية، وعلى امتداد ِ الساحة ِ الثقافية العربية، أوْ أنّه نقد ُ مجاملات، وعلاقات، ومصالح، وأنّه لا يبتعد ُ عن مفهوم الشراكة والمقاولات، أوْ أنّه ُ يغرفُ من مياه ِ المناهج ِ والمدارس النقدية الغربية التي لها مقاييسها وأحكامها التي لا تنطبق ُ على البيئة والظروف التي وُلِدَ فيها نصّنا العربي..، ولا تسمع غير قرقعة المصطلحات ِ وبروز نزعة التعالي، ورُبما لا تفهم شيئا ً ممّا قاله ُ الناقد الفلاني أوْ ذاك، باعتراف مبدعين كبار، فقدْ ذكرَ لي شخصيا ً، الصديق الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي –رحمه ُ الله- أنَّ ناقدا ً كتبَ عنه ُ كتابا ً كاملا ً، وحينَ قرأه ُ لمْ يفهم منه ُ شيئا ً..، كان َ هذا حال النقد ِلدينا ومازال َ، أينما ذهبت َ، شرقت َ أوْ غربت َ، في هذا الوطن، فإنك تصفع ُبالسؤال الجارح: هلْ لدينا نقد حقيقي وجاد ؟؟. وظلّ السؤالُ أعمى..!!
. « ولكي يكونَ الكاتبُ عظيما ً أنْ يطرحَ آراءه بحرارة ٍ، وإيمان ٍ عميق ٍ» !!
دلتني عبارة(بيلنسكي) هذه ِعلى صادق النيهوم – الناقد الذي ملأ فضاءنا الثقافي إبداعا ً متعددا ً شغل َبأسئلته ِ المُلحة ِ الضرورية العديد من مبدعينا كتّابا ً ونقادا ً وشعراء..، بالإضافة ِ إلى ورود ِ الجذب ِ والدهشة ِ والسحر ِ التي كانَ يرمي هذا الكاتب في دروب ِ قرّائه ومتتبعي إبداعهِ الذين َ وجدوه نجما ً مُتألقا ً في سماء ِ الأدب ِ والثقافة ِ، وقدْ كانَ لهُ ذلك !!، فإنّ مجلة: (الناقد) اللندنية الصادرة عن دار رياض نجيب الريس فترة التسعينيات، كانت تنفد في سويعات من المكتبات على أيدي المتابعين لمقالات صادق النيهوم الفكرية المثيرة في أسئلتها التي ظلت مُقلقة وشائكة حتّى بعدَ رحيله.

 يقوم ُ النقد ُ عند صادق النيهوم للنص الإبداعي على ركيزتين ِ هامتين ِ، الأولى: عمق المضمون، والثانية: اكتمال الشكل..، هدفه ُ الكبير هوَ مستقبل الكاتب والكتابة ِ والإبداع
معا ً!! وممّا ترك َ لنا من نظرات ٍ نقدية ٍ وآراء مكتوبة بأنفاس الصباح، وجرأة الجداول ِ،
 فإنّه ُ تعدّى مهمة َ الرسم ِ بالكلمات ِ إلى الحفر على جدران صُلبة ِ.. فهوَ الناقدُ النحّات بامتياز..!!
. «التجربة ُ حقلٌ للخطأ »- صادق النيهوم..!!

