النقد

شاي بلا رغوة

قراءة نقدية في أشعار الشاعر الليبي سالم العوكلي

شاعر كلما جالسته أو قرأت أشعاره استفدت منه.. هو الشاعر الليبي سالم العوكلي المتمتع بثقافة واسعة تلم بكافة الأجناس الأدبية خاصة المسماة حداثوية وما بعد بعد حداثوية. كانت بداية العوكلي الفعلية في أواخر ثمانينات القرن المنصرم وإن كانت بذرة الشعر قد ولدت معه مذ أن أنجبته أمه على حصير سعف في قرية لالي.. وهي قرية من أعمال مدينة القيقب التاريخية ذات الوجود القديم في مدونات التاريخ والآثار وصاحبة اشجار القيقب المعروفة عالميا والتي لها علاقة بالفحولة والنضج والقوة حتى أن دولة كندا وضعتها أيقونة وسط علمها.. هذه القرية تتخللها وديان متشعبة وسفوحها خضراء طوال العام وزاخرة بالغابات والمراعي.. ومن الغابة تعلم كيف يحتطب متجنبا الشوك والحشرات السامة (شعر التفعيلة والعمودي وكل ما عفى عنه الزمن).. من الغابة عرف كيف تقطف الأزهار الجميلة بإصبعين فقط (التكثيف وجودة الانتقاء) ومن الغابة تعلم كيف يوقد لنا نارا حطبها جففته شمس الربيع ولا يدخن.. ومن الغابة عرف حياة الغابة وقانونها الفطري الواقعي.. فالحياة في الغابة هي حياة براري واختلاط عفوي.. ينمو الإنسان في الغابة ذكرا أو أنثى دون عقد من أي نوع.. ففي الغابة يوجد الإرتواء.. الوادي يسقي البشر.. الحشرات والبهائم تتسافد أمام السماء.. في ضوء النهار أو في ظلام الليل.. الأصوات المنبعثة كلها شجية.. عصافير.. خرير.. غناء طيور.. مواء.. عواء.. نعيب.. نهيق.. كل هذه الأصوات تصنع سيمفونية الحياة الجميلة.. في الغابة يكون الحصن.. الظل من الأشجار الوارفة والفراش من العشب الأخضر.. والطعام من الكمأ وبيض الحجل وحليب الماعز والبقر.. والمزمار يعزف ألحانا لا تتكرر أبدا.. وغناوي العلم العفوية يتبادلها العشاق علانية وتكتب لذائذ الحياة على سحاب يزحف ولا يبتعد.. من الغابة يمكننا الدخول إلى عوالم سالم العوكلي الشعرية والأدبية بصفة عامة حيث أنني لا أستطيع أن أعتبر سالم العوكلي شاعرا فقط فهو كاتب مقال جيد وناقد ممتاز يتشمم النص الجيد ويضيئه ويمنحه خفقات بهيجة من روحه.. في ربيع 2004 كنت اسكن بيوت شباب شحات وكنت قد بعثت له مخطوطة نواح الريق مع احد الاصدقاء