النقد

شاعرية حبل الغسيل

لا يعود مجرد حبل تُضفر أليافه وتُشد إلى بعضها البعض لتكتسب قوة ومتانة سواء كان قوامه بلاستيكي أو نباتي مجفف أو حتى جلدي، أي حبل، حينَ يصير حبل غسيل، إذ يكتسب في حالته تلك خصائص جديدة ودلالات شاعرية إلى جانب وظيفته المادية المباشرة، يصير حبل الغسيل المتدلية منه والمشدودة إليه الملابس بمشدات الخشب أو البلاستيك قصيدة، نعم قصيدة بإيقاع يختلف باختلاف الملابس المنشورة عليه، وكلما تنوعت الملابس وتغيرت زاوية النظر وكمية الضوء تنوع إيقاعها وازدادت حلاوتها، فالناظر إن لم تنتابه مشاعر الرهافة والرقة والإحساس بالجمال وهو يرى حبل غسيل يتوارى تحت ثقل ملابس أطفال أو فساتين مزركشة أو قطع قماشية مطرزة او حتى بيضاء تماما ومشحونة بالضوء، لا بد من أنهُ يعاني خللا بنيويا في ذائقته ويحتاج في هذه الحالة إلى ما يرجَّها رجاً ويُحيي فيها مَلَكة الانقياد إلى كل ما هو جميل وفتان، ويُشترط الوعي لحظة التلقي بطبيعة الحال. فحتى يتذوق المتلقي المنظر الذي يواجهه لا بد أن يعيه أولاً، وأشد ما يكون تعبيرا ومُحملا بالدلالات والجمال حينما تُشد إليه الملبوسات، حبل الغسيل، ويكون مهجوراً ومتروك لضراوة الإهمال الحبل الذي لا يحمل ملابس، لا بل أنه لن يصمد طويلا وسنراه مقطوعاً من أحد طرفيه او من وسطه وتجف فيه ماء الحياة وسرعان ما ستتفكك ضفيرته، الحبل الذي هجرته الملابس ولم يعُد البلل الذي تحمله ينعش قوامه.

ولم يغفل فناني الريشة والقلم عن جماليات حبل الغسيل فقاموا برسمه وتوثيقه بصرياً ولونياً بالتعاون مع فناني الفوتوغراف ويأتي ذلك في سياق بحث الفنانين عن مظاهر الجمال الموجودة في الواقع القريب، ولا غرابة في أن يتبنى الفنانين هذا المظهر الجمالي والذي تكمن جُل جمالياته في بساطته وواقعيته المفرطة، ويُحسب له عدم ابتذاله وسماجته رغم أنه من الكثرة بمكان ومن التكرار بمكان ومع تكرره وكثرة تشكله في جميع أنحاء العالم تقريبا وحيثما وُجِدَ الإنسان إلا أنه لم يُستنفد جمالياته ولا زال يلهم الفنانين ويحثهم على رسمه وتصويره والتأثر بتفاصيله وجزئياته، سيما وأنهُ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمرأة، وتستطيع أن تمنع الفنان من أن يرسم أي شيء إلا من رسم المرأة، وكلما رسم المرأة وهي منهمكة في ممارسة مهامها اليومية ودفع الحياة إلى الأمام كلما كانت الشحنة التعبيرية أعلى والمعاني أقوى وستشد المتلقي للوحة التي تحتفي بالمرأة، تلك التي تصورها وهي في حالة حركة وانشغال، وستبدو تقليدية إلى حد بعيد وساكنة تلك اللوحة التي تصور المرأة في حالة سكون ودعة كبورتريه أو هي تجلس او تستلقي كالمحظية على الأريكة أو على الكرسي، ومهما بلغ جمال اللوحة والمرأة فإنها لن تضاهي جمال تلك اللوحة التي تتخذ من المرأة موضوعا لها وهي في حالة عمل وحركة ذائبة، وإلقاء نظرة سريعة على الإرث الفني الإنساني في الشرق والغرب قديمة وحديثه كفيلة بتأكيد هذا الحكم النقدي، وشخصياً أُفضل  الأعمال التي تُبرز جمال المرأة الروحي إلى جانب جمالها الجسدي، لا تلك التي تُركز على الظاهر فقط وتهمل الجوهري والراسخ فيها، والجانب المعنوي في شخصية المرأة قد يكون أهم من الجانب الظاهر.

ومثل جملة شعرية او صورة حية مثقلة بالدلالات يمكن أن يخلب لب المتلقي الملابس التي تداعبها النسمات العليلة على حبل الغسيل وتستحث خياله لا بل تستفزه وتثير ذكرياته ولربما أشعلت فيه متطلبات الحنين، ولربما سافرت به إلى أزمان خلت واستحضرت الغائبين من أحبابه.

والملابس فوق حبل الغسيل وهي مُعرضة للهواء وأشعة الشمس لا بد أن يعتريها الزهو وتشعر بالفخر وهي تحمل، ليس ملابس الناس فقط بل أحاسيسهم ومشاعرهم وأحلامهم ودفء أجسادهم وهي تحفظ أسرارهم وأوجاعهم وهي أقرب إليهم من خلانهم والشاهدة على تقلبات حياتهم وأمزجتهم وتبدلات أجسادهم من الصِغر إلى الكبر، فلا غرابة والحال هكذا أن نعتبر حبال الغسيل قصائد متكاملة الأركان ومستوفية الشروط لا ينقصها الإيقاع ولا الدلالات ولا المعاني الإنسانية السامية ولا يعوزها الجمال الظاهر والمتواري خاصة وأن عذوبتها تتفاقم كلما اقترنت بضرورات الحياة، ضوء الشمس والمرأة.

وليس هنالك باعث على الطمأنينة والإحساس بالسلام الروحي العميق والتأمل افضل من رؤية حبل غسيل مثقل بالملابس وبالحياة. حبل الغسيل قصيدة لا تنتظر إلا شاعر يُشمِّر عن لغته ليقولها، وأنا أضمن لها ولقائلها النجاح كونها قصيدة بموضوع بصري غير مطروق شعريا وقابل للشعرنة باللغة ومهيأ لاكتساب أبعاد جديدة لم تكن قبل الاحتكاك بالشعر لتناسبه أو تتماشى معه، حبل الغسيل ظاهرة فتانة وتفاعلية، تماست مع الشعر وتماهت فيه، أخذت منه وأضافت إليه، أخذت منه إيقاعاته وهارمونيته وتناغمه ورونقه وأسبغت عليه من دلالاتها ومعانيها ورهافة تفاصيلها.

ولعل للقارئ بعد أن يفرغ من قراءة هذا الكلام رأي آخر في الموضوع أو إضافة ويهمني أن يكتبه وينورنا به، ولتقريب هذا الموضوع الجمالي من الأذهان كان ضروريا الاستناد إلى الصورة التي بإمكانها اختزال أهم ارتكازاته، وبعد البحث والتقصي في شبكة المعلومات العالمية عثرنا على هذه اللوحات والصور التي تعبر عن الموضوع المطروح للنقاش خير تعبير، وهذه في الختام دعوة للنظر إلى حبال الغسيل من زاوية شعرية حتى تكتمل الصورة.


الصور واللوحات من اختيار الكاتب.

2 – 7- 2020

مقالات ذات علاقة

الرستميون يعودون في رواية

محمد الأصفر

قراءة نقدية فكرية في المجموعة القصصية {التـــــــــماهي } للكاتب محمد المسلاتي

عزة رجب

هل لدينا نقاد؟

أحمد الفيتوري

اترك تعليق