النقد

رفع اللبس أو شبهة الضياع

نضـال زيـدان

أعترف بداية أنها مغامرة، طالما هو المضي في المجهول، وطالما هو الطريق في الشعر، الذي لم نعد نستطعه نصاً، أو ملاحقة تنظيراته، أو الدخول في عوالم الشعراء. النص أصبح حالة خاصة، دائرة مغلقة على نفسها، كيان مستقل، وحيد خلية يملك ما يمكنه من البقاء دون الحاجة لوسط يمده. أقول هذا الكلام لأني وجدت نفسي متورطاً في القراءة، لم أعتد أن أرفع الغلاف لأعيده، إنما لأقلب الصفحة والصفحة والصفحات، حتى لا أجد ما أقلبه في الغلاف الأخير، والورطة أوقـعتني مع صديق خصني بكتابه الأول1، بعد أن أصررت على الحصول عليه ورقياً، فمازل للورق حساسيته، وقدرته على نقل حرارة الكلمات _على الأقل نحن الذين تقف ذائقتنا النتّية عند حد الإيميل والتصفح_، وما كنت لأستمر لولا معرفتي بالشاعر وشعره، من خلال مراسلات مطولة بيننا، قال لي: (شوف، أنا أريد لأولادي أن يكونوا هم، لا ما أريد أنا، وإلا اخترت لنفسي تقاسيم أخرى بطولٍ فارع وجسدٍ رياضي، واخترت غير الشعر؛ لكنا نولد بمشيئة، ونحيا على هذه المشيئة، لذا لم أختر ما يمثلني آنياً، أخترت أن أقول لأولادي انطلقوا وعيشوا، فكلٍ على مشيئة لحظته). عدت لأقرأ المجموعة من جديد، فهو في أحد رسائله يقول لي: (لا تحاول الدخول بمرجعية سابقة _في ليبيا نقول (أرخي نفسك تعوم)_ إخلع نعليك وادخل). وهكذا من العنوان (مباهج السيدة واو)2، قررت الدخول حافياً.

يقول: (أحلم كثيراً بـأن تكون لي بنتٌ صغيرة _أتمنى أن تظل صغيرة ولا تكبر_، وهكذ وجدتني أمام الصغيرة وئام أو واو كما تحبب بين أهلها، أستدرك ما فاتني). إذاً فرامز يغير مسار الرحلة لنبحث في هذه المباهج لا السيدة، فهي كمكون وظيفته تحفيزنا للنظر فيما حولها، فيما تثيره، فيما توجده _لا أخبذ مفردة الخلق_، إنه يصرف نظرنا عنها باتجاه المباهج. لذا فهو في هذا النص العنوان (مباهج السيدة واو) يقدم الصورة مباشرة من خلال تقسيم النص إلى فقرات معنونة: السيدة واو/ مباهج السيدة واو/ تداخلات السيدة واو، والسيدة واو القاسم المشترك في هذه العناوين لا تمثل الهدف، بقدر ما تمثل التابع، هذا يذكرني بالارتباط التشاعبي، الذي لا يقف فيه الرابط محدداً في جملة إخباره، بينما تنتظم تحته وتتشعب مجموعة الاتباطات، وهو يشبه إلى حدٍ كبير ما تقوم عليه الإنترنت، في ارتباطاتها النصية التي يقودك كل رابطٍ فيها إلى آخر وآخر، ويتشعب في آخر وآخر.

مباهج السيدة (واو)

هي../ آخر النساء الجميلات/ نسغُ السجود الطويل/ معراجي إلى السماءْ/ الحلمُ الذي آنستهُ/ كان ولا غادر/

تجيءُ وإيَّـاها العصافير/ يشي بها الصباح دُعاءَ/ ويرجِّـعها المساء/ سـرواً وارفـاً/ يشاكلُ نسمة.

تصخبُ الليلة، فتلجئين/ غابةٌ بصدري/ تواعد السكينةْ/ وان الإمارةَ مُنَاصَفة.

وفي المقطع التالي يؤكد هذا، باستحضار (هي) المخصصة للقصد (للمعنية في ذاتها)، بحيث لا يعود الأمر مرتبطاً بواو، بل بالقصد بها (هي) في صفاتها:

هي../ نوع النساء الذي أحبْ/ وأكرهْ/ مجادلتها لباسي،/ فلا أتعنَّقْ/ ترشفين قهوتك وعطري/ بقيةٌّ/ تأخذني، فأرخي نظري جانباً.

أحبُّ النساء المحذِّرات/ وطعمَ المراقبة في العينينْ/ أشـياءٌ في منتهى السهولة/ أشياء، كحلمِ النهار/ متاحْ/ فابدئي بتغيير المفردات/ وإعادة تصفيف المرَكَّباتْ/ واحدةً/ واحدةْ.

هذا الترابط التشعابي، هو حقيقته ترابط تسلسلي، يفترض نصاً في اتجاه واحد (نعني بناء النص). لكن من أين يقيننا بالضياع والتشتت في نصوص المجموعة؟، يقول رامز: (أصارحك وأقول، أنه لم يكن يحتفى بما أكتب، البعض ينبه للثرثرة، والبعض يقول: أنت تتوه، وتتوهنا معك). هذا الأحساس هو النتيجة الطبيعية لهذا الترابط التشاعبي الذي يحكم وحدات وبناء النص، أو كما يعرف بالبناء الهرمي أو الهيكلي، الذي يبدأ عادة برأس (قمة) تتفرع عنها فروع أساسية، وبالتالي فروع فرعية وهكذا، وهذا البناء يتطلب قدرة من الشاعر على ضبط عملية التشعب لضمان اتزان النص، وقدرة من المتلقي للنظر للنص كهيكلٍ واحد (كل النص)، حتى يتملك قدرة العمل نزولاً في كل تشعب. هذه التشعبات تتحرك بشكل متوازي (من أعلى إلى أسفل) لذا فالواقف في المنتصف سوف يكتشف نفسه في متاهة، يفق معها طريق دخوله. والشكل التالي يبين هيكل بناء نص العنوان (مباهج السيدة واو):

 

هذا الشكل يوضح بناء النص في شكله التشعبي/ الهرمي الذي يتسع كلما استمرينا بالنزول، وأشير إلى أن مجموعة من قصائد المباهج تتبع نفس النظام (ثمة شيء- مدينة بلا شوارع- السيدة الكبيرة-…)، وهذا البناء كما ذكرنا آنفاً هو بناء يتطلب العمل في اتجاهٍ عمودي وأفقي، وهي حركة تربك قارئ النص، وتصور الشاعر ضائعاً ويريد له الضياع، وأنه لا يمل الثرثرة. وهنا يسأل الشاعر: (هل حقاً علي شراء مقص؟)، يكمن إغراء النص في استدراجه الشاعر  للذهاب بعيداً في الذات، وهي مسألة شغلت أكثر من ناقد في استهلاك السرد لطاقة الشاعر3، في الحواشي والتفاصيل التي تظهر أكثر وضوحاً، وكأن الشاعر يعمل عله هذه الحواشي، ولا نعني الهامش4 إنما ديكورات المشهد كما في لغة السينما، إذ المشهد لا يعتمد على الممثلين فقط، بل يكتمل في الخلفية ومتطلبات الديكور من ألوان وقطع وأفراد تعمل في ذات الاتجاه، مشهد موازي للمشهد الأساسي، ولو اطلعنا على سكريبت هذا المشهد (أي سكريبت لمشهد سينمائي) لوجدنا أن المشهد الأساسي يتصل في كل أجزائه مع التفصيلات الأخرى، إذ سيحتوي السكريبت على: مكان وزمان المشهد، الديكورات، تفصيل الحركة، وضعيات الإضاءة، الصوت، الملابس، الألوان، وغيرها، ولا يبقى إلا سطراً أو اثنين لأبطال المشهد.. وبالنظر، لما يحدث حولنا، يتأكد لنا الاهتمام الكبـير بالإبهار والبحث فيه، وهو العمل على المساحة الفراغ من الصورة، واستغلال ما يمكن من تفاصيلها لتحقيق حالة من الاهتمام بالمحتوى، حالة تواصل بصري لأكبر قدرٍ ممكن، فالساعة مثلاً تمثل أقل مساحة من إعلانها الذي تعمل فيه صورة عارضة الأزياء (الموديل) مستولية على كل المشهد.

ثمـة شـيء:

وهكذا.. نقتنص لنا موعداً/ فثمة مواعيد، وثمة مواعيد ليست لنا/ ونحن إذا يلفنا الأسمنت/ ألف عين هناك/ ألفة تطردنا، لنمارس صيغتنا الخاصة علناً.

ولأن العصافير لم تعد تصلي صباحاً/ ولا الحمام عاد بما حمل/ ولا عاد الصغار مغرمون باللعب/ ولا الطريق يأتي بالفاتنات/ ولآن الزهور اختارت غير ما نعرف/ فصارت حادة/ وباردة/ صار يمكن الآن التمتع بحياتها أكثر/ وما عاد، ذلك الصبي/ يذكر الطريق/ كم مشت حافيتان/ كانت خمس أصابع،/ أربع أصابع/ -سكر بأحدها الذئب/ والجرو الذي خاطبته يوماً بذا/ سال سبعاً بعيداً/ هي لم تكن الغابات آوته/ هي لم تكن الفراش الذي يسكن إليه/ كانت صيغة أخرى/ …

هنا يأخذنا النص إلى التفصيل المرافقة، التي رصدها الشاعر (قبلنا بالطبع)، وأعاد صفّـها بحيث استأثرت بالمشهد (غلبت عليه)، حتى لم يعد من السّهل فصل المشهد الأساسي عن المشاهد الموازية، وهي آلية اعتمدت كأداة إيحائية معولٌ عليها في الفنون البصرية الحديثة، فما عاد من السهل فصل المشهد عن مرجعياته، ورامز لا يحاول إقصاء هذه المرجعيات، هو في هذه المجموعة وغيرها5، يعمل بجد على إظهارها وتوكيدها، ورسمها بكامل حدودها، وهي صورة مقصودة يتغلب بها الشاعر على المباشرة، وكذا الهروب في التفاصيل البعيدة عن التصريح، لذا فإن التوصيفات تكثر، وكذا الترادفات والمقابلات، حد الإسراف.. ونحن نقول بأن الشاعر يحاول الحياة في النص، أو ممارسة الفعل (فعله هو) في النص، فيعيد إنتاج المشهد من جديد، بما يحقق له تماهياً يشبع شهوة الرواية، وهي الشهور التي تحرك النص وتتحكم فيه، بذا فهي تتواتر في استمرار النص، وتتحرك في التفاصيل.

الأميرة:

قالت: ستأتي !!/ أبهى ما تكون/ فتخرج العصافير مرحبة، والفتيات/ تعبر ابتسامتها بهذا الحجم/ فنتأخر خطوتين/ يسعها المكان أكثر بدوننا/ لكني انتظرت/ لعشرٍ انتظرت/ وغام السحاب.

قالت: سيحملها السحاب !!!/ سأنتظر/ سأعد/ سأمنح الأسماء/ والكثير من الأبناء،/ ستكون أثنى عشر، بعدد الحلم/ :سيحملها السحاب !!

في حوارٍ معه، يقول رامز: (شخصياً، أكتب نصي الشعري، أمارس فيه تحليقي وعربدتي، أجاوز فيه نفسي، مستهلكاً كل ذخيرتي برضا)6. يتأكد لنا في هذه المجموعة الحرية التي يمارسها الشاعر، وحرية الحركة في النص، فهو يعول على تنتجه ذائقته، ففي هذا المقتطف من نص (الأميرة) لا مرجعية للـ/عشر والـ/اثني عشر إللا عند الشاعر. فهذه الأيقونات هي علامة مسجلة للنص (للشاعر)، مكونة في مجموعها ثيماتٍ ميثية تفيدنا في القراءة، وبالتالي ما يحتمله النص من دلالاتٍ (ما يمكننا التعويل عليه). فالنص لا يستعين بمراجع خارجية، إنه يعمل حتى تنتج تجربته الحل اللازم، هو يستعين بأدواته مراراً (هذا يفسر الاستخدام المتكرار لبعض المفردات في القصد عينه)، ويستخدم ذات الخطوات (وهذا يفسر الاعتماد على آلية شبه ثابتة في تكوين الجملة، واللعب عليها)، ويثق بقوة بما يتحقق (هذا يفسره الحضور الغريب لبعض المفردات، والإحالات، واستحالة بعضها كوجود). وهذه الأخيرة يمكننا تمييزها بسهولة، ففي مقتطفنا _السابق_ من نص/ ثمة شيء، ترد جملة تعليقية (سكر بأحدها الذئب) تعليقاً على ترادف (كانت خمس أصابع،/ أربع أصابع)، هذه الإحالة لا يدرك كنهها ويعيها إلا الشاعر، أما نحن فحتى (الذئب) كمبحث ميثي لا يفيدنا في شيء إلا في تخمين الذئب الذي سكر بأحد الأصابع، حتى إن النص يستقيم بدونها، (وما عاد، ذلك الصبي/ يذكر الطريق/ كم مشت حافيتان/ كانت خمس أصابع،/ أربع أصابع/ والجرو الذي خاطبته يوماً بذا/ سال سبعاً بعيداً/ هي لم تكن الغابات آوته/ هي لم تكن الفراش الذي يسكن إليه/ كانت صيغة أخرى/ …)، وهي تأتي تلبية لغاية، ولا تأتي زائدة.

نص رامز النويصري يتميز بخصوصيته، وتميزه أداءً وخطاباً، حتى إنا نميزه7 دون جهد، فهو نص حميمي، على داجة عالية من التفاعل الحسي _التفاعل الداخلي_، لا يحتفي كثيراً بالشكل، منحاز للنثر كطاقة قادرة على تجاوز النمطية، والقولبة.. اللغة رطبة، وجافة في بعض أجزائها، لا يغامر بإطلاقها يحاول احتوائها وتقريبها منه.. وهو نص على درجة من التقنية، في إنتاجه الحديث يتوافر على قدرٍ كبير من التجربة وتجاوز حدود اللحظة، إذ لا يعود الاحتفاء باللغة يكلف الشاعر، ولا يستدعي القاموس، إنه يرصد الوقع لا الحدث، يعمل على أجزاء الحس/الأثر الباقي:

فمن أي الدروب؟

نعبر الخندق إليك،

وندسُّ في جيبك صورتنا الجماعية على حدِّ البحر،

نفجر فيها أسناننا

وشعورنا كما تريد الريح..9

لقد احتجت وقتا لكتابة هذه الأسطر، تبادلنا خلالها الكثير من الرسائل، وتناقشنا، استطعت أن أدرك علاقة رامز بالنص، وقراءته الخاصة له، والوقوف على آراءه في الشعر، وإحاطته بالحركة الشعرية الحديثة في ليبيا خاصة جيل الشباب8، أما كتابتي هذه فلأني وجدت من واجبي كشف النص، ورفع اللبس عما سماه رامز (لبس الضياع).

حواشي:

1- أفادني الشاعر أن هذه المجموعة كان من المفترض أن تكون الثانية، لولا تأخر الناشر في إصدار مجموعته الأولى “بعض من سيرة المشاكس”، التي ينشرها ضمن موقعه، مع العلم أن للشاعر قبل هاتين المجموعتين مجموعة صادرة عن مجلة (أفـق) بعنوان (صخب خارجي).

2- رامز رمضان النويصري (مباهج السيدة واو)_ منشورات مجلة المؤتمر/طرابلس_ 2004.

3- تعتمد الرواية على السرد، وهنا لا يكون السرد عامل استهلاك لطاقة الرواي، إنما يعمل على تحفيزه للتداعي أكثر.

4- الهامش بمعنى البعيد عن المشهد، وهي الصورة البعيدة عن النظر، المتوارية في الأزقة الخلفية.

5- تشير السيردة الذاتية للشاعر، أنه صدرت له ثلاث مجموعات، إحداها إلكترونية، وهي تعتمد التداعي وإحاطة بالمشهد، بينما مجموعة الشاعر (فيزياء المكان) وهي مجموعة غير منشورة تختلف تماماً عما كتبه رامز سابقاً، إذ تقاطع هذا المبدئ وتنحاز للعمل باقتصادٍ تام.

6- (رامز النويصري: نشأنا بانفصال تام عن تجربتنا المحلية) حوار/ مجلة أفق الإلكترونية- 28/6/2005.

7- أعتمد على ما قرأته للشاعر من مجموعات، ونصوص له نشرت في: أفق/ منتدى فضاءات/ مدينة على هدب طفل/ كتابات/ أدب/.. وغيرها.

8- يمكن قراءة الحوار الخاص مع الشاعر في موقع مجلة أفق، ودراسته عن الحركة الشعرية في ليبيا المنشورة في منتدى فضاءات.

9- من مجموعة (فيزياء المكان) أخبرني الشاعر إنها معدة للنشر.

مقالات ذات علاقة

أثر الغائبين: نهلة العربي تسرد قصتها مع السرطان

إبراهيم حميدان

حفر السؤال بإبرة خياطة

المشرف العام

التَّذَوُّقُ الأَدَبِيُّ وَإِبْدَاعِيَّةُ التَّلَقِي

خالد السحاتي

اترك تعليق