بعد يومين او ثلاثة اتت به مشاغل الحياة الى مدينة الابرق كان يوصل صديق الى المطار فواصل السير وزارني في بيوت شباب شحات وعندما لم يجدني ترك لي ورقة بها كلام جميل عن رواية نواح الريق يصفها انها بها كل شيء مثلها مثل هذا العالم.. قرأت لسالم العوكلي الكثير من القصائد المنشورة وغير المنشورة وجالسته عدة جلسات وكانت هذه الجلسات كلها حديث عن الأدب.. كنت أسمعه جيدا لأنني أفهمه.. اتفقت معه في كثير من القضايا واختلفت معه في كثير من القضايا.. عرض علي روايته بنات الغابة ووجدت بها فصلا عن احداث كتبت عن قصة له مع فتاة في طرابلس واقترحت عليه ان يفصل هذا النص عن الرواية لأن دخوله الرواية إقحام.. فشن جيّب طرابلس للقيقب.. وبنات طرابلس ليس كبنات القيقب ولالي.. ( فكنك ) تختلف عن ( خيرك ) و( من تفضل ) غير ( اشكون قاعد ماجاش.. ) والمثرودة غير الرشدة أو الرشتة كما يكتبها الألسني خشيم.. تحدثنا عن كتابته بعض المقالات عن أصوات نسائية كتاباتهن من وجهة نظراحمد الفيتوري عادية ولا تستحق عناء القراءة والكتابة عنها وغمزني غمزة بدوية وغيرنا الموضوع.. هو صديق جيد وكريم.. هو من الناس التي عندما تعطيك عشرة دنانير لا تقول خير من وجهه و تقول وجهه خير من مليون دينار.. لأنه يمنح المال من القلب.. يجيد طهي المكرونة وإعداد الشاي والقهوة.. وفي مقر جريدة الشلال أعد لنا أكثر من وجبة لذيذة.. أحبه كثيرا لأنه ذات مرة طلبته فتاة تحبني في نقود فأعطاها كل ما في جيبه وهو ثلاثة دنانير.. لي معه الكثير من الذكريات الجميلة صحبة الأصدقاء.. في بنغازي وطرابلس ودرنة والبيضاء وفي مدن خيالنا أيضا.. عندما بدأت الكتابة عام 1999م كنت لا أحبه يقولون لي بعض من ظننتهم أدباء أنه صعلوك وغير ملتزم وشعره هراء غير موزون وبه كلمات تخدش الحياء.. وكنت أظن أن الشعراء أناس يلبسون جيدا وينطقون اللغة دون أخطاء وملتزمون دينيا وخلقيا وقوميا الخ لائحة الإلتزام.. عندما خالطت الوسط الثقافي قليلا وجدت أن الشعراء هم الصعاليك وهم من كانوا من أمثال سالم وأمل دنقل.. والأخرون جماعة الحضور الفسيولوجي والبذل والكرافتات والكروش والمؤخرات محض زوامل متملقين متكلسين لا علاقة لهم بالأدب أساسا فما بالك بأرق كائن الشعر.

لا ادري اين التقينا اول مرة.. لكن في إحدى الندوات كنت اقرأ نصا طويلا طبعا بالقوة على الشاعر احمد بللو وصادف مرور الشاعر سالم الذي توقف واستمع الى ربع النص الأخير

وهذا جزء منه :

هكذا هي الأيام.

لا ندري ما تدس لنا.. عندما كبرت لم يمنحن أبي شيئاً. أوصاني: إن وجدت التمر في القمامة كله.. وجدت القمامة ولم أجد التمر.. بعد حين لم أجد القمامة.. ووجدت تمراً (بلاستيكياً) سككت منه خاتماً.. كلما لمسته ضاق على إصبعي.. بترت إصبعي.. التقفه كلب.. نبح.. ثم ابتعد إلى مكان نظيف.. هل أصلنا كلب.. أم قرد. أم بني آدم !!

 وقال لي هذا هو الأدب الحقيقي يا أصفر يا مفيش منه وتوطدت علاقتنا وتبادلنا الكتب والمسودات والكؤوس بمختلف مشاربها ونحلها ههههههههههههههههههههه وعرفت قيمة هذا الشاعر الذي عرفته عندما وجدته يفهمني كثيرا ويشجعني على الجنون.. ذات ليلة قال لي هناك صديقة قديمة من بنغازى هي كاتبة وكانت تراسلنى زمان وخطها جميل وتكتب باليسار واخرج حقيبة قديمة عرض علي بعض رسائلها وعرفت الخط فورا وقلت له هذا خط يميني وليس يساري واغلقنا الموضوع بعد ان بصق من النافذة وتمتم ريت الوشّة.. واخذنا الحديث فيما يهمنا من ادب.. اكثر الجيل الذي ظهر في الثمانينات والتسعينات استفاد كثيرا من مجلة الناقد وتأثر ببعض كتابها خاصة نجمها صادق النيهوم ووكتابها المهمين انسي الحاج وفاضل العزاوي وغيرهم واستطيع القول ان هذه المجلة قدمت كثيرا للثقافة الليبية وتأثر بها الكثير من الكتاب المعروفين والذين انتهى اكثرهم الآن.. لكن سالم لم تعلمه مجلة الناقد الكتابة وان صقلته قليلا ونشرت له بعض قصائده الاوائل صحبة جريدة اخبار الادب المصرية والذي علمه الكتابة هي جدّته الحياة وما بها من امكنة موحية وأزمنة رابضة على الشفرات.. هو مثلي زار تايلند لكن قبل ان يبدأ الكتابة.. فمن هدوء البوذيين ويوغتهم ومساجهم اكتسب مهارة التركيز والاسترخاء وغرس قبل التمهل في كل سطر يقرر ان ينفثه على الورق.. لم يعتمد على التجارب الحسية ودفن وجهه في الورق فقرأ الكثير من الروايات المترجمة خاصة روايات ميلان كونديرا وكتبه النقدية.. كذلك قرأ كتب الفلسفة التي حببه فيها صديقه الدكتور تلميذ الفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوي الدكتور نجيب الحصادي.. أيضا لصداقته للشاعر احمد بللو والشاعر منصور العجالي والشاعر عبدالسلام العجيلي أثر كبير في تكون وجدانه الأدبي الرصين والمتمرد عبر الجدل وتبادل الخبرات والنصوص الذي يحدث بينهم واجتماعهم يوميا عندما كانوا يصدرون جريدة الأفريقي في بداية التسعينات ثم الشلال فيما بعد..

من خلال هذه المعارف والمخاضات الانسانية ولد شعره صاخبا متمردا على اللغة وغوايتها المفخخة بالمحسنات البلاغية وسحرها الخاسر ابدا.. منحازا إلى الصورة الشعرية الواقعية فمن خلال قصيدة واحدة نستطيع ان نرى شوارع درنة نابضة بالحياة دكاكين تفتح وتقفل.. سكارى يترنحون.. فتيات تنظر من الشبابيك وتلوح لعشاقهن.. شاة مذبوحة في دكان جزار.. رواتب تتأخر.. ماء يجف.. كبت.. بدو تتصارع على مناصب المدينة.. شعره يقدم تجربة الحياة كاملة بما فيها من حب وفقر وغنى ومراودات ومطلقات يبحثن عن نصيب جديد كالحديد وجوامع واسواق وكرة قدم ومصارف مالية ومياه سوداء.

رغم ان الشاعر قد نشأ في الغابة إلا أن الغابة دخلت في شعره موضوعا ولم تدخل تكوينات ومحتويات.. لم تدخل بحذافيرها و صخبها كما في نصوص القاص المبدع احمد يوسف عقيلة.. فالشاعر سالم انتقى من الغابة ما يريد.. فتاة جميلة تحبه.. ارملة تضاجعه وقت جنازة.. سرير على حافة مأتم.. التقط المفارقات الأكثر كوميديا سوداء.. التقط الورّاد الذي يوزع الماء على البيوت ومع الماء رسائل العشاق.. التقط من الغابة الشعر وترك غير ذلك لأهل الإختصاص.

اختلف معه في الموسيقى.. هو يحب فيروز وسمى ابنته الوحيدة باسمها ودائما يسمعها ورسمها وعلقها في مربوعته بينما احب انا شاكيرا واحب اغاني المرسكاوي واحب سماع الزمارة.. والذي لاحظته أن الأغلبية تحب فيروز وام كلثوم.. وطبعا في السياسة لا أمانع في الموافقة على رأي الأغلبية.. لكن في الفن لا أحب الإجماع وحيثما كان الإجماع على قالب فني كان الغباء.

