المقالة

رواية التبر .. توطين سرد الصحراء

إذا كانت المدنُ الكبيرةُ قد نشأتْ على ضفاف الماء، بمنازلها الحجرية وقلاعها وحصونها ، بأبراجها السامقة وأسوارها العالية ، بأبوابها وأسواقها وشوارعها الضّاجة بالحركة وتفاصيل الحكايات التي تنمو على مهل، ناسجة أحداثها ووقائعها الخاصة ، فأن الصحراء بالمقابل تشكّل مفارقة أخرى أشدّ اختلافاً وهي تهيئ دون كلل أو ملل أوتادها وخيامها المتأهبة دوما للرحيل ، لتغدو ذاكرتها وحواسها ولوامسها موّزعة بين الأطلال ، التي تهيجُ كائنات الشعر ، وتطلقُ في المدى الذي لا يُحدّ خيالها الجامح. ولأن الرحيل المستمر يشتت أجزاء المشهد ، ويمزّق خرائط الألوان ، ويتوّهُ مشيةَ الراوي آثرت مخيّلتةُ الاكتفاء باللمح ، واختزال المعنى .. وتصعيد إيقاع الروح ، وموسيقى السفر الذي لا يكفّ ..وأيضا لأن سلطة المكان في اللحظة الراهنة ، لم تعدّ قائمة كشرط ضروريّ ، لتوطين أجناس الفن أو تشتيتها ، ولاسيما تلك الفروع التي ارتبطت نشأتها بشروط الاستقرار مما ساهم في ظهور وازدهار ما يعرف بالفنون المقيمة ، كالعمارة والرسم والسرد .. ذلك لأن الأمكنة قد تداخلت في ما بينها بفضل النثر الذي أسبغته آليةُ التطوّر التقني الذي تشهده حياتُنا المعاصرة .. ناشرة سيمياء تحوّلاتها التقنية ، ولا سيما ثورة المواصلات والبثّ الإعلامي عبر الأقمار الصناعية التي توغلتْ بعيداً في الأطراف القصية ، والمناطق النائية .. بحيث لم تعد الرواية كجنس إبداعي فناً مدينياً خالصاً – ولا الشعر مشروطاً بأزمنة الفروسية ، وغبار الرحيل ، ووحشة المفازات ، فقد تشابك نسيجُ الفنون بتشابك نثر الأمكنة ، واختلاط أصواتها وإيقاعاتها في لحمة غنائية جديدة أكثر انزياحاً باتجاه صعود فن النثر شعرا وسردا ورسما وموسيقى .. وأصبحت جميعها ترتدي القماشة ذاتها وان اختلفت ألوانها ، وتنوّعت خامتها برغم ارتوائها من نبع شعرية واحدة . إلى الحدّ الذي ضاقتْ فيه المسافةُ بين حدودها – وصارت أهمّ الروايات تُعرف بقدرتها الشعرية العالية – كذلك الشأن مع فن الرسم الذي يقاسُ غالباً بجموح مخيّلته الشعرية ، وما صنعه التلوين سوى مهارة ينبغي إتقانها كما هو الحال مع الألفاظ كمادة خام للفنون الكتابية .. تتطلّب صنعتها تعلّماً ودربة ومهارة خاصة ، ووفقاً لهذا القران الشرعي بين نثريات الأجناس الفنية والأدبية ، فأن فتحاً جديداً لا شُبهة فيه بدأ يشهده تاريخُ الفن الروائي .. عبر توطين السرد في مناطق الشعر (الصحراء ) .

غلاف_رواية التبر

قد كان الروائي الليبي ( إبراهيم الكوني ) أحد الذين ساهموا في تأسيس هذا الاتّجاه ( شعرية السرد ) . وربّما يعود إليه الفضل في تفوّق السرد الصحراوي .. باعتباره الروائي الوحيد الذي كرّسَ مشروعه السردي بالكامل لنثر عالم الصحراء ، التي تتجلّى دون مواربة في خطابه كسؤال وجود ، وليس مجرد مناطق حدث تندرج في خلفيات النص كفضاء بلا ملامح . وهذه المناطق إذا كانتْ مؤثثة بالضياع والموت في ( نهايات ) عبدالرحمن منيف ، وتشي بالغرابة والخوف والتوجّس من المكان في ( فساد الأمكنة ) لصبري موسى .. فأنّها لدى ( الكوني ) تقترحُ الوعد ، والتوق ، وانتصار المعرفة .. ولعلّه في عناوينه العديدة : الرباعية ، والمجوس والتبر قد سبر المجهول ونكش أبجدية الصحراء ، واستنطق ما تضمره إشاراتها من مسكوت عنه .

تعد رواية التبر في تجربة الكوني – حسب قرائتي – الرواية الأكثر غرائبية ، التي تكوّن خامُها المعرفي من صوفية الرؤى وشعرية النثر الوحشي لتجسّد صراع الحياة والموت في أبلغ تجلياتها مأساوية وعنفاً . حيث يلتقط (الكوني ) تيمة محورية في حكايته ، تنحصر تحديداً حول علاقة البدوي بجملة . هذه العلاقة التي تتشابك فيها الفروسية بأسمى دلالتها شهامة ونبلاً .. عبر ذلك الحب الذي لا يُفسّر بين ( أوخيذ ) بطل الرواية والمهري .. ليسوق دائماً ما يشي بالمطلق ، عندما يسمو الإنسان بمعرفته إزاء اكتشافه لتلك اللحظة المستحيلة ، كإشارة علوًّ يتعذّرُ تأويلها من خارجها . هذه هي المسألة .. لأن ( أوخيذ ) وحده من يدرك السرّ ، ويعرفُ مهابة ذلك المهري الأبلق ، فيعشقه دونما رحمة بنفسه أو ذويه ، مضحّياً من أجله بكل شيء ليدفع في نهاية المطاف حياته ثمناً ، وفداءً لهذا العشق .. ولا سيما أن ارتباطه بالأبلق قد بلغ حداً جديراً بأن يُقدّ المديح في قصيدة شعر تستحق مكابدة التعب والرحيل ، ليقصد شاعرة معروفة من قبائل “كيل أبادا ” طالباً منها أن تقرض قصيدة مديح للمهري ، تمجّدُ خصائله ، وتطري مواهبه ، أسوة بالفرسان الأبطال من المحاربين .. ” وجلس طوال المساء يُحصى لها خصائص الأبلق :