كان َ ذلك َ أول تعاليمه النقدية الحادة، والحاسمة، وهوَ يكتبُ مقدمة ً بطلب ٍ من شاعر ٍ ليبي كبير مثل علي الفزاني* الذي آثرَ أنْ يزين َ صفحات ِ ديوانه ِ الأول:(رحلة الضياع) الصادر عام 1966 بكلمات ِ.. وأنفاسِ.. وهيبة كاتب ذائع الصيت وهوَ صادق النيهوم الذي تردّد كثيراً قبل َ أنْ يوافق َ على كتابة المقدمة، مخاطبا ً الشاعر الفزاني في رسالة ٍ جريئة ٍ قائلا ً: (وما الذي يضمن ُ لنا أننا لنْ نرتكب َ أخطاء ً حاسمة ً)، وقدْ كان َ أكثر َ وضوحا ً،لأنّ المجاملة قدْ تكون ُ في أيّ شيء إلا في الإبداع، وهوَ يضيفُ في رسالته للشاعر ِ: (انّ شعرك َكلّه ُ، كان َ في مرحلة ِ إعداد). وصادق النيهوم لمْ يقصد الإساءة أوْ إحباط الشاعر، بقدر ما أراد أنْ يخرج َ بالنقد ِ من دائرة لاتهام، وتبرءته ِ من تهم ِ المجاملة.. والتعاطف..والانفعال، أكّد َ ذلك َ الشاعر الفزاني وهو َ يقول ُ في مقدمة ِ ديوانه ِ الأول (رحلة الضياع) قائلا:
 (لأنّ صادق يكتبُ كلماته طارحا ً كلّ الاعتبارات، وقدْ علمني هذا الكاتب ُ الرائع ُ الكثير في المدّة القصيرة ِ التي عرفته ُ فيها..، لأنّ صادق لا يعرف ُ المجاملة) – المجموعة الشعرية الكاملة ص8.
 (إنّ شعرك َ كلّه، كان َ مرحلة َ إعداد).. عبارة توحي بالقسوة ِ، ولكنها تعني التأني والصبر في الكتابةِِ.. وعلاج النزيف، وقدْ كانت كنبتة ِ الضوء ِ في طريق ٍ وعر ٍ وغامض ٍ لشاعر بدأ قويا ً باعتراف ِ مجايليه،.. كشف َ من خلالها صادق النيهوم عن معدن المبدع، بلْ ذهب الروح التي يتحلى بها كلّ مبدع ٍ جاد ٍ، صاحب المشروع الحقيقي، وقد كانا (النيهوم والفزاني) من خلال هذه ِ التجربة مبدعين ِ كبيرين ِ، وهذا مصدر الجذب ِ في إبداعهما بلْ والسبب في خلودهما معا ً.
حين َ قرأ صادق النيهوم إحدى قصائد الفزاني التي يقول ُ فيها:
أراك َكالغريق ِ، مرهقا ً تدورْ
دوامة ٌ هنا،
وألف ُ موجة ٍ هناكْ
والقاع ُ مظلم ٌ، وموحش ُ الدجى
سيأخذ الدوار ُ يقظتك.. فلا تفيق..،
سيطمس ُ الدوار ُ كلّ ما لديك من قوى الصراع،
يا أيها الغريقْ.
قال َ النيهوم: الشعرُ رحلة ٌ !!


وفي تعليقه على القصيدة الذي يوحي بالتوجيه المهذب قال: (فالرحلات الجيدة تحتاج ُ إلى قدمين مغامرتين ِ، وتحتاج ُ إلى الخبرة ِ بمعالم ِ الطريقِ، والفزاني ما يزال يُجربُ حظه ُ بوسائل أقلّ أصالة، وإذا كان َ الشعرُ الحديث ُيغش ُ حبرهُ بكثير ٍ من الماء – كما قال َ جوتة- فإنّ المرء لا يتوقع ُ أنْ يجدَ عند َ أحد المبتدئين النسبة الصحيحة في أول التجربة..)- المجموعة الكاملة- المقدمة ص13.
 كان َ النيهوم في نقده ِ لشاعرية – الفزاني أكثر َقسوة ًوحدة، تربتها الصدق والموضوعية، وفضاؤها الحرص ُ، حين يصبح ُ الإبداع هوَ المستقبل،..والكلمة وارثة ُ عمر الأزمنة، بلْ عمرٌ بلا انتهاء، والتي رآها صلاح عبد الصبور قاهرة الموت و أطول َ عمرا ً من الحجر، ولهذا خرج َ النيهوم في نقده ِمن النموذج البائد الذي حصره البعض به ِ، والذي لا يتعدى صورة العلامات التي يضعها معلم المدرسة في دفاتر التلاميذ: سيء، حسن، ممتاز، جيد جدا ً، رائع.. إلى أنْ يصبح النقدُ إبداعا ً آخر، كما عبّر َ – ماثيو أرنولد..أوْ إعادة إبداع !!
 يؤكد النيهوم في رؤياه النقدية أنّ كلّ عمل ٍ إبداعيّ يحمل ُ روحه في ذاته ِ. وفي قراءته المتأنية لقصيدة – الفزاني التي يقول ُ فيها:
وحروف ُ الرفض ِ، مولاي الأميرْ
دمدمت كالرعد ِ في قلب ِ السّحاب
فمحال ٌ أنْ أغنّي.. لتنامْ
فأنا السُهد ُ.. أنا وقع المصيرْ
مات َ.. في بغداد َ شحاذ ُ القصور.