لسالم العوكلي ثلاث دواوين مطبوعة مقعد لعاشقين.. سرير على حافة مأتم.. ولالي.. ومقعد لعاشقين به قصائد جميلة بها شعر جديد مختلف ينتج اليومي ويسرده حيا مؤثرا.. وقصيدة مقعد لعاشقين اعتبرها اجمل قصائد العوكلي في هذا الديوان وقد تأثر بها عدد من الشعراء الشباب خاصة الذين ظهروا في حقبة التسعينات مثل رامز النويصري وخالد درويش.. اي ان هذه القصيدة مدرسة كقصيدة المشواشي التعيس لعبدالسلام العجيلي وقصائد الماغوط وسعدي يوسف.. وقصيدة مقعد لعاشقين تناولها الكثير من الكتاب والنقاد الليبيين ومازلت اذكر دراسة قام بها الناقد منصور العجالي ووصفها بالسجع البصري واوافقه على ذلك لكن اضيف ان هذا السجع ليس صورا يرميها الشاعر هكذا عبثا لكن هذه الصور محملة بكثير من الهموم التي يعانيها الانسان وهي صور متوالدة و معبرة عن الحالة وعاكسة لنفسية صاحب الصورة في تلك اللحظة الشعرية الذروة.

ولنقرأ الآن شيئا من القصيدة ونلاحظ ما فعلت بنا هذه القراءة وماذا استدعت لنا :

صحراء تتورم في الخارطة

مدن تبحث في جيوب الغيب

عن مفاتيح القرن

شوارع تضيق بدخان سجائرك

شرفات مواربة

تهذي برذاذ الغسيل

على الرصيف تنحني

لتعبر اسفل اللحم المعلق

الفقرات السابقة تلخص لك حالة المكان.. التورم يستدعي لنا الزيف.. الصحراء الجفاف والعطش المادي والمعنوي.. مدن تبحث في جيوب الغيب اي ان المكان ليس به اي تخطيط وكل شيء يترك للصدفة ومفاتيح القرن الجديد من علم وحضارة وحب للحياة ليس واضحا امامنا.. علينا ان نمد ايدينا في جيوب الغيب علنا نجد هذا المفتاح.. اي الحل نبحث عنه خارج انفسنا وهو هزيمة مؤكدة وافلاس محتوم.. انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.. والسبب هو الضيق والتضييق.. حتى الشوارع الخالية تضيق بدخان سجائرنا.. شرفات مواربة.. مواربة تعني التلصص والسرية والخوف وعدم الاطمئنان.. الشرفات حزينة جافة ورذاذ الغسيل ينعشها وهي لا تصدق فتصير تهذي.. لكن هذا الرذاذ تلوث بحضارة كيماوية صابون بوتاس وهو غير رذاذ البحر او المطر او الندي.. كلمة الغسيل ايضا لها اكثر من معنى ورمز واقترانها بالرذاذ اضفى على القصيدة نفحة شعرية كغيمة مطر صيفية تظل وتروي وتلطف وجه الأرض المحترق.

على الرصيف تنحني

لتعبر أسفل اللحم المعلق

الرصيف علامة البؤس والانحناء هو الخنوع واللحم المعلق هواللحم الوطني غالي السعر الذي لا يمكن للفقراء شراءه.. ايضا النساء الوطنيات الممتنعات.. أيضا الجثث المشنوقة والممثل بها في كل أرجاء العالم.

