قصة

سفـر القبـرة

جن مسعود البراني !!

استعدت الخبر في ذهني مرارآ وكنت أعيش الدهشة نفسها ليس لان ” مسعود البراني ” له سبعة عقول كما يقولون ولكن لاني كنت بالأمس أخر من رأه. كان كعادته يقفز بين المواضيع.ويزاوج بين المتناقضات وكنت أجد في ذلك متعة فاقضي الوقت أفك الطلاسم حتى أدرك الممر السري فيتجلى القصد وتتبدي المعاني الخفية.

بالأمس كنت أتسكع في الوادي أدندن بنغم لا اذكره حين انتشلني ندائه من نشوة اللحن.

كان يكسر فروع يابسة لشجرة الزيتون الهرمة ويعد الشاي الأحمر كعادته قرب الضفة القبلية للوادي. من خلفه سرحت خيوط الدخان تطرحها بعض نسيمات الصيف الخجولة في الفراغ فتتخلل فروع الزيتون في الوادي ويفلت بعضها فيصعد ببط ء ويتجرأعلى قمة الجبل.

هاجمني بكلامه كأنما كان يشركني بحديث فأتتني مداخله كان يحادث به نفسه:

– لقد هلك الوادي.

كوم الحطب قرب موقد النار تم أضاف:

– ماتت الناس. وحلت اللعنة وابتعدت السماء. احتجبت الرحمة 1 فالرحمة لا تنزل على قلوب لا ترحم.لو كان للإنسان حكمة القبر لهفة القبر لما انتظر صامتآ. إذا تأذى أو تألم ذهب لاستعجال حكم السماء تلك هي القبرة. تطير تغيب في السماء وتسمعها النشيد وتستعجلها القصاص:

” قنيبرة في عشها … طش من يطشها ” 2

– أتعرف أن القبرات في البلدة تتناقص وربما اختفت كما اختفى الدراويش والأولياء.

ارتشف على عجل قليل من الشاي لاختبار المذاق. فرق بعود صغير جمر الموقد طرحه ثم لملمه فاستعاد الجمر الخابي ملامح النار.

تفحصني بنظرة عجلي فقراء الدهشة في وجهي فا أضاف.

– غذآ تفقدها ” عد القبرات.

ناولني الكأس الأولى من الشاي. اخدت رشفة واعدت الكأس. فقال ضاحكاً:

دائما أنسى انك لا تشرب الشاي الأحمر الثقيل. أما انا فلا أنام بدونه.

ارتسمت على ملامحه ابتسامة حذرة واضاف:

– لم أدمن في حياتي إلا ثلاث. حتى المرأة قاومتها وعشت وحيدآ بلا زوجة أو أولاد. لكني اضعف أمام الشاي ، والراديو ، والمزارات. استغرقنا معآ في الضحك من تناقضات الخلطة ثم أضاف:

– حدث ذات مرة وان حطمت ” الراديو ” يوم بالكفر و أعلن إن الإنسان يمشي على سطح القمر.

صمدت في وجه الإدمان شهران ثم عدت واشتريت جهاز آخر إما المزارات فداك أنى أراهم في المنام يجوبون الوادي ويتفقدون الشجر.-و أشار بيده نحو الوادي وحين بلغ جهة الولي اخفظ يده واوماء برأسه فلا يشير المريدون للأولياء بأصابعهم اجلالآ و اعاد ملء الكأس وتنهد ثم أضاف هامسآ دون أن يجيد نظره عن الضريح كانه كان يبوح بسر:

كنت دائما أجد ” سيدي الهبهب ” هذا يقف على رأسي في المنام.

كانت تلك أخر كلماته. ذاك المساء. قضيت الليل أفك الرموز. أخوض في المتاهة استعيد كلماته الاشبه بتضاريس وعره التمس بين تجاويفها عن درب أسلكه. لم أجد سوى انه أوغل في الحكمة واغرق في الرمز. لم تكن في كلماته بوادر الجنون أو أعراض المس لكنه جن وهاهي ذي البلدة تروي الحدث بألف وجه وجدته (سدينه العجوز) يصرخ في الضريح ويركض كالمعسور ويطعن الجدران. يطلق انينآ مكتومآ ويلفظ من فمه الزبد.