قال َ النيهوم: (فالشعر ُ الذي دعاه ُ القديس أوجستين خمرة الشيطان، لابد أنْ يبلغ َ أحسن َ حالاته في أقبية الجحيم، وموهبة الفزاني كفيلة بإرشاده إلى هذه ِ الحقيقة في نهاية المطاف، فقد أثبتت المواهب الراغبة في الحياة أنها مثل عبّاد الشمس، باحث غريزي عن مصادر الضوء ِ، والشمس – في العادة – لا تخطؤها العين المدربة)- المجموعة الكاملة – المقدمة ص16.
«إنّ النقد َ الموضوعيّ النزيه هوَ من باب ِالتقدير ِ الحقيقيّ للشاعر ِ والكاتب ِوالفنّان..)- بيلنسكي – الممارسة النقدية-ص5

في نقد ِ صادق النيهوم للشاعر ِ نزار قبّاني تجيء ملاحظاته النقديّة في صيغة ِ سؤال ٍ هام ٍ:
لماذا الكتابة ُ؟ وإلى أيّ مدى ً استطاع َ المبدع تحقيق المهمة.. والوصول إلى الهدف ؟ وكان َ سؤال النيهوم المثير للجدل ِ: لماذا كتب َ نزار قبّاني أعماله الشعريّة ؟والإجابة جاءت على مراحل زمنيّة، لأنّ عالم َنزار الشعريّ مليء.. ومثير.. وجذاب أيضا ً، والنيهوم أدرك َ هذه ِ الحقيقة، حين َ خرج َفي دراسته لشعره عن دلالات ِ الكلمات ِ إلى الفكرة الأساسيّة التي يؤمن ُ ويقاتل ُ لأجلها الشاعر، ألا وهي َ: أنّ الكتابة َ لعبة ٌ.. لا تخضع ُ للتنظير، وبرأيه: (التنظير في الشعر ِ لا يعنيني.. ما يعنيني هوَ الشعر)(1)..،ولهذا جاء رأي النيهوم واضحا ً أيضا ً: (إنّ شعر نزار أدب غير ملتزم، وأنّه ُلعبة ٌ باهظة ُ الثمن تؤدّى على الدوام لتحقيق مزيد ٍ من اللذة مثل لعبة الشطرنج) (2)، وإقرار الناقد باللذة والنشوة الشعريّة التي قال َ عنها جورج سانتيانا: (وبدون اللذة لا يوجد جوهر الجمال)، دليلُ على صدق ٍ رؤيا الشاعر، وجمال موضوعية الناقد التي أصبحت منهجا ً في تناوله لشاعرية نزار قبّاني.
يقول ُ النيهوم: (إنّني أعمل ُ بغير تعمّد لإيجاد الخطوط العامة التي ظلّ نقاد الشرق يعملون فيها عندما قدروا أنْ يعطوا نزار قبّاني لقب – شاعر المرأة، ذلك َ اللقب غير الواضح الحافل بسوء الفهم)(3)..، ليشير النيهوم من خلال دراسته أنّ النقد قاصر ٌ أمام العمل ِ الإبداعي أحيانا ً، فنزار قباني ليس َ شاعر المرأة، وأنّ هذا اللقب الجاهز لا يصلح ُ لأيّ شاعر ٍ..،فأين َ هذه ِ المرأة في شرقنا الصانع الماهر للأوهام. يقول النيهوم ليؤكد فكرته:
(فقدْ نال َ نزار قبّاني هذا اللقب، كما نالت أجزاء اللغة ألقابها المدهشة في النحو، فأصبح َ الفاعلُ مرفوعا ً داخل باب المرفوعات، واسم(إنّ) في باب المنصوبات،ونزار في باب ِ المرأة، وهذا عمل ٌ غير ودّي يمكن ُ قوله بازدراء، ولكنه لا يستطيع أنْ يفرض َ علينا منهجا ً خاصا ً في دراسة الأعمال الشعرية)(4)، وفي سعيهِ لتأكيد فكرته، يتهم النقاد بقصور الفهم، وسيطرة الأحكام المراهقة، وأنّ العديد من تجارب الشعراء الكبار أصبحت ضحية ً لها النقد الشكليّ الجاهز.. البائس.. والمترهل، وغير المفيد.
 يقول ُ نزار قبّاني:
فبالوهم أخلقُ منك ِ إلها ً
وأجعل نهَدك َ قطعة َ جوهرْ
وبالوهم ِ أزرع ُ شعَرك ِ دفلى
وقمحا ً.. ولوزا ً..وغابات زعترْ


يُعلق النيهوم على هذه ِ المقطوعة الشعرية، مؤكدا ً فكرة المرأة- الحلم عند الشاعر بقوله: (إنّ المرأة هنا ليست امرأة من أيّ نوع ٍ،بلْ مجرد لحظة توهج خاطفة، تحدث في الحلم ِ وحده، وتكتسب ُ جمالها من الحلم ِ وحده، ولا تستطيع أنْ تلمسَ حافة الواقع بأيّ حال ٍ)(5). والناقد ُ النيهوم بعيد كلّ البعد عن ما يسمّيه أ.أ. رتشاردز بالإجابات المختزنةstock response لدى بعض النقاد لأنّه يركز ُ في نقده ِ على ما يسمى بالتفوق في(اللغة والحركة)، لتصبح التجربة الشعرية النزارية لديه خيالا ً، دون َ أن يلغي صدق هذه ِ الحالة الشعرية، وجمال َ إيحاءاتها.
يقول ُ نزار قبّاني:
أُحِبّك ِ
غيبوبة ً لا تفيق
أنا عطش ٌ يستحيل ُ ارتوائي
أنا جعدة ٌ.. في مطاوي القميص ِ
عرفت ُ بنفضاته ِ كبريائي
أنا – عفو َ عينيكِ – أنت ِ،
كلانا
ربيع ُ الربيع ِ، عطاءُ العطاء ِ
أحُِبّك ِ لا تسألي أيّ دعوى
جرحت ُ الشموس َ أنا.. بادعائي
إذا ما أُحبّك، نفسي أُحبّ
فنحن ُ الغناء ُ.. ورجعُ الغناء ِ


ويقول ُ الناقد النيهوم في ملاحظته حول هذه ِ القصيدة: (فالشاعرُ لمْ يكتبْ لكي يقول َ لنا شيئا ً ما على أي حال، بلْ لكي ينقلَ إلينا ذلك الشعور المُبهم عن طريق صوره ِ، المُبهمة، وقدْ حقّق هذا الهدف بأصالة ٍ كلية ِ الوضوح)(6)، وهوَ يعيد ُ التجربة الشعرية النزارية إلى الوهم والخيال، ولا يعيب ذلك الشاعر، فالأدب بمجموعه ِ مُتخيل-كما يقول أندريه مورو. لكنّ عمق الملاحظة،وعمق الرؤية النقدية، تجعل البعضَ يجدها قاسية على شاعر ٍ كبير ٍ بقامة ِ نزار قّبّاني. يقول ُ النيهوم: (إنّ المرأة َ في شعر ِ نزار قبّاني مخلوق غير حقيقي.. إنّ نزار يكتب لذلك َ المخلوق كما ينظر ُ إلى القمر، بعفوية ٍ واستغراق ٍ، وأن ّ الأمرَ كله مجردُ حُلم ٍ شعري حافل ٍ بالتوهج الحسّي الذي يبدو على الدوام عملا ً فاتنا ً موغلا ً في الغموض والرومانسية) (7). ويصبح ُ النقد بمفهوم وثقافة النيهوم، وهوَ يعمل ُ على تفكيك شفرة النصّ الشعري لدى نزار دون َ زخرفة أوْ تعال ٍ، يصبح ُ توهجا ً فكريا ً، وحالة معرفية، الوقوف عندها يُؤسس لمفهوم (نقد النقد)، كما أسّس َنزار قباني قبلهُ لمفهوم (شعر الشعر)، وهوَ يقول ُ: (إنّ نزار لا يكتب ُ هنا شعرا ً للمرأة ِ، بلْ يكتب ُ شعرا ً للشعر ِ).
. « إننا مضطرون َ إلى أنْ نقبل َ نزار قبّاني باعتباره ِ أكبر تراث شعري نما في منطقتنا خلال العشرين عاما ً الأخيرة »(8).
لأنّ نزار قبّاني بكلّ واقعية ٍ وبساطة ٍ شاعر كبير على اتساع ِ الفضاء الثقافي العربي، وأنَّ النيهوم ناقد ٌ ينحاز ُ إلى الإبداع، بلْ يضيف إلى عمر الإبداع الكثير، وأنّه في نقده ِ ليسَ مزاجياً، وغير متحيز، ولا تتحكم ُ فيه أهواؤه، فهذه ِ الأمراض لمْ يسلم منها كبار النقاد في العالم ِ، فهذا الناقد ماثيو أرنولد، في شدّة انحيازه للشعراء الكلاسيكيين، يكتب ُ عن الشاعر الرومانسي تشوسر قائلا ً: (إنّه ُ تنقصه ُ الجدية ُ الرفيعة، رغم ما في شعره ِ من رقة)، ولم يعده ُ من فحول الشعراء كهوميروس ودانتي وشكسبير.

 . « إنّ توقف َ الثورة عن ديمومتها معناه ُ:توقف الحياة نفسها وعدمها»- عبدالوهاب البياتي – تجربتي الشعرية ص79.
الثورة في شعر ِ عبد الوهاب البياتي، رُبما أراد َ الناقد النيهوم أنْ يضع َ هذا العنوان كمدخل ٍ لدراسة البياتي، والاصطياف في عالمه ِ وكونه ِ الشعريّ، وقدْ كان َ الاختيار ُ ذكيا ً، فجعل َ شعر البياتي قائما ً عل فكرة الثورة – صانعة الحياة الحقيقية، والخلاص للإنسان، بلْ إنّ الإخلاص لها،والصلاة في محرابها فريضة ٌ ودَين ٌ في عنق ِ الفنان الحقيقي..، ها هوَ البياتي يقول ُ في كتابه الرائع (تجربتي الشعرية): (إنّ الفنان مُطالبٌ من أعماقه ِ أنْ يحترق َ مع َ الآخرين عندما يراهم يحترقون، أما الوقوف على الضفة الأخرى والاستغراق في الصلاة الكهنوتية فليسَ من صفات الفنان الحقيقي في أي عصر ٍ من العصور)(9). وذلك َ ما أدركه ُ النيهوم وهوَ يقرأ شعر البياتي، ويستغرق في تأمله في ديوانه(الذي يأتي ولا يأتي)،
وهوَ يقولُ: (فإنّ البياتي ما يزال ُ شاعرا ً ملتزما ً محدّد الأهداف بأصالة ٍ نادرة ٍ، وما يزالُ رغم َ الصوفية أكبر أغنية عربية على طريق الثورة ِ والإصلاح)(10).
 يقول ُ البياتي:
البشرُ الفانون َ يولدون َ
من زبد ِ البحر ِ، ومن قرارة الأمواج ِ،
البشر ُ الفانون َ في الظهيرة ِ
يمارسون لعبة َ الحياة
والموتِ في المسيرة ِ الطويلة
يحترقون ليضيئوا شرف َ الإنسانْ
أنْ لا يموت ُ راكعا ً منسحقا ً مُهانْ
كالكلب ِ تحتَ عجلات ِ العارْ
وأن ْ يعيش َ في خطوط ِ النارْ
منتصرا ً، حتّى وإنْ حاقت به ِ الهزيمة.