أبلق رشيق .. ممشوق القوام .. نبيل ، شجاع وفيّ ” .

أن رواية التبر تُعدُّ من ذلك الصنف السردي الذي يوقظ المنسي ، ويحرّك المهمل وينبشُ أسرار الصحراء الغامضة .. وهي تقدّم في بساطة شديدة الوضوح حكاية مشحونة بلهب حكاء آسر : أن تنأى كثيراً عن شعرية نثره تُفتكُ بك ضراوةُ البرد ، وأن تقتربْ أكثر ، تحترق معرفتك ، وتمسى هباءً في مهبّ عاصف لا أين له .. وبالتالي يتعذّر الاقتراب من الكوني دون قراءة مختلفة ومتعدّدة للفضاء من داخل النصّ لملامسة هذه الميثولوجيا الضاجة بسحر الأساطير التي تجعل من الصحراء سيدة حلم مطلق لا يُضاهي . هذه الموحشةُ ، الأَمّارةُ بالتجنّح حدّ الهلاك ، حيث لا أحد سوى ( أوخيذ ) وجملة الأبلق يتحدّيان ناموس الموت . وهنا يضعك ( الكوني ) إزاء منطقة مغايرة لا شبيه لها . وهو على الرغم من احترامه لكلاسيكية السرد ، إلاّ أنه يظهرُ في صياغة التبر أكثر ملامسة لشعرية الحالة كفضاء مفتوح يتوق لنثر العالم .

بلاغة السرد هنا تبدأ من اللحظة تلك ، التي يُصاب فيها المهري بالجرب ، كمأزق تفترض الحكاية تصعيد وتيرته الدرامية على المستويين السطحي والعميق .. بحيث يحافظ على تناغم العبارة مع إيقاعية الحدث ..لحظة بلحظة ، متتبعاً تصاعد مشاعر الخوف لدى ( أوخيذ ) على مصير الأبلق الذي بات مهدّداً بالمرض ” فالأبلق لم يعد أبلقاً كما كان .. اختفت البقع البديعة من الجسد الرمادي .. اختفتْ النظرة الذكية من العينين الساحرتين ، والقوامُ الرشيق الممشوق تحوّل إلى هيكل أسود مترهّل مبقّع بالظلمة ، خيال شاحب وبائس لكائن آخر “.

وحيال المرض الذي تفاقم نهمه ليفتك بالأبلق .. كان لابُدّ من تنفيذ وصية الشيخ الحكيم بجلب عشبة الجن . لتبدأ معاناة ( أوخيذ ) الحقيقية بعنفها المأسوي – وفي نفس الوقت تفترض السردية مشيئة الانفلات من سلطة الراوي ، لتغدو شخصية مستقلة ، غير مشروطة بأية احتمالات يمكن أن يتحكّم السارد في ضبط إيقاعها . وهي أيضا لا تسمح بأي تناص مع سيرة ( الشنفرى ) ، اذا افترضنا ذلك كحالة نفي اختياري تقترح من العزلة وأنسنة الحيوان مسافةً أخرى للمعرفة .. لأن رواية التبر وببساطة شديدة الوضوح هي حفر عميق في منطقة نائية خارج الحدس . وما فعله الراوي يكمن في إطلاق سراح العبارة .. فأضحت بضع كلمات تحلّق في سماء مجهولة . هذه هي الإشارة التي يمكن تكريسها هنا ، باتجاه ما نطلق عليه : ضرورة نثر العالم . ولعل هذا التحليل يحتاج إلى توسيع خاطرته على النحو الذي يجعل أبنيته أكثر صلابة ووضوحا.

سنتوقف هنا حدّ سؤال هذه الرواية الذي يوقظ مخيلة القراءة في خاتمة مطاف التبر ، وهو : لماذا اقترف ( أوخيذ ) بيده نهاية مصيره الفاجع ، عندما تخلّى بمشيئته عن الزوجة والولد والوطن والذهب ..مقابل أن يكون الأبلق له وحده .. مقتفياً في آخر الأمر حتفه دون ريب .. هكذا :

” انشطرتْ الظلمةُ بالقبس المفاجئ .

ضرب بيتَ الظلمات زلزال .

انهار الجدارُ الفضيعُ بضربة سيف النّور ..

فتبدّى الكائن الخفيّ ..

ولكن بعد فوات الأوان ..

لأنّه لن يستطيع أبداً

أن يُحدّث أحداً ” .

________

*عن كتابنا ( عتبة لنثر العالم ) منشورات مجلة فضاءات 2005 .

مقالات ذات علاقة

هل يغلب الشعر الزمن؟

عبدالرحمن شلقم

دونية المرأة في الذاكرة الليبية الجمعية

وفاء البوعيسي

السور

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق