النقد

رجل بأسره يمشى وحيدا

العمارى حطاب الأرض الوعرة*

 

عندما  نقرأ مسيرة مبدع ما ، منذ بدايته إلى مرحلة النضج الفني والإبداعي لكتابته  فأننا سنخرج بمحصلة تجربة  إنسانية وإبداعية لذات متميزة  بكل رؤاها المختلفة ،أو كما يقول هيرمان هيسه “أن حياة المرء ليست سوى طريقه إلى نفسه” كذلك هو  الشاعر  مفتاح العمارى الذي  بدأ طريق الشعر منذ  ثلاثين عاما بقصائد معبرة عن روح جياشة تلتحف بتهويمات رومانتيكية  لذات تتلمس خطاها في الحياة والشعر  كما فى قصائده” قيثارتى تعنى الا موت” و ” عندما تتحطم الأشياء” و  قصيدته “عندما يصرخ الصمت”، إلا أن الشاعر   خرج عن هذا الثوب الرومانسي لقصائده   عندما أبتدا نشر قصائده الطويلة التي عبرت عن  إحساسه الشعري برؤى  فكرية وإنسانية  مثل قصائده ” إلى امرأة تمارس التسكع في الشوارع العربية” و الخندق الفارغ” ولكنه لم ينشر أي من هذه القصائد في دواوينه  التي أصدرها بعد مدة  وهى عشرة دواوين شعرية  إلى الآن :قيامة الرمل،المقامات رجل بأسره يمشى وحيدا ،منازل الريح والشوارد والأوتاد، ديك الجن الطرابلسي رحلة الشنفرى،جنازة باذخة،مشية الأسر،نثر الغائب،السلطانة

أن مفتاح  الدخول  إلى عالم الشاعر ” مفتاح العمارى “هو التزود بالمعرفة لفك شفرة  نصوصه الشعرية  والتي تعبر عن قصائد  هي كما يقول الناقد ” ميشيل ريفانز”  القصيدة تقول شىء وتعنى شيئا آخر”

 فمسافة المس هي مسافة الشعر  وتلبس روح الشعر فى داخل الشاعر الذي ينشد قصيدته الطويلة  في عبق صوفي أخاذ  محمل بكثير من الرموز الدالة وخاصة في ديوانه الأول ” قيامة الرمل”

من مسافة المس

قادما أنا

زوادتي الحلم

مسافة المس

نقطة هي الكتابة

قصيدة هي الشعر كله

شعرة هي العقل

شعرة هي الجنون

هكذا الشعر يكون

فالكلمة السحرية فى معظم قصائد الشاعر مفتاح العمارى  هي التمرد الفكري  المتكئ على أرضية الوعي الحاد  وحده  وكثافة الخبرة المدججة بترسانة ثقافية لسلالة من الشعراء العرب والعالميين.

 عندما  نقرأ بعض قصائد  الشاعر مفتاح العمارى نستشعر  أرواح النفرى وبودلير وعروة ابن الورد ورامبو تتراقص في روح قصائده  فشاعر الحداثة المدافع عنها بشراسة العشاق والمحبين لايتنصل من تاريخه وأرثه العربي هو يتناص معه في لغة مفجرة  وفى رؤية مغايرة للتاريخ المكتوب بطريقة تقليدية ويناوشه ويقرأه  من زاوية معرفية أخرى ولذا نجد عناوين بعض دواوينه  محملة بهذه القراءات المختلفة مثل ديوانه “ديك الجن الطرابلسى ” و”رحلة الشنفرى”  في قراءة شعرية للإنسان العربي من خلال تاريخ بعض العلامات الشعرية المعروفة في التاريخ الأدبي  ولكن برؤية معرفية مختلفة تماما و  كما يقول فى قصيدته:

كان امرؤ القيس ببيت من الشعر

يشعل أجمل النساء

وكان عروة بن الورد يصنع من الشعر

أرغفة الفقراء وكان المتنبي بقصيدة واحدة

يراود الشمس فتسقط في كفه

و نلمح  عند قراءة بعض قصائده جو من الاحتفاء بالذات الممزوجة بغنائية عالية  كما في قصيدته الرائعة والجميلة  بديوانه ” رجل بأسره يمشى وحيدا” في نص مهيب وكأنه  ترتيل جوقة جنائزية لذات إنسانية  ترى قبح العالم بعيون شفافة:

 وحدي مكتفيا بالذي أنا

بالذي جسدي في الثياب البسيطة

أركض كما لو أن البروق أحذيتي

وحيدا أعوى

  وكأن صوت عروة بن الورد  يصدح في هذه الأبيات معويا في صحراء قومه  فهل هو عواء الروح الشعرية العربية التى ترصد الخراب وانكسار الأحلام  التي كانت بأتساع الكون، ونتلمس الحالة الذئبية في أكثر من نص شعري للشاعر مفتاح العمارى  والأستئذاب كما يقول جورج زيادة ” هو فوق كل اعتبار ثورة شخص يعوزه الانسجام مع بيئته وهذه هي الطبيعة البديهية  لأي مبدع حقيقي  لا يمتلك القدرة على التكيف   لتغدو مكسبا حقيقيا له  أو كما يقول كارل يونج  ” هذا النقص في التكيف  مع المجتمع هو ما يدفع الشاعر أو المبدع في العموم إلى الإبداع  وبالتالي فهي تغدو سمة  مميزة للشاعر لأنها تجعله يمتلك رؤية معرفية مختلفة  ويتناص الشاعر فى  مقطع شعري له بمقطع من قصيدة لشارل بودلير

أنا الجرح والسكين

والضحية والجلاد

 فى حين يقول الشاعر مفتاح العمارى  فى قصيدته “خيانة”

بيدي غدوت عبدي

نصفى جلاد

ونصفى الأخر ضحية

ولكن الشاعر رغم ذلك يوثق لغته ويطلق سراح  يده بالكتابة مدركا بان ثمة فخاخ منصوبة  وبنادق صيد مصوبة ناحية عصفور الشعر الذي سيواصل  الغناء حتى لو تضرج بدماء الواقع القاسي الذي يتسيده السماسرة وبائعي الأوهام:

أنا في هذا الوطن شجرة

في الشجرة عصفور

وان يكن ثمة فخاخ

وبنادق صيد

فللعصفور أغنية وجناحان

فحطاب الأرض الوعرة القاسية أختار البقاء وأختار أن يكون معوله هو فيض الكلمات المتدفقة  قوة وخيال مجنح  وبصيرة حادة فلا طريق سوى للشعر ولا خلاص إلا به كما يقول في قصيدته المحملة بعديد من الرموز واِلأشارات قصيدة” حطاب الأرض الوعرة”:

لأنى  من نسغ الأرض الوعرة

أبى حطاب أحلام

وأمي نساجة وعد

وولادة مغزى

لن أنوى الهجرة إلى لغة أخرى

لأطير مثل رماد مخدوع تتخاطفه طواحين

هواء فوق بروج من دخان

محمول بمباهج وهم

وثرثرة نزوات نزقة

ومهما تشردت لغتي

لن تأفل أغنيتي عن سماء منازلنا

ومزارع ألفتنا

وسيبقى دائما الشعر الذي يصعقنا برؤيته القوية الحادة ووعيه المكثف وخياله المجنح وحتى  بلعناته وأعطابه هو الشعر الذي يلامسنا من الداخل بقوة وعنف جميل .

مقالات ذات علاقة

الواقعية السحرية في رواية الفينكس

المشرف العام

بين العامية والفصحى وتداخل الأجناس الأدبية (أفاطِمَ مَهْلاً) قصة أم رواية؟

المشرف العام

رواية “عايدون”.. غربة وطن ونُخبة مُهَجَّرة

رأفت بالخير

اترك تعليق