وقراءة النيهوم التأملية العميقة لشعر ِ البياتي لا تخلو من إعجاب ٍ، بلْْ وانتماء إلى عواصف ِ الثورة ِ التي تنبئ بها تضاريس الأدب ِ والشعر والفنّ، وتبرق ُ بها أصابع ُ وأوتار قريحة الشاعر ِ والفنّان. يقول ُ البياتي: (فالثوري والشاعر يخلقان ِ إنسان َ وشعر َ المستقبل ِ)..، وقد ْ عاش َ النيهوم حالة َ الأمل ِ هذه ِ في كلَ لحظة ٍ،.. لحظة انتصار الإنسان، وهوَ الانتصار ُ الحتمي لدى البياتي والنيهوم وثالثهما همنغواي الذي قال َ على لسان ِ العجوز ِ سنتياغو فيما كانَ يصارع سمكته التي يروم ُ اصطيادها: (إنّ الإنسان َ يُمكن ُ هزيمته ولكنْ لا يُمكن ُ تدميره).. وقدْ رأى النيهوم إنّ الإشارة إلى فكرة انتصار الإنسان عبر فقه الثورة، رغم َ هزائمه ِ، قدْ استمدها الشاعر البياتي من رائعة – همنغواي (الشيخ والبحر).


ولا ينسى صادق النيهوم أبدا ً أنّه ُ أمام َ شاعر ٍ ومثقف ٍ كبير..، غارق ٌ في بلبال ِ العالم ِ حتّى أذنيه ِ، وهوَ يغرس ُ فكره عبر َ فلسفة ِ التمرّد ِ التي وضع َ فصولها وهوَ يُؤبجد ُ فقه الثورة التي ينتمي إليها، في قراءة ٍ عميقة ِ وعظيمة ٍ حاملةٍ لكلّ الفلسفات ِ والملثيلوجيات الإنسانية من الشرق ِ إلى الغرب ِ، من الحلاج وبوذا إلى عمر الخيام وغاليلو وجيفارا، مادامت تحمل ُ الضوء َ والماء َ لشجرة ِ أفكاره ِ، وتتفق ُ مع رؤيته ِ في هزيمة ِ الموت ِ، والمتمثلة في الانتصار النهائي للثورة ِ والإنسان.
 يقول ُ عبد الوهاب البياتي:
أوصال ُ جسمي أصبحت ْ سمادْ
في غابة ِ الرمادْ
ستكبرُ الغابة ُ،
يا معانقي، وعاشقي
ستكبر ُالأشجارْ
سنلتقي بعد َغد ٍ في هيكل ِ الأنوارْ
فالزيت ُ في المصباح ِ لنْ يجفْ
والموعد ُ لنْ يفوتْ
والجرح ُ لنْ يبرأ
والبذرة ُ لنْ تموتْ !!


وفي تعليقه ِعلى النّص ِكتب َ النيهوم: (ومن الواضح ِأنّ البياتي يطرق ُ هنا فكرة النصر ِ النهائي للثورة ِ، فالحلاج ُ لنْ يموتَ لأنّه ُ يؤمن ُ بوحدته ِ مع الله، ويؤمن ُ بأن ّ التفاصيل لا تفنى إلا في ذات الله الخالدة، والثورة لنْ تموت َ لأنها تؤمن ُ بوحدتها مع العالم ِ، وتؤمن ُ بأنّ الفردَ لا يفنى إلا في جسد ِ الشعب ِ الخالد ِ)(11).


