النقد

شهوة الانتظار: قراءة في قصائد خلود الفلاح

 

هناك من يمارس الشعر كتابة بصورة يومية وهناك من يمارسه يوميا بصور أخرى غير الكتابة والنوع الثاني تجده مقلا في إنتاجه الشعري المكتوب فبعد شهور طويلة نستطيع أن نقرأ له قصيدة من بضعة كلمات .. وبالطبع سنجد هذه الكلمات القليلة كما الجواهر النادرة مفعمة بالشعر والحياة واللمعان والجمال .. وهذا لا يعنى أن من يكتب الشعر بصورة يومية شعره ضعيف أو هزيل فهناك من الشعراء الكبار المتوحدون مع الشعر أو بالأحرى المدمنون عليه فلا يمر يوما إلا وقد كتب قصيدة جميلة منهم على سبيل المثال الشاعر المبدع سعدي يوسف الذي تحولت حياته في سنواته الأخيرة إلى قصيدة إبداعية يعيشها قبل أن يكتبها فنجد في قصيدته الأمكنة ممتزجة بالتاريخ بأحاسيس النفس العميقة بالتجريب الشعري عبر الاندفاع في مغامرة البحث عن جماليات جديدة لم تطرق سابقا .. ولكن مقابل ذلك نجد الكثير من الشعراء الآخرين الذين يكتبون بصورة يومية بل كل ساعة دون أن يحققوا الإضافة أو ينتجوا الإبداع أو يمسوا الجديد .. ونجد قصائدهم مع احترامي لمشاعرهم ولحبهم للشعر مجرد ثرثرة مملة تكرر ما قيل سابقا أو تصور لنا صور نجد فيها اللون والخط والظل ولا نجد فيها الخيال ولا الشعر.

من الأصوات الشعرية التي لا تكتب كثيرا وتعيش الشعر كثيرا عبر إغراق رأسها بصورة يومية في الكتب قارئة ومتأملة أو عبر تجولها اليومي في مواقع الفضاء الإلكتروني مطلعة ومتابعة للجديد ومتواصلة مع الشعراء والشاعرات في مختلف بقاع الأرض.

هذه الشاعرة هي الليبية خلود الفلاح التي بدأت مغامرة الشعر منذ بداية الألفية الثالثة حيث أصدرت ديوانها الشعري الأول على نفقتها الخاصة بعنوان بهجات مارقة .. وفور صدوره تم الاحتفاء به من عدة كتاب ونقاد ليبيين وعرب .. حيث كانت قصائده نقلة نوعية في القصيدة الشعرية الليبية التي تكتبها المرأة حيث جاء الديوان الذي اعتمدت فيه خلود بصورة خاصة على الحياة اليومية والكلام العابر والصور والمقتنيات التي تحيط بها في المطبخ وغرفة النوم والمكتب والشارع متخذة من تقنية الومضة وموسيقا قصيدة الهايكو اليابانية عتبة تدخل عبرها إلى أجواء قصيدتها.

فالديوان صغير جدا .. بحجم قبضة اليد .. من الممكن أن تحمله في راحتك وكأنك تمسك بحمامة .. ومع كل ريشة في الحمامة تلمسها .. تلمس قصيدة في هذا الديوان الذي يشعرك بدفء غير مألوف وانتعاشة تمس ذائقتك بحنان فتجد نفسك قد تقبلت هذه القصائد البسيطة ذات الكلمات المتداولة .. لا اشتقاقات معقدة .. ولا صور مركبة مبالغ فيها .. كل شيء في القصيدة تجده وقد تصور أمامك . مشط .. ورد .. كراسة ..قلم .. نافذة .. كوب .. أشياء كثيرة منها الحية ومنها التي من الجماد ولكن في القصيدة الكل يتحول إلى حياة أبدية .. بها كل شيء .. يومها يطول .. وشهرها يقصر .. وساعاتها تتمدد .. وكل شيء في النهاية يجتمع في نواة مضيئة تتخلق في القلب وتجعل ما يدق به ليس دقات يجسها الطبيب بسماعته إنما أناشيد تتردد في كل أرجاء الجسم ولا تتوقف.