واستجمعت قواها وصرخت. فتقافز الرجال من خلف الاسوار ، ركضوا حفاة تجاه الصرخة المفزعة. وجدوه قد انهال بالفأس على قبر الولي حطم القبر من جهة الرأس وطعن الجدران وتطاول على القبة.

يركض عاري الرأس ويعض باسنان مهترئة على شفته السفلى واحيانا يتلفظ بكلمات نابية. يروق للرجال ان يتهامسوا بها لا حقآ في جلسات السمر.

تعاون الرجال بتحرير الفأس من قبضة الرجل وحملوه مقيدا لدراه يئن ويزأر كأسد جريح.

علقوا على صدره التمائم والحجب ، وتمتم الشيخ ( بوراوي ) بالتعاويذ نفسها التي يحارب بها المس واللذغ والافات.

لم يستقيظ الا في اليوم التالي. زرته في السماء ، وجدته يتامل بنظره ذابلة سقف الدار. ولم يكن معه سوى ( الشيخ بوراوي ) كان في الركن القصى من الغرفة وفي الخارج افترش بعض الرجال الارض ، واستند بعضهم على الجدران. تفحصني بنظرات حزينة واوماء براسه فدنوت سكت برهة خلته يستحضر التعابير ويرتب المفردات لتناسب الموقف لكنه كان ينتظر ان يستأنف الرجال الحديث خارج الدار ليتخذ من اصواتهم ستارا ليبوح بسر:

– قبل ايام دنس ضريح الولي. واتخذه بعض الفجار وكرآ للهو. دخلوه سكارى وتلفظوا في حضرة الولي بألفاظ الفسق والفجور. فقضيت أيام انتظر ان يقتص الولي لنفسه وطمأنت نفسي بأن (الدعوة تصيب حتى بعد اربعين سنة)3 وهاهي ذي بالامس احدى بنات الولي تمارس الرذيلة داخل الضريح. وجدتها مضجعة تنام بين احضان الشيطان تتوسد قبر جدها مرتخية الاطراف كالشكوة. وتفح انتشاء باللذة الاثمه قذفت الشياطين بكل ما صادفني. ثم ركلت بقدمي قبر الولي وصرخت فيه ان افق ام على الانتظار اربعون عامآ لارى قصاصك.

لم اعد اذكر سوى اني ذهبت في سفر طويل صار لي جناح قبره. طرت نحو الزرقه. هربت السماء بعيدآ. أشاحت بوجهها عني. رأيت القبرات تهوي دون ان تقهر المسافة. سقطت. سقطت مثلها دون ان ابوح بالسر او اردد الانشودة.

ادمعت عيناه فادار وجهه عني ولاذ بالصمت برهة وحين اردت ان اغادره اضاف كانما قصد ممازحتي:

– غدآ عد القبرات. فمجنون واحد قد لا يكفي. اليس جنونا ان نعد الطيور في السماء ؟

– في ضحى اليوم التالي مات مسعود البراني ودفن على عجل في صمت لم تصرخ النسوة او تلطم الخدود وتقدف الغبار في وجه القدر. لم يسقط الرجال اغماء ولم ينتحب احد على اكتاف احد. سار الموكب البسيط نحو المقبرة في صمت ‘في الطريق تقاذفت الاقدام جثة قبرة ميتة واقصتها خارج الموكب ؛فتطاير الريش وسبح في الفراغ. تعلق بعضه باجساد المشيعين وتمادي آخر حتى بلغ النعش المحمول على الاكتاف. وحاول بعضه عبثآ ان يبلغ السماء ترنح سقط هو الآخر ضحية المسافة.

 _________________________________________

1- الرحمة من أسماء المطر في بعض المناطق الليبية

2- حكاية شعبية ليبية.

3- قول ينسب للشيخ عبد السلام الاسمر

27/04/2001

مقالات ذات علاقة

الحلم الذي ينأى

فتحي نصيب

جــاگ النـبـيـل

لا أحب البطيخ

رحاب شنيب

اترك تعليق