لوحة الساعاة لسفادور دالي (الصورة: عن الشبكة).
سرد

ساعاتٌ بلا ساعاتٍ

أنثايَ تخونُنِي ..!؟

لا أبشعَ من هذا الاكتشَافِ الفظيعِ ..! فجأةً أنظرُ إليها صامتةً استحياءً من اقترافِها لموبَقَةِ الْبَكَمِ .. وارتكابِها لكبيرةِ التوقُّفِ .. جَامِدَةً لا حَرَاكَ بِهَا .. الصِّمْتُ في غيرِ مَوَاضِعِهِ ضَوْضَاءُ مِفْزِعَةٌ ..!!

أَيُّ ارتباكٍ مُخْجِلٍ زَجَّتْ بي فيهِ حَسْنَائِي الأثيرَةُ .. !؟

هكذا تتوقَّفُ دونَ إشعارٍ بذلكَ .. كما تخونُكَ سيَّارَتُكَ العتيقَةُ في طريقٍ مقفرٍ وسطَ صحراءَ موحشةٍ .. توقَّفت ساعتي .. ظلَّتْ لمرَّاتٍ ثلاثٍ تزيِّفُ لي الوقتَ .. تزيِّينُ لي السُّكُونَ الكَذُوبَ .. وَتُجَمِّلُ رِيَاءً وقتَهَا المتوقِّفَ بها .. بي .. وأنا الطَّامِحُ أبدًا للرَّكضِ للأَمَامِ صُعُودًا إلى غَيْمَاتِ أَحْلامٍ تَعِدُنِي بسقيا عَطَشَي المُزْمِنِ .. أو للوَرَاءِ هُبُوطًا لحِضْنِ طفولتي التي لا تُغَادِرُني ، ولم أغادرْهَا منذاها .. رُغْمًا عن أنفِ الوقتِ .. والزَّمنِ والعمرِ .. والوقَارِ الخَادِعِ ..!!

####

هذهِ السَّاعةُ الثَّمينَةُ الخَائِنَةُ .. هديَّةٌ غاليةٌ من غاليتي الَّتي لا تخونُ .. اشترتْها لي ذاتَ عِناقٍ بِثَمَنٍ مرتفعٍ ، زَاعِمَةً أَنِّنِي لو اضططرْتُ في أيِّ موقفٍ أثناءَ أسفاري الكثيرةِ بِعْتُهَا ..

أَأَبِيعُ هَدَايَا حبيبتي ..!؟ تَبًّا لي ..!

لكنَّها خَائِنَةٌ ..!؟ ألعنُهَا لخيانَتِهَا المفَاجِئَةِ لي .. وأضحَكُ مِنِّي .. عَلِيِّ .. فهل تكونُ الْخِيَانَةُ إِلاَّ مُفَاجِئَةً ..!؟ فَالخِيَانَةٌ مفاجأةٌ .. أمَّا الخياناتُ المتوقَّعَةُ أعدُّهَا خياناتٍ منِّا .. لنا .. إِذْ أَنَّ تفكيرَنَا .. اعتقادَنَا .. حسنَ ظنِّنَا ، هِي من تخونُنَا سَاعَتِئذٍ .. هي خياناتٌ قدَّمَتْ – آنفًا – أوراقَ اعتمادِها لنا .. قبلَ أن تتوغَّلَ في تنفيذِ بنودِ خيانَتِها المُريعَةِ .. الشَّنيعةِ .. الفظيعَةِ ..!

####

أطلبُ من صغيرتِي أن تأتيني بساعةٍ أخرى صغيرةٍ أنيقةٍ رشيقةٍ .. اقتنيتُهَا ذَاتَ تَأَنُّقٍ .. ذاتَ اشتهاءٍ .. لكنَّها – بسلامتِها – كانَتْ تغطُّ في صَمْتٍ عَمِيقٍ بِمِحْفَظَةِ نَظَّارتي الوثيرةِ ..!!