لقد كان ديوان بهجات مارقة الذي طبعته دار الحضارة العربية بالقاهرة من الأشياء السارة التي قدمتها لنا الأخت خلود ففي قصائده اكتشفنا شاعرة مختلفة عن ما قرأناه لشاعرات ليبيات أخريات كان موضوعهن الأثير هو التعبير عن النفس بكلمات رومانسية والصراخ باحتياجاتها الجسدية والعاطفية أو كتابة قصائد تستدعي الماضي وتتغنى بالحنين إليه وهذا لا يعني أن قصائدهن ليست جميلة .. لكن أقصد أن الموضوع واللون الذي جاءت به خلود مختلف عنهن قليلا ..وهذا لا يعني أن خلود لم تتغنى بتلك التيمات المعتمدة على احتياجات الحياة .. لكنها فعلت ذلك بطريقة مختلفة .. نقرأ لها مثلا قصيدة صدرت ضمن ديوانها الثاني الصادر بعد بهجات مارقة بسنوات بعنوان “ينتظرونك” فنجد البوح بالاحتياج واللهفة والانتظار وقد تصورت في صالة وحائط وبعض المأكولات والفواكه مجيبة في قصيدتها عن سؤال من الآخر يفترض أن يكون كالتالي ماذا تشتهي لي أيها الحبيب؟ لتجيبه القصيدة قائلة:

في الشتاء القادم

سأشتهي لك

صالة

لا تتجاهلك مقاعدها

سأشتهي لك

حائطا يواريك

سأشتهي لك

عنبا وخبزا وجبنا

سأشتهي لك

برتقالة تضئ

ولقد كان في مكان كلمة عنبا كعكا فغيرتها كون أن الكعك يلائم القهوة أو الشاي وعنبا من وجهة نظري هي الأفضل والأقوى إبداعيا لما يحمل العنب من دلالات شعرية ودينية وغيرها وأعرف أن الشاعرة خلود لن تعترض على التعديل البسيط لأنني عندما أقرأ قصيدة تعجبني وهذه من عادتي أتحول أثناء القراءة وكأنني كاتبها وهذا نوع من التوحد يحدث بين المبدعين بتلقائية ويتم القبول به دائما.

في هذه القصيدة يمكننا أن نعيش حالات شعرية بصور مختلفة تنطلق من جميعها من حالة الاشتهاء والتمني فكلمة الاشتهاء كلمة شعرية كون الشعر عبارة عن حالة اشتهاء دائمة فحينما نكتب القصيدة من الوجدان تكون قد اشتهيناها أولا ورغبناها وإلا ما قمنا بالكتابة والبوح ولم تقع الشاعرة هنا في شرك الكلمة الأخرى التي لو وضعتها لضعفت القصيدة وهي كلمة سأتمنى فالاشتهاء يعطينا نفس معنى التمنى لكن بشحنة شعرية أكبر أي يربط التمنى بالرغبة والحب وعملية الاشتهاء هي مشاركة للآخر فيما يحب ويكره وهي توحد أبدي معه حيث جاءت الشاعرة بالزمن الذي يتم فيه هذا الاشتهاء وهو الشتاء القادم وكلمة الشتاء هنا تعني القرب والحميمية وتؤيدها الصالة التي لا تتجاهلك مقاعدها الصالة الدافئة التي تدخلها مكرما معززا مرحبا بك مثل صالة العرس أو صالة الشعر وحيث يكون الاحتفاء والفرح يكون الحسد والعين ويمكننا ان نلمس ذلك من خلال كلمة واحدة جلبتها الشاعرة في قصيدتها ينتظرونك وهي سأشتهي لك حائطا يواريك والكلمة هي يواريك والمواراة هنا محافظة على هذا الكنز الثمين من العيون ومن الحسد ومن هبة النسيم وهذا الحائط ليس سجنا أو غيره إنما حائط وحدة وتأمل وظل وحماية من رياح الزمن العاتية التي تهوى صنع الفراق وتصديره.

ومادام هناك صالة ثم حائط يواريك عن رواد الصالة فلابد أن يحضر الطعام وهذا الطعام طعام بسيط يليق بالشعراء ولا يزعج في الهضم ولا يلوث الأيدي التي تكتب القصائد عنب خبز جبن وتستمر المسامرة في خيالنا بين حبيبين خلف جدار حتى غروب الشمس وحلول الظلام وهنا يأتي دور الشعر .. حيث يتحول الاشتهاء إلى شيء يؤكل وينير فتختم الشاعرة كلمات قصيدتها بجملتين:

سأشتهي لك

برتقالة تضيء

ومن هنا يمكننا ان نقول ان الشعر لا يتعارض مع العلم ففي قشور البرتقال كحول والكحول قابل للاشتعال خاصة إن اشتعل بواسطة كبريت الحب المنتج من القصائد الحقيقية ذات الكلمات القليلة الظريفة المموسقة بعفوية قلما عثرنا عليها .. مموسقة كما تموسق الأشجار بأوراقها وغصونها وجذوعها الرياح الخفيفة التي تصلها من رحم المجهول.

في ديوان ينتظرونك العديد من القصائد الوامضة بالشعر والحياة أقترح منها هذه المختارات وأترك لكم التذوق والتفاعل معها:

في المسافة الصافية

بين ظلينا

نمت حديقة ظريفة

لأنهم أطلوا

من الشرفة الخطأ

حرموا أنفسهم

روعة المشهد

في نورها الثلاثين

عانقت

قمرا وطائرة ورقية

الصحون الفارغة

ترقص

على رؤوس الأصابع

ابتهاجا

بالغداء

الصحون الفارغة

في حوض الغسيل

تصطك

من البرد

حين أفقد ماء الورد

حين أفقد رائحة العشب

أتأهب للبكاء

عازف البيانو

يقسم الترانيم

إلى:

حقول

وفراشات

ورتابة

الحديث عن الشعر أو شرحه عديم الجدوى ويختلف من قارئ أو كاتب لآخر .. والأفضل في الشعر أو الإبداع بصوره جميعها أن نحسه ونعيشه ونتعايش معه وفيه ومن هنا يمكننا الكتابة عن كل قصيدة أكثر من ورقة ومن بحث وفي النهاية سنترك ما كتبنا عن النص و سنعود إلى القصيدة متجاهلين ما كتبنا عنها جانبا ..نعود إليها لنتذوقها بحواسنا المادية والمعنوية الظاهرة والباطنة ..وعبر هذا التذوق ستتحول القصيدة إلى نسيج من أنسجتنا قد نموت نحن لكنه سيبقى هو حي فينا .. انظروا للأزهار النابتة على القبور بعشوائية من دون أن يغرسها أحد .. إنها القصائد التي قرأها الإنسان في حياته .. فمن أحب الورود فليحب الشعر ويعشقه ويجعله من أولوياته كضروريات الحياة .. وسيظل الشعر سر الأسرار .. غير القابل للحل .. سيظل أحجية أدبية لا نعلم من أطلقها في أرواحنا .. وسيستمر الإنسان في حل هذه الأحجية المتشابكة .. كل شاعر يضع بصمته .. كل شاعر يساهم في العثور على مخرج من هذه المتاهة التي ليس لها باب دخول ولا باب خروج فالشعر فضاء شاسع عصي على المستكشفين والحواة والساعين على حل لغزه ومعرفة سره المقدس دون عبادة أو إله.

مقالات ذات علاقة

ملحُ الفكرة !!

عبدالباسط أبوبكر

الرستميون يعودون في رواية

محمد الأصفر

إزميل البوح

المشرف العام

اترك تعليق