يصف الشاعر الشارع او المكان فيقول :

ملصقات على الجدران

عمال على هامش الرزق

يستنزفون فحم الأراجيل

أحذية ايطالية

لا تجيد لغة شوارعنا

عشاق يتظاهرون بالقرابة

وقبل مؤجلة الى القرن القادم

اولاد يدفعون الى الحلم

عربات التبغ

وبنات فرحات بنهودهن الصغيرة

هواتف ساخنة حتى الصباح

في انتظار حل ازمة السكن

مآذن

تعد الصابرين بقيامة هادئة

و فقراء يؤدلجون الفشل

ويكتفون بمدح الفحولة

هويّات متحفزة في الجيوب

وانت في اخر المقهى

تلعن سلسفيل الدولة

لأن الشاي بلا رغوة

الشارع هنا جدرانه تغطيها الملصقات وهذه الملصقات هي اعلانات وفيات وملصقات دعائية لدورات تعليم كمبيوتر ودكاترة زائرين ومطلوبين للشرطة أي أن هذه الملصقات ليست فنية أو ثقافية.. يجلس تحتها عمال وطنيون ووافدون يعيشون الفقر ويحرقون صدورهم بفحم النرجيلة انتقاما من هذا الزمن الذي همشهم ورمى بهم الى قمامة الرصيف.. أحذية إيطالية لا تجيد لغة شوارعنا.. وهنا أرى أن لغة شوارعنا هي الحفر والمطبات والبالوعات وأرى أيضا أن هذه الأحذية ذات الكعب العالي لبستها بدويات لا يجيدن المشي بها.. خاصة المشي الكعبازي الذي يهتز معه الجسد من الرأس حتى القدم..

عشاق يتظاهرون بالقرابة

هو نتيجة الموروث القديم المكرس للسرية..

 وقبل مؤجلة للقرن القادم وهنا نجد بعض الافتعال ففي هذا الوقت القبل لا تؤجل وغير قابلة للتأجيل بتاتا..

أولاد يدفعون إلى الحلم

عربات التبغ..

 وهذه الشطرة تستحضر لنا الأطفال الصغار الذين يبيعون التبغ نتيجة ظروف أسرهم الأقتصادية وقد قرأت قصة تشيكوفية جميلة بعنوان بائع التبغ للصديق القاص محمد بالقاسم الهوني..

وبنات فرحات بالنهود الصغيرة

وهذا التقاط جميل لبنات سادسة ابتدائي واولى اعدادي وهن يمشين ويثرثن ويستقبلن اولى المغازلات..

هواتف ساخنة حتى الصباح..

 في انتظار حل ازمة السكن..

وهو عرض لقضية اجتماعية قد تكتب في مقال مفصل طويل والشاعرهنا اختصرها لنا في جملتين وسخونة الهواتف هي سخونة اعصاب وسخونة حرمان ويمكننا اسقاطها على اي معنى نريد.. حتى كلمة الصباح هنا تعطينا معنى حتى وجود الحل.. فالصباح دائما يرمز الى نتيجة لأنه ضوء.

مآذن

تعد الصابرين بقيامة هادئة

وفقراء يؤدلجون الفشل

ويكتفون بمدح الفحولة

وهنا لا ينسى الشاعر ان يلم بالحياة بكافة جوانبها وحتى الجانب الديني حيث الجوامع منتشرة في اغلب الأحياء تدعو الناس إلى القناعة والصبر وأيضا الى العمل.. وهنا يقدم لنا الشاعر النموذج غير العملي.. اي النموذج الذي يدعو الى الرضى والصبر والقناعة.. وفي نفس الوقت يعيد تقديمه من خلال الفقراء الذين لا يثورون على اوضاعهم ويعملون من أجل تحسينها ويكتفون بالثرثرة وعرض اسباب فقرهم دون ان يعالجونها عمليا اي بالعمل وبذل الجهل.. ونتيجة كثرة الكلام والفراغ يعود الفقير إلى البيت ليدفن فشله عبر الجنس الذي يزيده فقرا.. وهناك مثل شعبي لا اذكره الان لكنه معروف يتحدث عن سبب كثرة الانجاب من صغر البطانية او الفراش.. في اليوم الثاني يعود هؤلاء الفقراء الى ظل سور ويتفاخرون بفحولة ليلة البارحة.