أطلبُ منها أن تبدَلَهَا بأخرى ، ساعةٍ سويسريَّةٍ كلاسيكيَّةٍ ذاتِ سيرٍ جِلْدِيٍّ بُنِّيٍّ نَاِعمٍ .. أهداها إليَّ وزيرُ الثَّقَافَةِ العُمَانِيُّ ذَاتَ أُمْسِيَةٍ .. لكنَّهَا كانت تقاسمُ رفيقتَها النَّومَ والهدوءَ والصَّمْتَ المبينَ ..!

وَضَعْتُهَا إِلَى جِوارِ نظيرتِهَا البكماءِ فتثاءَبَتَا .. تَسَاءَلَتَا عنِ الوقتِ ونامتا .. أَرْجَعْتُ ثلاثَتَهُنَّ إلى كَهْفِ مِحْفَظَتِي لينمْنَ نومًا عميقًا عميقًا .. فيما نِمْتُ أنا من دونِهِنَّ .. استعَضْتُ عنهنَّ بساعةِ الموبايلِ ، وساعةِ جهازِ الحَاسُوبِ ، والسَّاعَةِ الجِدَاريَّةِ العجوزِ في غُرْفَتِي .. وَصَوتِ مُؤَذِّنِ مَسْجِدِنَا الرَّخِيمِ ..

####

لكنِّي لم أنمْ جيِّدًا ، نومي كانَ قَلِقًا .. مُتَقَطِّعًا تلسَعُنِي فيهِ عَقَارِبُ الفَزَعِ .. شُعُورٌ بالفَقْدِ يَعتورُنِي .. فأنا بلا ساعةٍ .. إذن أنا وحيدٌ .. إذن أنا بلا وقتٍ .. ولا عمرٍ .. مجهولُ التَّاريخِ .. ألم أقلْ يومًا : ” رجلٌ بلا ساعةٍ ، كساعةٍ بلا رجلٍ ..” ها هي مقولتي تتلبَّسُنِي ، أقفزُ من فراشي لأفتِّشَ عن ساعةٍ أُرْسِلَتْ إِليَّ هديَّةً من مذيعةٍ صديقةٍ لم أرْهَا يومًا ، عربونَ مَحَبَّةٍ بريئةٍ .. لكنَّ صديقًا عزيزًا أحبَّهَا فَسَرَبَّهَا من يَدِي إِلى يَدِهِ .. !!

####

عندَ الانتظارِ القَتُولِ الَّذِي يُنضجُ أرواحَنَا على نارٍ هادئةٍ ؛ لكنَّها شديدةِ الاستعارِ ؛ تتحوَّلُ الأشياءُ جميعُها إلى ساعاتٍ .. عيونُ النَّاسِ .. ابتساماتُهُم .. استدارَةُ وجوهِهِم .. تلويحاتُ أكفِّهِم بالودَاعِ .. نظراتُهُم المترَقِّبَةُ .. وساعاتُهُم نفسُها .. كلُّ هاتِهِ المشَاهِدِ تبدو لنا ساعاتٍ وقحاتٍ تتجسِّسُ على قلقِنا .. تَشْمَتُ بنرفزتِنا المكتومَةِ .. بترقِّبِنا الملولِ .. بسلحافةِ وقِتِنا الكسيحِ .. بِنَا .. ونحنُ نتحوَّلُ إلى كائنٍ من قلقٍ .. حينَ تعيشُ هذه التَّجربَةَ .. ويعتريكَ هذا الشُّعورُ حينَها ستشعرُ أن تلكم السَّاعاتِ تصوِّبُ نحوَ قلبِكَ عقاربَها .. توجِّهُ نحوَها لسعاتٍ قاتلةً .. فيما تنبضُ ساعةُ قلبِكَ القلقَةِ ببلاهةٍ مفرطةٍ : تكّ ..تكّ .. تكّ .. ممعنةً في ركضِها الأماميِّ المتسارعِ وإن بدا لنا أنَّ الوقتَ الرَّاكضَ بسرعةٍ فائقةٍ متوقِّفٌ تمامًا .. أو راكضٌ للوراءِ .. لوراءِ الوراءِ ..!؟

#####

لديَّ إحساسٌ عميقٌ أنَّني وُلِدْتُ وفي يدي سَاعَةٌ ، وَأَنِّنِي حينَ صرختُ لأوَّل مرَّةٍ كنتُ أسألُ بإمعانٍ شديدٍ عنِ الوقتِ .. كنتُ أزيحُ عن عينيَّ غبشَ الرَّحِمِ لأرى السَّاعَةَ .. وأَنَّنِي كنتُ أُحَاولُ بطريقةٍ ما أن أضعَ يسرايَ أمامَ عيني لأكتشفَ الوقتَ .. لأؤرِّخَ بنفسي للحظةِ ميلادي .. بالصَّرخةِ الأولى .. بالنَّبضَةِ والدَّقيقةِ ..!

####

ياه ..! كم نحن منضبطونَ جِدًّا .. منضبطونَ حدَّ الالتزامِ الفاضحِ .. فهل يقبلُ منَّا انضباطَنَا الوقورَ نحنَ المنفلتينَ حدَّ التلاشي .. شعراءَ وقصَّاصينَ وفنانينَ وتشكيلينَ ومتأمِّلينَ ومتألِّمينَ وحالمينَ .. مجانينَ بصورةٍ أكثرَ اختلافًا …!؟

نحنُ المنفلتينَ حدَّ التَّسَرُّبِ .. حدَّ التَّلاشي.. حدَّ الانطفاءِ .. المارقينَ أبدًا كسهمٍ طائشٍ .. المغامرينَ دومًا كقلبِ عاشقٍ لا يفترُ عنِ المراودةِ اللَّهفى .. المْغَادِرينَ أبدًا كجناحٍ جَسُورٍ لا يسقطُهُ التِّرحَالُ .. ولا تتعبُهُ الآفاقُ العصيَّةُ .. الرَّاكضينَ دومًا كغيمَةٍ لا وطنَ لها .. لا بَيْتَ لقلبِهَا ..

ولا مستراحَ لقدميها البضَّتينِ .. المندفعينَ أبدًا كَقَلْبِ عَاصِفَةٍ .. المَدْفُوعِينَ دومًا كرغبَةِ طفلٍ .. كما نحنُ أُسَارى لانضباطِنَا الوهميِّ .. لساعَاتِنَا الصَّارمَةِ .. لمواعيدِنَا الحَادَّةِ .. فكيفَ نرضى بأسرٍ ونحنُ أغنيةُ الانطلاقِ .. أنشودَةُ الاندفاعَ .. أيقونَةُ الحياةِ ؛ فالوقتُ يضبُطُ إيقاعَ أغانِيهِ على تواقيعِ نبضِنا .. ويغنِّي أغاريدَهُ لنا .. بنا ..!؟

كيفَ تنضبطُ الطيورُ والعطورُ والنسماتُ والغيماتُ والعواصِفُ والأطفالُ الأبرياءُ المشاغبونَ .. كيفَ يحدُّ الخيالُ الجموحُ الفزعِ دومًا كغزلانِ البيداءِ ؟!

ما الذي يضبطُ فوضاننا وروعَنتنا وقلقنا وضجيجَنا .. ما الذي يروِّضُ وقتَنَا المفْلُوتَ حضورًا كأنهارِ ذهبٍ .. من يدِّجنُ ضوضاءَنَا الأنيقَةَ كسمفونيَّةٍ بكرٍ لا أختَ لها .. نحنَ المتسرِّبينَ من قفصِ الانضباطِ الصَّدِئ مِثْلَ حلمٍ شفيفٍ .. المتحلِّلينَ من قيودِنا كَطيفٍ عجولٍ .. المتسلِّلينَ منَّا .. إلينا .. الهاربينَ من كلِّ قيدٍ … الفارِّينَ من كلِّ ربقِ الزَّمَانِ والمكانِ .. !! إِنَّنَا نصنُعُ وقتًا لنا .. وقتًا لا يَصْلحُ إِلاَّ لنا .. ولا يليقُ إلاَّ بقلوبِنا .. نبرمُ فيهِ مواعيدَنَا الحميمةَ مَعَ الخَيَالِ والقصيدَةِ والحكايا والألوانِ ، مع النَّغَمِ والمواويلِ النديَّةِ ، معَ الغَيمِ والعصافيرِ والأحلامِ والموسيقا .. نقابلُ فيهِ أحبَّتَنَا بعيدًا عن عيونِ الوقْتِ .. ندخِّنُ هناكَ وقتَنَا العسليَّ وَنَكْسِرُ كلَّ العقاربِ اللاسِعَةٍ .. نعلنَ حملةً مناهضةً للوقتِ التقليديِّ العجوزِ .. وَنَشْجُبُ فيهِ عملَ السَّاعَاتِ الرُّوتينيِّ القتولِ الملولِ..!!

####

لعلَّكم مثلي .. فأنا أشعرُ أننا نضبطُ أعمارنَا بساعَاتِنَا.. نحسبُهَ ولا يحسبُنَا .. لكنَّه يحسُبُ لَنَا .. يحسَبُ علينا .. عبثًا نضبطُ مواعيدَنَا .. أعمارَنَا .. بقطعةٍ معدنيَّةٍ صغيرةٍ نعتقدُ أَنَّنَا نربطُها بأيدينا .. وهي تربطُ أعمارَنَا بها .. نتوهَّمُ أننا نأسُرُها بأيدينا ؛ لكنَّها تأسُرُنا بتكتَكَاتِهَا المزعِجَةُ .. تُنَابِزُ قُلُوبَنَا بلثغاتِهَا الرَّعْنَاءِ .. تذكِّرُنَا بخطواتِنَا المثقلَةِ المتلكِّئةِ على دربٍ قصيرٍ جدًّا ، وإن بدا لنا – توهًّمًا – إِنَّهُ طويلٌ..!!

####

حينَ كنتُ معلِّمًا كنتُ منضبطًا مثلَ ساعةٍ .. لكنني في قرارةِ وجعي . وعيي .. أحسُّ بأنني أضبطُ عمري بالحصِّةِ .. تُسْلِمُنِي حِصَّةٌ لأخرى .. محطَّةٌ تسلِّمني لما بعدَها .. إلى أن تستلمَنِي المحطَّةُ الأخيرةُ ..

أَحْسِبُ الوقتَ الذي يسبقُ بَدَءَ الحصَّةِ .. أثناءَ الشَّرحِ

أظلُّ مركِّزًا بصري على السَّاعةِ لأكيِّفَ الشَّرحَ مَعَ زمنِ الحِصَّةِ .. مُتَرِقِّبًا وَقتَ انتهائِها .. ربما للخروجِ منَ الدَّرْسِ بسببِ الإرهاقِ أو المللِ .. أو الانشغالِ بشيءٍ آخرَ خارجَ جدرانِ الفصلِ .. ثمَّ أعودُ لترقُّبِ الحِصِّةِ القَادِمَةِ .. الزَّمنِ القادِمِ .. اليومِ القادمِ .. وما أدراكَ ما هوَ ..!؟ وما أدراني ما هو ..!؟

####

العقاربُ تَلْسَعُنُي أبدًا .. الوقتُ يمضي بسرعةٍ سريعةٍ متسارعةٍ ؛ كما يقولُ راحلُنا الكبيرُ صادقُ النَّيهوم .. فيما يهمسُ الكبيرُ شوقي في أذني قلبي بنبضَةٍ شعريَّةٍ عاليَةِ الشَّجَنِ ، باذخةِ التَّفَاصِيلِ :

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرءِ قَائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

فَاِرْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي

مقالات ذات علاقة

رواية الفندق الجديد – الفصل السادس عشر

حسن أبوقباعة المجبري

أجمل فتاة في المدينة

عبدالله عمران

رواية الحـرز (40)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق