النقد

«زرايب العبيد».. الألم يحاصر القارئ

محمدو لحبيب

غلاف رواية زرايب العبيد

من عتبة النص تنطلق الكاتبة الروائية الليبية نجوى بن شتوان، لتمسك قارئها، وتثير دهشته، فضوله، وألمه، وتعاطفه مع شخصيات تخوض بصمت صراعاً وجودياً يتعلق بالحرية في مقابل العبودية، وبخرافات الاصطفاء، والفوقية، والداروينية الثقافية والمجتمعية، مقابل الإقصاء والتهميش الساحق والعنصرية اللونية.

«زرايب العبيد» ليست مجرد مكان، ولا مجرد عنوان مثير تضعه شتوان لروايتها التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2017.

يجعلنا العنوان للوهلة الأولى نفهم أبعاد المكان السوسيولوجية، فكما نكتشف مباشرة ومن القراءة الأولى للعنوان أن ثمة «زرايب»، أو مجتمعاً خاصا بفئة مسماة العبيد، نستنتج بقراءة ثانية تالية ما لم يقل في العنوان، وهو أن ثمة مجتمعاً آخر خارجاً عن تلك الزرايب، وعن جحيم ذلك المكان الإقصائي الفظيع، مجتمع حر، أو هكذا يدعي، مجتمع يفرض قوانينه ومفاهيمه للحرية المرتبطة باللون وتشكيلاته بين الأبيض والأسود، مجتمع تختزل شتوان نظرته الاستعلائية المطلقة في روايتها، من خلال حوار لغته بسيطة يدور بين أحد السادة وبين عبده جاب الله، الذي يحمله عائداً إلى بيته بعد ليلة مترعة باللهو، فيقول السيد حين يصارحه عبده منتهزاً ذلك الظرف الخاص برغبته في الزواج:

(- أو يتزوج العبيد؟!
أدار العبد عنقه الغليظة تجاه سيده وأجابه:
-أجل، أجل يا سيدي
– أتعني أنهم يتزوجون؟!
-نعم، نعم سيدي
– يحسون مثلنا؟!
سكت العبد فلطمه السيد لطمة خفيفة على وجهه وهو يركب ظهره:
– ها..ها أجب يا عبد السوء!
قال جاب الله:
– حاشا لله يا سيدي).
تبدأ الرواية عبر سرد بسيط غير متكلف بقصة عتيقة بنت تعويضة التي تفاجأ ذات يوم في خضم نمطية حياتها واستقراراها على وضع محدد، تشكله أسرتها الصغيرة وزوجها العجوز الأسود المحب لها يوسف، وأبناؤها، وعملها كممرضة، بمن يطرق بابها ليحمل لها صك حرية، وقصة تنبش ماضي أمها تعويضة، ويحاول راويها السيد علي بن شتوان مداراة الجراح عن طريق إثبات نسب عتيقة إلى السيد محمد بن شتوان، بدل أن تظل كما هي ابنة أمها، وسليلة مجتمع أمومي مقابل لمجتمع الأسياد الأبوي، ويؤكد ذلك بقوله: «سلام الله عليك يا عتيقة بنت محمد بن امحمد بن عبد الكبير بن علي بن شتوان، هذا حقك رد إليك فخذيه ولا ترديه»…، فجأة إذا بعتيقة أمام سلسلة آباء، وأمام انتماء كامل للمجتمع الأبوي «السيد» يقدم إليها على طبق من الاعتذار.

أمام وقع المفاجأة، وفي ظل الحديث الطويل مع الروح الممتد في حياة عتيقة بنت تعويضة منذ طفولتها التعيسة في زرايب العبيد، يتنازعها قلق الهوية بين لونين، وحزن ليس له انتماء إلى دم محدد، فتقرر للوهلة الأولى ألا تفتح الباب للقصة، وللقادم من الماضي، وفي حوار مونولوجي ذاتي تقول الكاتبة على لسانها:
( لماذا تنكأ جراحي الآن يا حاج علي؟ لماذا تطل الحكايات بعد فوات مواسمها؟ هل لتصحيح ما ورد فيها؟ أم للاعتذار عما فيها من وجع؟..).
لكن عتيقة الصبورة الصامتة كأمها، كصخرة تتحمل لطم الأمواج المالحة لها منذ زمن من دون أن يفتتها الملح، ذات العينين اللوزيتين الحزينتين، تستسلم لإلحاح علي صاحب الإطلالة البهية، المختلف عن عائلة تتنكر لها شكلاً ومضموناً «.. وبعد نقاش مع حاضرها المجسد في زوجها يوسف، تقرر أن تستمع للحكاية، وإلى علي بن شتوان الذي يعدها أنه سيرد لها حريتها، وسيخوض صراعاً من أجل ميراثها: «قد لا تصدقينني وتقولين أين كنت طوال هذه السنوات. ما لم أحكِ لك وتعرفي لن يمكن تصوّر شيء. حتى إن رفضت اللقاء بي مجدداً وكانت هذه آخر زيارة تقومين بها سأكون سعيداً لأني التقيتك قبل أن أموت وأعدت لك ما استطعت من حقك وحق أمك، اسمك ونسبك. أما ميراثك الشرعي فما زلت أخوض صراعاً مع بقية الورثة لتحصيله بعد إثبات النسب».

