المقالة

رحيل رسام ليبي كبير .. الاستاذ طاهر المغربي

قرات بكثير من الالم والحزن والاحساس بالفقدان الخبر الذي انتشر في صحفات الفيس بوك، عن رحيل الفنان التشكيلي الليبي الكبير طاهر المغربي صاحب الانتاج الغزير المتميز في مجال الرسم والتصوير، وصاحب الشخصية النقية النزيهة العفيفة الذي ترفع عن اي ممارسات الا تلك التي تلتزم بالفن وتحفظ للفنان شرفه وعزته ومكانته، وقد جمعني به العمل الوظيفى في فترة السبعينيات عندما كنت مديرا لادارة الفنون والاداب الذي تتبعها دائرة اسمها دائرة الفنون التشكيلية كان رئيسها وعميد رساميها الاستاذ طاهر المغربي، يعاونه نوابغ الفن الليبي من امثال على العباني وعلى عمر ارميص وعلى مصطفى رمضان، اطال الله اعمارهم، وكان هو قائد اعنيدا منافحا عن الفن، مؤمنا برسالته قادرا على توضيح صورته للراي العام ، وكان مساهما في انشاء نادي الفنانين التشكيليين وقد اختاره رفاقه رئيسا لهذا النادي فجمع في فترةمن الفترات بين هذين المهمتين.

الفنان التشكيلي الطاهر المغربي

كان في تلك الفترة عائدا من ايطاليا التي درس بها التصوير، ومارسه هناك لبضعة اعوام، وكان يمكن بالتاكيد ان يحقق لنفسه مكانة في ذلك المجتمع الاجنبي ولكن للفنان المغربي، رحمه الله، طاقة من الاخلاص للبيئة لها تجلياتها في لوحاته بمثل ما لها تجلياته في سلوكه ومواقفه وممارساته ووفاء للوطن ومفرداته، له ايضا تجلياته في فنه وفي سلوكه، ولهذا كان يؤثر مكانا متواضعا في بلاده على شهرة ونجاح مالي في بلاد الاخرين، اما بالنسبة لمكانته كفنان فاعتقد ان هناك من اهل الاختصاص من انصف مساهماته وقام بوضعها في سياق الفنون التشكيلية محليا وعربيا وعالمياـ واستطيع وقد ودع الحياة هذا الصباح، وقفل سجل عمله الدنيوي، ان اقول انطباعا عن لوحاته التي رايت كثيرا منها، ووجدت فيها ما استطيع ان اعتبره مدرسته واسلوبه وشخصياته ومفرداته الخاصة كرسام ليبي، وقد اشرت الى طاقة من الاخلاص للبيئة تتجلي في اختيار اللوحات التي يرسمها والتي تستطيع ان تضع يدك على جذوره الجنوبية وعلى تاثره بتلك البيئة ومفرداتها الشعبية التي تحفل بها لوحاته، وانا هنا اكتفي بوضع رؤوس مواضيع يمكن ان اعود الى تفصيلها مرة اخرى، والنقطة الثانية هي انه رجل من اهل التقوى والصلاح والالتزام الديني، ولهذا كان يزين بعض لوحاته ببعض الايات الشريفة او التعبيرات الدينية المعروفة وطبعا العاطفة الدينية قد تحد احيانا من انطلاق الفنان الى افاق المغامرة التي يذهب اليها فنان ليس لديه هذا الالتزام، ولكنه بقدر ما يحد من القدرة على الانطلاق فهو يمنح صاحبه لمسة اقرب الى الصوفية تتجلي في بعض هذه اللوحة ، وساغامر بقول راي اخر ربما يحتاج الى راي المتخصصين لتاكيده، فهو برغم دراسته الاكاديمية وفهمه لما يسمى النسبة والتناسب او بالاصطلاح الاجنبي Sense of proportion
أجد في رسومه احيانا لمسات تنتمي الى الفن الفطري الشعبي البدئي، الذي يرسمه نوابغ من اهل الفطرة لم يذهبوا الى المدارس، ولعل اشهرهم رسام عالمي فرنسي اسمه هنري روسو، كان بيكاسو يعتبره استاذه، مع انه يرسم لوحات من الفطرة ولا ادري من اين جاء في لوحات المغربي هذا المزج بين الرقي المهني وبين اللمسة الفطرية والسذاجة الشعبية ، ولكن الاميل الى انه مشبع بالفن الشعبي الذي نجده بغزارة في جداريات الكهوف في الجنوب ويتجلي دائما في الاحتفالات الشعبية الدينية وفي اللوحات التي تحتفي بالسير الشعبية كتلك التي ترسم لسيدناعلى بن ابي طالب واخرى لابي زيد الهلالي وابطال السيرة الهلالية والسير الشعبية الاخرى .
وكما قلت هذه مجرد رؤوس مواضيع لانطباعات عاجلة واحب الان ان اضع امام الناس موقفا جريئا سجلته في احد مقالاتي ينقل مواجهة بين المرحوم الطاهر المغربي واحد اعضاء المجلس العسكري الانقلابي حصل في قاعة مجلس النواب القديم التي تحولت الى قاعة للملتقيات والمحاضرات فترة من الوقت وقد نشر هذا المقال منذ ما يقرب من عشر سنوات في مجلة المؤتمر التابعة لدولة الانقلاب وهذا هو نص المقال

من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)

وظيفة الفن في تجميل الحياة

ذات ندوة ثقافية في مطلع السبعينات ، حضرها الادباء والفنانون والاعلاميون ، لمناقشة مندوب من مجلس قيادة الثورة لشرح السياسة الجديدة في مجالا ت الاعلام والثقافة ، ولامر ما سهى هذا المسئول القيادي ان يشير الى موضوع الفنون التشكيلية وما احتوته الخطة الجديدة من اهتمام بها ، فتصدى له بغضب وحماس الفنان التشكيلي المعروف الاستاذ طاهر المغربي متسائلا عن فحوى سياسة الدولة في هذا المجال ، مستنكرا على هذا الرجل القيادي ان ينسى الفنون التشكيلية قائلا له ان الفنون التشكيلية ان كنت لا تعلم ايها السيد الوزير ، تدخل في كل منحى من مناحي الحياة ، فهذه القاعة التي تجلس فيها هي فنون تشكيلية وهذه الطاولة التي تجلس اليها والكرسي الذي تجلس فوقه هما فنون تشكيلية وهذه البذلة العسكرية التي ترتديها برتبها ونجومها هي فنون تشكيلية، وهذه الساعة التي في معصمك فنون تشكيلية ، وهذه السيارة التي اقلتك الى هذا المكان فنون تشكيلية، والبيت التي تسكن فيه ، وغرفة النوم التي تنام بها والسرير الذي تنام فوقه، والصحن االذي تأكل فيه طعامك هو فنون تشكيلية ، ومضى يعدد له مظاهر الحياة التي يحياها والتي رافقته كما رافقت أي انسان منذ طفولته هي انواع من الفنون التشكيلية من المهد الذي تهدهده فيه امه، الى التابوت الذي سينقل فيه عندما يموت الى متواه الاخير،واللحد الذي ستوضع فيه عظامه بعد عمر طويل كلها فنون تشكيلية ، وليس مجرد اللوحة التي يراها معلقة على الجدار او الصورة التي يراها مرسومة في صحيفة او مجلة ، الى حد صار معه الرجل يرجو الفنان الكبير ان يتقبل عذره لانه ما جاء الى هذا المكان الا للحديث عن الخطوط العريضة لسياسة وزارته في هذه المجالات تاركا التفاصيل لاهل الاختصاص ، قائلا للاستاذ الطاهر المغربي ، بعد ان فتش بين اوراقه ، ان وزارته لم تهمل الفنون التشكيلية بدليل ان هناك دائرة اسمها دائرة الفنون التشكيلية وان هناك ايضا ناديا للرسامين يستطيع ان يذهب السيد الطاهر لرئيس هذه الدائرة ورئيس هذا النادي ليشرحا له السياسة الجديدة الخاصة بهذا المجال فكانت المفارقة التي جاءت على لسان الفنان الطاهر المغربي ، في رده على هذا المسئول انه “انا يا سيادة الوزير هو رئيس دائرة الفنون التشكيلية وانا هورئيس نادي الرسامين” ، لم يكن الفنان الطاهر المغربي معنيا في هذه المواجهة بينه وبين الوزير ، بفلسفة الفن بقدر ما كان معنيا باظهار اهمية الفن في الحياة وضرورة اهتمام الحكومة الثورية في ذلك الوقت به ضمن اهتمامها بتطوير الوان الفن الاخرى ، دون ان نحتاج هنا الى ان نقول ان هذه الالوان من الفن مجتمعة تشترك في الاهداف ولاغراض ، اذ ان مهمتها دائما هي تجميل الحياة ، وجعلها اكثر احتمالا او كما يقول نيتشه ” تبرير الوجود كواقع جمالي ” بل هو يطالبه بان يفاجئنا دائما ويخلق بدائل لوجودنا ، ويحمله مسئولية اقناعنا بالعيش في المستقبل . اما هيجل فهو الذي يقول في كتابه حول علم الجمال ، بان جمال الفنون يرافق الانسان في حياته صديقا وفيا ليجعل لحظات وجوده اكثر لطفا وفرحا. وعودة الى كلام فناننا الكبيرالطاهر المغربي ، فان الفن بالصورة التي ذكرها ليس مجرد محطات في حياة الانسان يقف عندها للراحة والترويح ، كما يقف المسافر في البرية في يوم قائظ تحت ظل شجرة ،يجاور نبعا او بئرا ، وانما صار الفن هو النهر الذي يعوم فيه الانسان او يمتطى قاربه ويتهادي فوق امواجه، ويصدق هذا اليوم اكثر من أي يوم مضي ، بانفجار ثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة والقنوات التي تصل لالاف المحطات يتلقاها المشاهد في بيته وشبكة الانترنت بامكانياتها الهائلة ، لتجعل الفن الذي تنقله هذه الوسائط باللون والصوت والصورة ، جماليات التشكيل والتصويروالتلوين ، مع فنون الموسيقى والغناء والرقص والاستعراض وفنون القول والحوار والتمثيل والاخراج ، كل ذلك يجعل الفنون، تشكيلية او غير تشكيلية ، جزءا من الحياة اليومية للانسان باكثر مما قال الفنان طاهر المغربي منذ اكثر من ثلاثين عاما مضت ، فهل هذا الكم الهائل ، الذي يجعل الفن في حياتنا جزءا من العادة والروتين يشكل تقوية للفن ، ام انه يضعفه ويصنع منه صورة باهتة بعيدة عن تلك المنابع القوية العميقة التي صنعت امجاد الرسم والموسقى والمسرح ، عندما كان الناس يذهبون الى هذه الفنون ، ويجعلونه احتفالا في احياتهم وهم يرتادون المعارض والمتاحف وقاعات العرض المسرحي والموسيقى ، لمشاهدة الاصل لا الصورة المأخوذة عن صورة ، هل الفن يتقدم ، ومعه تتقدم البشرية ، ام ان ما يحدث مع هذا الكم الهائل والسيل الهادر هو العكس ، لا ادري ، ولكن كل هذا لا ينفي الحقيقة الثابتة والدائمة لتلك الكلمات الجميلة التي شهدتها قاعة مجلس الامة القديمة على لسان فنان ينتصر للفن والفنانين في مواجهة وزير صار يبحلق في قبة المبني وينقل بصره بينها وبين البذلة التي يرتديها مندهشا من ان هذه القبة وهذه الاعمدة وهذه البذلة التي يرتديها ، هي فنون تشكيلية ، فاجاه كلام الفنان ، فصار حاله كحال المثري النبيل في مسرحية موليير عندما رقص ذلك الغني الجديد اندهاشا وهو يسمع من احد المعلمين ان ما يقوله من كلام عادي هو ما تسميه كتب الادب النثر .

مقالات ذات علاقة

الرجل الأخير في طرابلس

المشرف العام

ثمانون حولاً على معركة عافية

أمين مازن

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (3)

عبدالعزيز الصويعي

اترك تعليق