هويّات متحفزة في الجيوب

وهذه الشطرة تعكس حالات التفتيش من كافة السلطات و التي تحدث احيانا في البوابات والمقاهي وحتى الشارع.. اوراقك يا شاب.. اوراقك يا حاج.. ايضا هناك كثير من الاجراءات تحتاج الى الهوية فهي تستخدم كثيرا بصورة يومية.. لكن كلمة متحفزة.. اختصرت الأمر وخصت الهوية بطلبها في اي لحظة من اجل التأكد بأن حاملها غير مخالف وغير مشبوه.

وتصل القصيدة الى ضمير مخاطب يعود الي ذات الشاعر..

وانت

في آخر المقهى

تلعن سلسفيل الدولة

لأن الشاي بلا رغوة

ولأن الحياة التي يراها الشاعررديئة.. فحتما سيكون كل ما فيها ردئ من تبغ وقهوة وشاي.. والشاي يتعلق بالمزاج فهو ليس شراب ارتواء أو شبع إنما شراب دفء وحميمية وتنبيه.. فالاعتداء عليه أو غشه من قبل مؤسسة السلع التموينية هو اعتداء على مشاعر الإنسان العميقة.. والشاي بدون رغوة كالفاكهة النامية في بيوت بلاستيكية بدون نكهة.. والرغوة في مفهوم الشاعر شيء عظيم عاشه في الغابة وهو يرى جانبي الوادي.. وهو يرى الحيوانات وهي في قمة لذتها الجنسية.. وهو يرى رغوة الصابون عندما تغسل الفتيات الملابس في حاشية الجدول.. وعاشه في المدينة عندما رأى رغوة موج البحر ورغوة مياه الشلال وهي تتهاطل على الطين المعشوشب وعندما رأى الأطفال وهم ينفخون الانابيب المغروسة في علبة مملوءة برغوة الصابون منتجين فقاعات تتشكل على تكورها الشفاف شتى صور الحياة.. الرغوة هي روح البلل.. هي شيء مهم.. اللبن دون رغوة غير مستساغ.. حليب الصباح دون رغوة غير لذيذ.. المكياطة دون رغوة شيء بشع.. والكوبتشينو ان كان خاليا من الرغوة فستغرق حبيبات الكاكاو المرشوشة على وجهه الجميل.

ولا نعتقد ابدا ان المرتكن في اخر المقهى الشخصية الراضية المهزومة اذ يلعن بسبب عدم وجود رغوة في الشاي لان نوعه سيء ولا يوجد غيره تستورده الدولة هو التفات الى قضايا تافهة.. بل هو التفات قوي لأكبر قضية تمس عصب الانسان.. فتركيز الشاعر على مزاج الانسان عبر مشروبه الليبي المفضل والمعروف لدى كل العائلات الليبية في الشرق والغرب والوسط والجنوب والشمال هو تلميح ذكي لمنح النص خصوصيته المحلية المتحولة إلى عالمية عبر هذا المشروب الدولي المعروف في كل انحاء العالم.

الرغوة هي الهشاشة الظاهرية لكنها المتانة الداخلية.. فلا تظهر الرغوة إلا نتيجة ارتطام أو هطول.. مثلها مثل الحياة التي لا تتوقف وتمطر دقائقها دافئة وباردة غنية وفقيرة على الكل.. هذه الحياة التي نحبها لأنها لا تمطر سوى الدقائق الحيّة.. أما الدقائق الميتة فتمنحها غنيمة مميتة لتفاهة الأمكنة اليابسة الخالية من الرغوة.

ويمارس الشاعر لعبته في التهكم على الزيف والسرية والادعاء.. فحتى الفتيات المتظاهرات بالفضيلة والأدب يجذبها جوعها الجسدي لمنح نفسها في حجرات القياس.. للحبيب الحب من بعيد وللعشيق خاصة ان كان وافدا او غير معروف الجسد في حجرات القياس على انغام المرايا المنفرجة والمحدبة والمتقعرة قعرا..

فتاتك المستحيلة

تهدر جسدها في حجرات القياس

والخمرة المغشوشة

لا تكفي لغيابك

ما ان يراك الاخرون

حتى يتجرعوا قامتك

ويترنحو

عربات فارهة

تسرق الفتيات من شرك القصائد

وتستمر القصيدة على نفس المنوال

الى ان تصل الى مشاهد موسيقية آسرة غاية في البساطة والروعة

تقدم الهم اليومي على طبق رقيق :

في جيبك قائمة مشتريات

في رأسك قائمة ممنوعات

وفي يدك ساعة معطلة

وخاتم يرد عنك المعجبات

عموما قصيدة مقعد لعاشقين طويلة تمنحنا القليل من المتعة والكثير من الألم تعكس صورة حيّة للمجتمع عبرمعاناة شاعر من الزيف والتضليل والخوف والإدعاء.. تقدم لنا باناروما لكتلة أحاسيس مخنوقة في إنسان.. خروجها وتحررها يسبب الألم وبقاءها محبوسة عذاب كبير.. الشاعر يلعب لعبة التحول منطلقا من شارع الى شارع من مهنة الى مهنة.. انسان متشكل عبر الكلمات يخلع ثوبها ويلبس ثوبا اخر.. لكل معاملة مع الاخر ظروفها.. احيانا نراه زوج يحضر قائمة المشتريات للبيع.. واحيانا عاشق لفتاة تفضل عليه من لديه كرسي وثير في سيارة مكيفة ولا تكترث لمعاناة الكلمات وفهمه للأدب.. الشاعر يصيغ حياته في الخيال فتصدمه الواقعية.. لكن لا ينقاد إليها.. لأنه فقير.. الواقعية تريد المال.. والمال لا يكسبه شعراء الكلمات.. لكن شعراء الشعارات قد يكسبونه حتما مغلفا بلعنة نتنة.

لا أستطيع الإحاطة بكل ما كتب الشاعر سالم العوكلي فمن ديوانه مقعد لعاشقين تناولت بعضا من قصيدته السابقة ( مقعد لعاشقين ) ومن ديوانه الآخر نالت اعجابي قصيدة لالي.. لن اتكلم عنها الآن إلا القليل.. فبداية القصيدة وهي كونديرية بها عبق من بداية رواية الحياة في مكان آخر لميلان كونديرا الذي يبدأ روايته على ما أذكر بعبارة تقول لا أدري أين حبلت بي أمي.. على مقعد في حديقة باردة أم في غرفة بإحدى شقق براغ.. وميلان كونديرا تأثر به بعض الكتاب الليبيين وخاصة الشاعر مفتاح العماري والقاص الشاب حسن بوسيف وسالم العوكلي هنا يبدأ قصيدة لالى وهى القرية مسقط رأسه فيقول :

في لالي

على حصير لم يباركه أحد

قرب حوش الحطب

المهيأ للرحيل

شاء الليل

أن أستأنس العالم

في هودج من البكاء

دون قابلة

أو زغاريد

كان ممكنا

أن تخطئ النطفة العجلى

وتسيل على الأفخاذ

كان ممكنا

ان يمر الليل دون شهوة

في المقاطع السابقة صورة بصرية لعملية ولادة عاشتها الأم في وحدة على حصير سعف دون وجود أي نخلة تهزها أو أنيس يساعدها في قطع حبل السرة أو زغاريد تخفف عنها الألم وتشاركها فرحة السلامة.. الولادة زمنها الليل.. مكانها حوش مشيد من الحطب الذي سوف يرحل إلى قيامة النار.. البيت بيت رعاة رحل مؤقت مهيأ للرحيل صوب العدم.. انجبته امه وحيدا بعد نهار قاس من الحصادة والاعتناء بالحيوانات..

