المقالة

سفينة الحمقى

تحدث عنها فوكو وركبها العرب.. سفينة الحمقى

بأنا المُطعْمونَ إذا قَدرَنا.. وأنا المُهِلكون إذا ابتُلينا
وأنا المانِعون لِمَا أردنا.. وأنا النازلون بحيث شِينا
وأنا التاركونَ إذا سَخِطنا.. وأنا الآخذِون إذا رَضِينا.

عمرو بن أبي كلثوم.

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

 
#.. إن “عمرو بن أبي كلثوم” هنا لا يترك لغيره إلا الفتات، ويستولي بأبيات معلقته العصماء على العير ويدعو إلى النفير معاً، في منشورٍ صريحٍ مباشر يقول وبدون مواربة إن العنف منهجية مباحة في زمنٍ تسود فيه ثقافة الاستلاب والسلب معاً.
في مناظرته الشهيرة مع “تشومسكي” يقول “فوكو” إن الناس مغيبين تماماً ضمن الثقافة التي ينتمون إليها. فهل كان ابن كلثوم مغيباً بدوره ضمن إطار ثقافة قبيلته؟ وهل كانت قبيلته مغيبةً بدورها داخل سجن ثقافة مجتمعٍ يجيز العنف منهجاً للعيش، وسبيلاً مثالياً للتعايش؟
قد لا نتفق على تعريفٍ محددٍ للعنف، لكننا سوف نصادف مئات الأنماط منه، وربما نقوم نحن بالمزيد من التصنيفات له، بداية بقمة الهرم كعنف الدول نهايةً بقاعدته مثل عنف الأفراد، مروراً بتفاصيله الصغيرة الدقيقة مثل عنف الحوار وعنف تبادل الآراء وعنف التعبير عن الولاءات وعنف الثقافة وعنف الكتابة وعنف التحريض وعنف المسلك الشخصي وعنف التربية وعنف المؤامرة وعنف التعلم وعنف التعليم معاً.
ربما تختلف المسارب هنا، ولكن تظل هناك حزمة من أسئلة لا مفر من محاولة الاقتراب من إجاباتها على الأقل..
 
من يشرعن للعنف؟
وهل ثمة أسبقيةٍ تاريخية لذلك الشعور الطاغي الذي يعتري أحد بني البشر وهو يهم يتوجيه ضربة قاصمة إلى بشري آخر مثله ؟
وما هي حدود العنف ؟
وماذا عن مساحته في جغرافيا الفعل، وحدوده مع غيره من الانفعالات، وردود أفعاله وأفعاله معاً.
وهل يوجد للعنف أجناس كما البشر ؟ ملامح وتقاطيع وأصول وأنساب وتواريخ ؟ وهل للثقافة نصيبها من العنف ؟ وهل يميل العنف ككائنٍ خرافي إلى تقطيع أوصال المثقفين ؟ أم أنهم أحياناً يتولون هذه المهمة نيابةً عنه فيقطعون أوصال بعضهم بعضاً ؟
وكيف هي ساحة المعرفة عندما ينتصب العنف هرماً راسخاً في وسطها، وصنماً عملاقاً يلقي بظلاله على الجميع من حوله ؟
وأخيراً، هناك السؤال الأكثر خطورةً وارتياباً، هل يتحول العنف أحياناً إلى نوعٍ من أنواع الجنون ؟
أسئلة كبيرة، بحجم كونٍ فسيح، وخلفية تاريخية عريقة يستوجب الأمر أن نعود إليها في كل مرة نريد فيها أن نتعلم المزيد.
سأحاول أن أبدأ من السؤال الأخير، لنتذكر معاً ما كتبه “فوكو” في “تاريخ الجنون” عندما حدثنا عن ما أسماه ” إبحار الحمقى”، حيث كان المجانين يوضعون أحياناً على متن السفن المغادرة للتخلص منهم ولكن ضمن طقس يعتقد بأن المجنون آنذاك سوف يفقد زمام المبادرة لأنه سيكون بمثابة حمولة تخضع لمشيئة قاربٍ يخضع بدوره لمشيئة البحر، وفي هذا تغييب لثقافة المجنون في غياهب ثقافة القارب، أي أننا نعود مجدداً إلى مقولته بأن الناس مغيبون تماماً ضمن الثقافة التي ينتمون إليها. فهل ينتمي “العنيف” هنا إلى ثقافة العنف أم أنه محكوم فقط بقوانينها ؟
ثقافة العنف تزدهر وتنمو وتزهر في المجتمعات التي تعيش أزمان الشد والجذب، فالفقر المدقع يؤدي إلى العنف، والظلم الفادح يؤدي إلى العنف، والانغلاق الفكري يؤدي إلى العنف، والتطرف العقائدي يؤدي إلى العنف، والمفاهيم المتخلفة تؤدي إلى العنف، والتعليم الضعيف يؤدي إلى العنف، وسيادة الشارع على القانون تؤدي إلى العنف، وتغول الفرد على الدولة يؤدي إلى العنف، وتغول الدولة على الفرد يؤدي إلى العنف.
كلها مسارب نمل متعرجة ومتداخلة، تقود إلى هاوية واحدة بلا قرار، هاوية العنف والعنف المضاد، تماماً كما هي سردية الفعل ورد الفعل.
إن “عمرو بن أبي كلثوم” في أبياته يحتكر له كل شيء، فهو وقومه ينزلون متى شاءوا، وبأي أرضٍ يريدون، ويطعمون ويهلكون ويتركون ويأخذون.
إنهم ـــــ بتعبيرٍ آخر ــــ يفعلون ما يحلو لهم، ولكن، ولأن المجتمع المحيط بهم هو مجتمع مماثل، فمن الطبيعي أن يرفض أن يذعن لهذا التسلط الكاسح، لا لأنه يرفض منهج التسلط، ولكن لأنه متسلط بدوره ويريد هو الآخر أن يمارس ما يعتقد أنه حق أصيل له، وهكذا يبدأ العنف في دق طبوله، وتبدأ السيرة الطويلة واللانهائية للحروب الأهلية التي لا ينتصر فيها أحد.
إن المعهد الدولي لبحوث النزاع في “هايدلنبرج” يعرّف الصراع على أنه ظاهرة إنسانية تنشأ عن تصادم المصالح واختلاف المواقف على بعض القيم، وهي على الأقل بين طرفين، قد يكونان جماعات منظمة أو دول، وهي مصممة على السعي نحو تحقيق مصالحها والحصول على أهدافها.
في هذا التعريف منهج مختصر لشهادة ميلاد العنف الأولى، لأن “قابيل” عندما استعمل العنف ضد أخيه “هابيل” لم يفعل شيئاً أكثر من تطبيقه لهذا التعريف، فقد تصادمت المصالح بينهما، وهو ليس إلا طرف في مواجهة طرفٍ آخر، والرغبة دائماً كانت في الوصول إلى هدفٍ بذاته. وهو لسؤ الحظ نفس الهدف، فلو كان لكل منهما هدفه ما وقع الصراع ولما حدثت الجريمة من الأساس.
لكن عنف “قايبل” كان مفرطاً، وفي درجة أولى من درجاته القصوى، لكن مدرجات العنف متعددة وكثيرة لذلك يبدو سؤال انتشار ثقافة العنف سؤالاً مهماً يجب أن ننتبه إليه، وأن نخصص له الندوات والمؤتمرات والدراسات، فعلى أقسام علم الاجتماع وعلم النفس في جامعاتنا أن تتصدى بشكل أكثر جديةٍ لمناقشة هذه الثقافة، وعلى أساتذتنا الأفاضل في العلوم الإنسانية أن يوجهوا طلبتهم في الدراسات العليا من أجل رسائل ماجستير ودكتوراه تدخل في صلب الموضوع، وتسأل وتحاول أن تجد الجواب عن ماهية هذه الثقافة وسبل التخلص منها قبل أن تصبح منهجاً ومذهباً قائماً بذاته له تاريخه ومشاريعه ومريديه، وضحاياه أيضاً.
العنف عندما ينشيء له ثقافة، هنا تبدأ المشكلة، وهنا يولد المأزق الكبير، وهذا ما نراه واضحاً جلياً في هذا العالم المأزوم المتأزم، على أن حاضرنا اليوم يجب أن لا ينسينا ذلك الماضي القريب الذي كان يلفت انتباهنا بيأسٍ إلى أن هناك خللاً في سلوك البشر ينبغي معالجته، وهو خلل لا يتوافق مع طبيعة عصر التقنية والتطور والعلم.
إن أعداد القتلى مؤشر خطير عندما تكون شاهداً على مولد ثقافة.