في نظرات النيهوم النقدية بحث ٌ مضنٍ لا عن المعنى الذي يوحي به ِ النص فحسب، إنما عن أسرار الكتابة ِ وفقهِ الكلماتِ التي تضيف ُ هذه ِ الذبذبات ِ المغناطيسية للحالة ِ الشعرية ِ و(الفكرة المجردة)و(الإبداع الحي) والتي في وسعها (أن تخصب أعمال الفن الحقيقية)- كما عبرّ بيلنسكي في كتابه ِ- الممارسة النقدية. وجنون البياتي بفكرة الثورة هيَ من وقدات ذهن النيهوم الذي يستميت في إبراز هذه ِ الفكرة بموضوعية كبيرة، ولغة متقنة باعثة على التأمل ِ، طاردة للمفردات المستهلكة.. والأخيلة الخاوية.. وعلامات الاستفهام والتعجب التي يغرسها بعض النقاد ِ في أرض ٍ بور.
 يقول ُ البياتي:
يغنّي عمرُ الخيام، يا أخت ُ
حقول َ الزيت ِ واللهْ
يغنّي طفله ُ المصلوب َ في مزرعة ِ الشاهْ
وكان َ الموت ُ أواهْ
على مقربة ٍ منه ُ، على أطراف دنياهْ


ويُعلق ُ النيهوم بجملة ٍ رشيقةٍ نزيهة ٍ تشكل ُ إضافة ً للنصّ ِ، بقوله ِ: (والبياتي يرى أن ّ عمر الخيام قدْ عاش َ حياة ًباطنية مُخلصة للثورة، وإذا كان َقدْ أغرق َ عالمه في الخمر ِ والمتعة ِ، فإنّ وهجَ الرفض ِ لمْ ينطفيء في داخله ِ قط (12).
 إنّ قراءة صادق النيهوم لشعرنا المعاصر قراءة هامة، وهيَ خلاصة ُ ثقافة واطلاع واسعين، ووعي مُبكر، ومسؤول بسلطة ِ الكلمة ِ والإبداع ِ، القادرة الوحيدة على إضاءة الدهاليز المظلمة في حياتنا بكلّ تفاصيلها..، وأنّ إخلاص وعمق نظرته ِ النقدية منبثق ٌ من حرصه ِ على المبدع ِ والإبداع ِ معا ً..، كان َ يخشى أنْ تتردد َ في فضاءات ِ مدننا صرخة ُ الشاعر – بوشكين في الفضاء الثقافي الإبداعي الروسيّ وهوَ يقول ُ:(نملك ُ أدبا ً ولا نملك ُ نقدا ً).
 وقدْ كان َ الناقد ُ صادق النيهوم مُثابرا ً.. ومُتابعا ً.. بحذر ٍ، ووعي ٍ، وذكاء ٍ، وثقافة ٍ عالية ٍ..!!
___________________________________
هوامش:
* علي الفزاني أحد كبار شعراء الحداثة في ليبيا.
1. ما هو َ الشعر – نزار قباني ص4,
2. نزار قباني ومهمة الشعر – صادق النيهوم ص10.
3. المصدر السابق ص16.
4. المصدر السابق ص18.
5. المصدر السابق ص21.
6. المصدر السابق ص27.
7. المصدر السابق ص31.
8. المصدر السابق ص57.
9. تجربتي الشعرية – عبد الوهاب البياتي ص22.
10. الذي يأتي ولا يأتي – صادق النيهوم ص13.
11. المصدر السابق ص83.
12. المصدر السابق ص 135.

مقالات ذات علاقة

تسكع على أرصفة الذاكرة بحثًا عن الذات

رحاب شنيب

السخرية وذاكرة الجدران في «سجنيات»

عبدالسلام الفقهي

“رسالة الى وطني”.. أبوعون يخاطب ليبيا الحرة بتجارب السنين

المشرف العام

اترك تعليق