طيوب البراح

رحـلة

آية سحيبة

من أعمال التشكيلية حميدة صقر


المحطة الأولى.. ششششش، صوت العجلات.. الظلام حالك والهدوء يسود المكان.. ولا يسمع إسوى صوت الصياح والآهات، عندما تقفز الشاحنة عند بعض المطبات.

تصلني وشوشات من بقربي.. جذبني الحديث.. قال أحدهم: أريد أن أذهب إلى المحاكم ولا أريد أن أكون في يد باحث عن عمل حتى أكسب راحتي.. حقيقة؛ أرعبني ما قاله!! لا نية لي أن يكون داخلي محشواً بالجرائم والمجرمين والموتى والقتلة والسفاحين.. أريد أن أكون بداية مشوار دراسي، أو ملف لحياة مولود جديد، أو حياة زوجية بعد علاقة حب دامت لسنوات، أريد أن أكون بداية لا نهاية.

المحطة الثانية..  مر زمن على خروجنا من محطتنا الأولى.. لا شيء يُذكر.. توقف صوت العجلات فجأة.. لا أرى شيئاً!! ولازال صوت الوشوشات.

انتظرنا للحظات، رائحة الوقود تملأ المكان. سألني أخي الأصغر: هل هذا المكب؟! لم أعرف معنى الكلمة.

– ما المكب يا أزرق؟!!!

– أنه مكان تحرق فيه الملفات التي تتكدس على المكاتب في انتظار الوظائف الشاغرة.

بدأت العجلات بالحركة من جديد، علت أصوات التكبير والتهليل من أخوتي والجيران تعبيراً عن السعادة.. توقف قلبي عن الخفقان وتملكني شعور بالسرور والراحة.. فلا أحد يريد أن يموت محروقاً.

المحطة الثالثة.. لم نستمر طويلاً حتى توقفت الشاحنة مرة أخرى.. صوت عالي يقول: الصندوق الأول لقرطاسية الحكمة.. بدأ أحدهم بحمل بيتنا أنا وأخوتي، ووضعنا على بيوت أخرى.. شق البائع بيتنا من الأعلى رأيت محيا وجهه والشيب الذي يعلو رأسه.

بقيت لأيام أنتظر، حتى ذلك اليوم، عندما دخلت تلك السمراء ذات العينين السوداوين، حملتني، لم يناسبها لوني الأحمر كثيرا، ولكني بدوت جميلاً في يديها.. دفعت ثمني بضع قروش وخرجت!

المحطة الرابعة.. بدأت تملأني بأوراق. كانت الأولى شهادة جامعية تحمل وسم مسجد، كتب تحته كلية العلوم الشرعية، شعرت بالدهشة عندما قرأت مستواها الدراسي. تسألت: كم تعبت وكدحت حتى وصلت لهذه النتيجة؟ أما الأخرى فكانت شهادة ميلاد، كعدد لسنوات عاشتها، لا أظنها كثيرة.. أما الاخيرة فكانت شهادة إقامة لمكان يبدوا أنها لا تحبه، ولم تنتمي إليه يوماً.. كتبت على وجهي بحبر أسود، أنبأ بسواد أيامي القادمة اسمها.. كان “آية”.

المحطة الخامسة والأخيرة.. أتوجه الآن، أحمل آمال وأحلام وردية.. أمامي أكداس وأكداس من أبناء عمومتي الزُرق والصُفر والخُضر، وأخوتي الحُمر.

جلسنا نتحدث ونتسامر شهوراً وسنوات، فقدنا الكثير ممن ذهبوا ضحية إفطار صباحي، أو لتلميع مكاتب أحد الموظفين عند زيارة اللجان.. تراكمت علينا أكداس الغبار حتى أُصبت بداء الربو. اليوم سمعت من عمال النظافة أننا سنذهب للمكب.. لم أخف مثل المرة الأولى. فقط أصبت بخيبة أمل فـ”آية” لم تحصل على عمل.

مقالات ذات علاقة

السجناء الليبيين

المشرف العام

بقايا غصات

المشرف العام

بسبب الحزن أتلاشى

المشرف العام

اترك تعليق