تبدو هذه العبارة عبثية بعض الشيء، لكنها ستصبح مؤلمة جداً إذا ما تذكرنا مثلاً أن التوتسي في “رواندا” قتلوا 200 ألف من “الهوتو” عام 1972م.، وأن الهوتو ردوا الصاع صاعين في عام 1994م. عندما قتلوا قرابة المليون من التوتسي.
الأرقام هنا كارثية، لكنها ليست شيئاً يُذكر إذا ما عرفنا كيف كانت تجري عمليات القتل، وهذه تفاصيل لا أريد أن أتورط في ذكر بشاعتها في هذه الافتتاحية، إذ أن شحنة العنف الزائدة لا تتعلق هنا بالأرقام فقط، بل بالوسائل أيضاً، وهنا يمكن أن نعثر على شهادة ميلاد أخرى لثقافة العنف البغيضة.
جبل مُدرج هو جبل هذا العنف، في أسفله يمكن أن يصدمك نقاش صارم يدور بين اثنين حول موضوع لا يحتمل أصلاً أن يدور بشأنه نقاش من هذا النوع، وفي مرتبة أعلى قليلاً سوف تجد نفسك مصدوماً أيضاً وأنت تتابع صراخاً وصخباً وتشنجاً على صفحة تواصل اجتماعي في حوار بائس بين مدونين يفترض أنهم يستمتعون باستعمال تقنية متطورة، حتى أن الكثير من الحالات انتهت باشتباك فعلي نتج عنه القتل والإصابة ، إن التواصل العنفي هنا لا يكتفي بكونه تواصلاً افتراضياً على الإطلاق.
العنف أيضاً لا يضع لنفسه حدوداً، إنه يتدخل حتى في الحوارات الفكرية التي من المفترض أنها ساحات معارك محببة، غبارها الأفكار، وميادينها النقاش، وخيول فرسانها الأدلة والشواهد، لكن العنف يدس أنفه في هذه الحوارات لنفاجأ بالتكفير ودعاوى قضائية وسجن وتغييب ومصادرة كتب ومحاولات اغتيال، ولنا في ما حدث مع الروائي المصري “نجيب محفوظ” خير مثال، أو بالأحرى أسوأ مثال، علماً بأن القاتل المكلف فاجأ المحققين بقوله إنه أمي لا يقرأ ولا يكتب.
موت الحوار هنا هو ولادة للعنف، النقيضان لا يفترقان، فإذا أردت أن يولد العنف فما عليك إلا أن تعلم الجيل الجديد كيف يقتل الحوار في مهده، وبالنسبة للأطفال مثلاً يمكن لألعاب الفيديو أن تؤدي وظيفة التعليم السيء هذه، وما انتشار ألعاب العنف والقتل والمصارعة بينهم إلا دليل على أن السيل يجري من تحتنا، وأننا ندفن رؤوسنا في الرمال ونواصل النوم في العسل.
وبكل أسف تزدحم صفحات “التويتر” و”الفيس بوك” بآلاف الأمثلة على نجاح وسيادة هذه الاستراتيجية البغيضة في تحقيق أهدافها، بدايةً من النقاش حول مباريات كرة القدم، ونهاية بالآراء المتباينة حول كتابٍ أو فكرة، مروراً بالحوارات الجانبية حول فيلم سينمائي أو حادثة عارضة أو حتى فستان ارتدته ممثلة في إحدى المهرجانات.
كلها حوارات متشنجة، مشدودة، متوترة، يعلو فيها صوت اللسان على صوت الفكرة، ويتقزم فيها الوعي بجدوى المعرفة أمام سطوة الرغبة الجارفة في احتكار هذه المعرفة.
ولكن، هل تصبح مجديةً تلك الجملة السحرية التي كتبها “فوكو” ذات يوم : إن الناس مغيبون تماماً ضمن الثقافة التي ينتمون إليها” ، ومن هذا المنطلق هل يمكن لنا أن نلوم جبابرة العنف هؤلاء، أم أن الصحيح هو أن نلقي باللوم على المجتمع الذي بدأ ـــ لأسباب عديدة ـــ في إنتاج آليات ثقافة العنف، وتلقين أبناءه مفرداتها وتعليمهم أبجدياتها، وبالتالي فهو يقوم بتغييبهم قسرياً داخل إطاره العنيف والمتشدد تجاه الحوار وتبادل الآراء والنقاش والأخذ والرد في كل ما يتعلق بالجديد والقديم من مفاهيم.
إنه ــ وبهذا المنطق يحتوي أفراده ذهنياً وإن تباعدت بهم المسافات، ومهما سكنوا من أوطان، فترى حتى من يسكن الاسكيمو منهم ــ على سبيل المثال ـــ يحاور ويتشنج ويشتم ويسب ويطلق الرصاص من فمه وكأنه لم يغادر شارعه القديم بعد. إن المجتمع العتيد هنا يمد أذرعته الطويلة ليحشو بمفرداته أفواه منتسبيه، ولو كانوا على بعد ملايين الأميال منه.
في كل زاوية من هذا الموضوع يمكنك أن تعثر بسهولة على سفينةٍ للحمقى تمتليء بميولهم القاسية المندفعة التي لا ترى أمامها سوى تلك الرقعة الحمراء التي يلوح بها مصارع ثيران محترف، فتندفع نحوها كثورٍ مصارعةٍ غاضب، إن الثور هنا لا يدرك أن مشكلته الحقيقية ليست مع الرقعة الحمراء، بل مع المصارع الذي يلوح بها لاصطياده.
يمكنك أن تعثر أيضاً على أنانية “عمر بن ابي كلثوم” وهو يدعي حقه وحق قبيلته في امتلاك الكون، وفي حيازة أثمن ما فيه وأغلى ما يحتويه، وهو لا يملك من أجل هذا سوى حق التبجح فقط، متجاهلاً أن غيره يمكنهم إدعاء نفس الحق وبنفس المنهج أيضاً. ولأن الحقوق متساوية، ولأن الحوار معدوم، فلا مفر من اللجوء إلى العنف ليفكر بدلاً عن الجميع، وهكذا تموت فكرة لتولد حرب.
_________________
افتتاحية العدد التاسع من مجلة الليبي؛ سبتمبر 2019.

مقالات ذات علاقة

علّمتني مهنة الصحافة

مهند سليمان

مدينة تحبها قبل أن تراها

ليلى المغربي

ما اضيع الجمال عند البهائم

أحمد معيوف

اترك تعليق