ولادة صدفة لم يخترها هذا الانسان.. يرمم الشاعر هرم الاقناع الذي تهاوى معظمه بعبارة ريبية و تشككية وهي ( كان ممكنا )

ان لا يحدث حمل وتخطئ النطفة الرحم.. هذه العبارة تحيلنا الى شيء اسمه الصدفة.. تعلن لنا أن وجود هذا الشاعر في هذا الزمن صدفة.. والشعراء الحقيقيون هم من يعيشون في غير أزمانهم.. كان ممكنا.. كان ممكنا.. هذه اللازمة او المتوالية تتردد في اغلب فقرات النص.. تمنحنا احساسا بعدم الثبات.. احساسا دائما بضرورة التغير.. باعتبار ما هو كائن وهم قد لا يكون.. تمنحنا مراوحة أبدية بين الصواب والخطأ وترمى بنا في حضيرة الاكتشاف.. هى عبارة تأرجحية.. تنطلق ثم ترتد الى الوراء لكن لا تعود إلى منطقة البدء أبدا.. قصيدة سالم العوكلي بوجه عام مثل القصة القصيرة جدا.. تسرد لنا لحظة الحبل.. ولحظة الولادة.. ولحظة التكون ولحظة الوجود الحالي.. تسرد لنا كل الحياة الآنية بعد أن تضعنا في أتون بعيد يجبرنا على الاقتراب من كلماته أكثر والتلفع برذاذها وهذيانها وبرودتها الطازجة.

 ___________________________________________

مراجع هذه القراءة النقدية :

1 – محمد الأصفر وسالم العوكلي مستلقيان على شاطئ باتايا وتايلندية تدلك بطة رجلي اليسرى بينما فوكو يحكك صلعته

2 – محمد الأصفر وسالم العوكلي يشربان الشاي المرغوى عند نبع ابولو في مدينة شحات الأثرية بينما رولان بارت يتأمل غلام أغريقي يقطف ثمار التين.

3 – محمد الأصفر وسالم العوكلي يتمشيان في شارع وسع بالك بدرنة بينما دريدا يسأل أحد المارة عن جزائريين من أصل يهودي عاشوا في حومة الجامع العتيق.

4 ـ محمد الأصفر وسالم العوكلي يسهران في سانية بلو بينما جابر عصفور يطلب تأشيرة دخول بلويّة.

5 – محمد الأصفر وسالم العوكلي يتدارسان النصوص في مربوعة العوكلي بينما ميلان كونديرا يحكي لهما عن ربيع براغ.

6 – محمد الأصفر وسالم العوكلي في رابطة الادباء بطرابلس يجلسان في غرفة جيلاني طريبشان ويتأملان البحر بينما الروائي ابوبكر حامد يعد لهما شرمولة حارة بالتن.

7 ـ محمد الأصفر وسالم العوكلي وهما يستلمان مليار من نقود المحبة والدفء بينما منظمة اليونسكو تتقدم اليهما بطلب مساهمة في انشطة انسانية.

8 ـ محمد الأصفر وسالم العوكلي في مهرجان المسرح بالبيضاء ونحن نبحث عن قمر بفتح الخاء بينما متربص ما ينتظر اليد لتمسك بالكأس فيمسكها.

9 ـ محمد الأصفر و سالم العوكلي في مرسم الفنان فتحي الشويهدي بينما الجرجاني وجانيت يتقايضان ساعة رمل عربية بساعة آلية سويسرية.

مقالات ذات علاقة

التشيؤ، القلق، الزيف وأشياء أخري

المشرف العام

السرد والمقاومة: بناء الوعي الوطني في الخطاب الروائي الليبي

المشرف العام

رهانٌ باكرٌ لزمنٍ مُنتَظر .. توطئة لديوان “ماءٌ دون وِساطة الخزف“

المشرف العام

اترك تعليق