تبدأ الكاتبة في روايتها عند اللقاء الذي يجمع «عتيقة» بالرجل الذي سنعرف لاحقاً أنه ابن عمتها، من خلال التعامل مع تقنيات السرد بطريقة ذكية، فتتعدد تقنية الراوي، وتدخلنا أحياناً في عدة تفرعات سردية، وتبدو في أحيان أخرى كما لو أنها تلتقط صوراً فوتوغرافية من البيئة العامة الذهنية والسوسيولوجية، وحتى الانتروبولوجية، لتضفي على حكايتها الأساسية عن قصة عتيقة بنت تعويضة بعداً درامياً عميقاً، مفتوحاً على حزن دائم.
تتداخل الحكايات وتتقن الروائية الانتقال الزمني بين طفولة عتيقة في المكان المسمى بزرايب العبيد، وبين قصة تعويضة في بيت سيدها محمد، وقصة الزواج والحب اللذين اغتيلا بحكم السيد الحاج امحمد الكبير والد محمد بن شتوان، ومالك تعويضة.

لم تكن عتيقة في طفولتها في زرايب العبيد تدرك اختلافها عن مئات الأطفال، والنساء، والرجال، الذين يعيشون في ذلك المجتمع المعزول، لكنها يوم أن استطاعت النظر للمرآة وشاهدت ملامحها المختلفة عن ملامح العبيد، بدأت تسائل نفسها: من هو ذاك الذي أورثها تلك الملامح واختفى في غياهب الواقع؟
التغير الثاني الذي سيكشف لها بعض الإجابة هو حين أحرقت زرايب العبيد بغية تطهيرها من الطاعون والمصابين به، لتكشف في لحظة حزن قصوى أن من كانت تناديها عمتي منذ وعت، هي أمها تعويضة، وأنها أخفت عنها تلك الحقيقة لتحميها من بطش الأسياد، لكن ذلك الاكتشاف كان متأخراً جداً، فتعويضة التي هرعت حينما رأت النار المندلعة في الزرايب، لتحضر صك حرية ابنتها، وما يثبت نسبها حتى لا تأكله النار، لم يسمح لها الجنود الإيطاليون بالخروج، واعتبروها كبقية المصابين بالطاعون الذين قرروا إحراقهم حتى لا ينتشر الوباء.

تفقد عتيقة كل شيء حين تفقد أمها في لحظة معرفتها بها، فتنكفئ على حزنها، وتتدخل الكاتبة نجوى بن شتوان عندئذ في سياق السرد لتستعيد مهنة الراوي قائلة على لسان بطلتها: «إنني ميراث من لم ينظروا لموتاهم، أغلقوا لهم أعينهم كي لا يروا القسوة، وترك فيها منفذا فقط للدموع، إنني نبت ما سقط من تلك العيون». تعود بنا الكاتبة شتوان في سياق تناصي مؤلم إلى قصة الأم تعويضة التي تكاد تكون أورثت كل الألم والمعاناة لابنتها عتيقة.

تحكي عن قصة حبها للسيد محمد الصغير، وعن طفلها الرضيع من سيدها محمد الذي توفي في غيبته، حين قرر السيد الكبير أن يعلقها كالذبيحة ويحرم ابنها الرضيع من رضاعتها، ويتركهما في ذلك العذاب المزدوج، لأنها تركت بعض اللحم في المطبخ لتأكله القطط، وحين يلفظ الطفل الرضيع أنفاسه بعد نوبات بكاء، وعطش، وحرمان من حقه في حليب أمه المصلوبة قريباً منه من دون أن تستطيع إغاثته، عندها يتدخل العبد سالم الذي حاول إنقاذ تعويضة، ليتعرض بدوره إلى غضبة السيد الكبير، وفي غمرة ألمه من الضرب الذي نزل عليه جراء ذلك يقول للسيد الكبير: (الطفل الذي مات من الصراخ جوعاً وظمأ ابنكم وليس ابني، ولديه كاغد شرعي من الفقي).
كان السيد الكبير يعلم قطعاً بعلاقة ابنه محمد بخادمتهم تعويضة، لكنه كان يظن أن تزويجها بالعبد سالم كان كافياً ليوقف مسار الأحداث التي يرفضها، ولم يكن يعلم أن محمد الصغير أجبر عبده سالم على الابتعاد عن تعويضة، وأن الطفل الصغير الذي جعله يموت ببطء وألم هو سليل الأسياد، وواحد منهم.

في مجمل رواية زرايب العبيد تبدو الأحداث مألوفة ويمكن أن تكون قد وقعت في أي مكان آخر من العالم، طالما هي تتحدث عن العبودية والعنصرية، والإقصاء، والفوارق المصطنعة، لكن نجوى بن شتوان تسحب قارئها بطريقة سردية رائعة إلى حكاية العبودية بطريقة خاصة، ومدهشة في كل لحظة.
إن الألم الذي تسببه قراءة رواية زرايب العبيد يجعل قارئها يستصحب معه عدة أسئلة عن العدالة، عن الحرية، عن المساواة، عن الحب الذي لا يعترف بالفوارق، عن الإنسان، عن ظلمه حين يستفحل فلا يرى فيه إلا إثباتاً لذاته، ونرجسيته.
________________________
نشر بالخليج الثقافي

مقالات ذات علاقة

القصيدةُ ترسمُ مشهداً

عبدالباسط أبوبكر

الاغتراب في حكايات من البر الانكليزي.. للقاص جمعة بوكليب

أمينة هدريز

المقهور.. انعطاف في كتابة فن القصة القصيرة

عبدالسلام الفقهي

اترك تعليق