سرد

رباية الذايح

رواية الفندق الجديد الكاملة – مقتطفات رقم 1 من الفصل الرابع

من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه
من أعمال التشكيلي محمد العارف عبيه

كانت سيارة سيدي جبريل تقل ركابها من خلف سيدي اخريبيش الي حيث ترغب العائلة تلك، والتي تكونت من زوج تظهر عليه أثار الفقر المدقع، انعكس علي ارتدائه لملابس رثة متقطعة، وامرأه بارعة القوام، وعلي درجة عالية من الجاذبية والجمال، يبدو أنها زوجته المصون، كان اسمها (نجوي)، و كان برفقتهما طفلان يذويان، سيتضح لاحقا بأنهما يعانيان من تشوه خلقي يمنعهما من المشي واللعب كبقية الأطفال

سيدي جبريل:

الآن حان وقت تحديد الوجهة! فأين تفضلون الإقامة، هل اذهب بكم ناحية منطقة الصابري، ستجدون زرا ريب وحلاليق وبعض الحيشان العربية الجديدة، منطقة الصابري هي المنطقة المحاذية لسي اخريبيش شرقا ولقد بدأت تتطور في طريقة بناء بيوتها، فما رائكم؟

ردت نجوي:

مافيش غير الصابري يا اسطي ؟

السائق جبريل محدثا نفسه:

واضح أن هذه المرأة متعبة، فهي التي تحاورني بدلا من زوجها !!هذا إذا كان زوجها حقا، فهو لا حول ولا قوة معها !!، هذه المرأة ستذهب بوقتي الثمين، إذن يجب أن أحسم الأمر معها لأعود إلي محطة الركاب من جديد.

…سآخذها إلي الحوش العربي الخالي من السكان الذي أصبح منذ خمسة أعوام ملكا لعيت الأدارسة، اعتقد أنه مناسبا جدا لسكن هؤلاء الغرباء.

ثم أضاف مخاطبا (قدري) و(نجوي)                                                                                                                                                                                                                                  

هناك غوط سكني جديد، اتذكر منذ عشرة سنوات أخذت إليه عائلة (سي أدم )..الله ايربحه، راجل صالح عصامي وتقي، ينذكر بالخير، وحافظ كتاب الله، وهي ليست كثيرة السكان فقط بها عائلتان هما عائلة (الاوادم) (سي أدم وأولاده )، و(سي إدريس وأولاده )كذلك،

نجوي:

شو بيعملوا ؟

 جبريل متمتما:

 يا عيب الشوم، ياما لامه يا بنغازي من ذوايح،!!

ثم خاطبهم:

هل أنتم من لبنان؟

قدري:

سيبك منها هذي من كثرة عشقها للراديو، واستماعها للبرامج،ودرت دوتها

نجوي تعيد السؤال:

ايش يشتغلوا ياعمي ؟

جبريل:

عائلة الأوادم.. عائلة سي أدم

 مهتمة بتحفيظ القرآن للأطفال خاصة،

وأبنائه وعاظ وفلاحين.

أما عائلة الأدارسة، عائلة سي إدريس فهم يملكون الكوشة ويجهزون فرادي الخبز، اما أعيالهم فأغلبهم حفارين.

 وأضاف:

. وهناك بعض السكان القلائل الذين توافدوا مع مر الأيام فما هو رائكم ؟

قدري:

شنو مافهمتش ؟

جبريل:

قلت هل نذهب الي سي أدم نبحث لكم عن بيت قرب مسجده ؟ ودكاكينه؟

أم أذهب بكم الي سي إدريس، نبحث لكم عن سكن قرب كوشته، ودكاكينه؟

ردت الزوجة:

معش فهمت خويا، ما أسم هذه الحي الجديد؟

: جبريل

غوط الأوادم، نسبة لأول من سكن أرضها سيدي أدم

قدري:

هل أنت متأكد ؟ لأن احد أولاد محطة الركاب، عند وصولنا بالكارو، نصحنا تستأجروا في منطقة الأدارسة تحديدا عند سي إدريس بوشرفادة،

فالمنطقة منطقة الادارسة؟ وليست منطقة الأوادم؟

امتعض السائق جبريل من المعلومات الخاطئة التي قدمها الراكب الغريب (قدري) لكنه سأل سؤال:

هل الذي أخبرك بالمعلومات الخاطئة له أنف طويل جدا ؟

قدري:

نعم.. ولكن كيف عرفت..؟

جبريل:

لم ينبس ببنس كلمة

.                                                                                                                                                                                          حتي لا يتورط في مزيدا من إهدار الوقت معهم

تدخلت الراكبة (نجوي) بالقول:

توكل شور عيت الأدارسة، (عيت إدريس بوشرفادة )،شوفلنا حوش للإيجار جنبهم،

لم يستغرق الأمر طويلا، فها هو السائق (جبريل)، يحسم الأمر،

 فلقد قرر التوجه رأسا إلي الغوط السكني الجديد التي بدأت تتحايا به الناس، فالغوط منذ أن سكنه سي (أدم) وزوجته العمة (حواء) سنة 1945، يشهد زيادة في السكان.!!

فلقد كانت أرض فضاء أختارها (سي أدم) ليبتعد عن ضجيج السكان، وينشيء سانية يزرع بها الخضروات واشجار الكروم والفواكه، ويتنعم بحفظ وتجويد القرآن الكريم، فلقد حقق حلمه في بناء مسجدا وخلوة لتحفيظ الأطفال تعاليم الذكر الحكيم، وكذلك في الفلاحة.

…ورغم أن (جبريل) يعلم أن هذه مثل هؤلاء السكان غير محبب قدومهم إلي الغوط، إلا أنه سيجد تبريرا لاحقا يكف به اللوم والتوبيخ الشديدين الذي سيلقاهما من طرف (سي أدم وأبنائه الوعاظ)، خصوصا وأن هذين الطفلين، سيعززان عدد الأطفال القلائل الذين يرتادون المسجد لحفظ القرآن الكريم.

…….لكن الشيء المطمئن له، أنه لأحد من عائلة الأوادم (علة سي أدم) سيتفطن أنه هو من أتي بهذه العيلة الجديدة للسكن في الغوط، كونهم لا يتواجدون في واجهة الغوط

وإذا ما اكتشفوا أنه هو من أتي بهم، فلن يكون هناك عقابا كبيرا سينتهي الأمر بتوبيخه والجلوس مع (سي أدم) في الجامع، ليلقي عليه خطبة عصماء ومحاضرة مليئة بالموعظة الحسنة، وبالتالي سيتعلم درسا دينيا مجانيا من هذا الرجل الصالح، ينفعه في حياته،  فحسم الأمر في قرارة نفسه، وعزم أن يتوجه بهم رأسا الي الحوش العربي المقابل لحوش( عيت الادارسة )، فهذا الحوش يخلو من السكان منذ الخمسة سنوات التي مضت !!، وهو يتوسط الكوشة، والدكاكين السبعة وبيت الأدارسة، واعتقد أن الشايب (إدريس بوشرفادة) سيرحب بتأجير هذا البيت الذي يشاع أن تحته تسكن عوالم الأرواح والعفاريت والجن.

***

وماهي إلا لحظات حتي أقترب من واجهة الغوط السكني، فها هي دكاكين (سي ادم)، تتراي وها هو الشايب (سي إدريس بوشرفادة) جالسا كعادته، ينف في عشبة النفة، فهو يستمتع باستنشاق هذه النبتة كثيرا خصوصا في فترة العشية، فهو قد أصبح مالكا لعدد سبعة من الدكاكين في المنطقة والتي بدأ يستوطن بها الكثير من السكان الجدد، كان اغلبهم قد جلبهم جبريل بنفسه، فهو يختصر المسافات ويريح زبائنه الراغبين في إيجار سكنا، بتوسطه، مع أصحاب المعرفة في المدينة، كان يترقب القادمين من خارج المدينة في محطة الكاروات، أحيانا أو عند الجنسية القريبة من الفندق البلدي،

 والذين يتسربون من اقاصي البلاد، عن طريق وسائل سفر بدائية تجرها البهائم كالجياد والحمير والبغال، فيقبع منتظرا في المحطة، يتحين الفرص، ليحظي بغرباء يرغبون في الاستيطان بمدينة رباية الذائح، في أحلك الظروف قسوة !، كانوا يأتون سعيا في ايجاد فرصا للعمل وللكسب، فسكان بنغازي مافتئوا، يكرمون الضيف، ويقدمون المساعدة للغريب، فيمكنوهم من السكن، ومن فرص العمل، ومن الطعام كذلك، فيتأقلم أي غريب بين أحيائها بسرعة كبيرة، !،

  حتي اضحي لمدينة (بنغازي) كنيه جديدة هي (رباية الذائح) وأمسي هذا النعت فخرا واعتزازا للقادمين الجدد! فيحلوا لهم ترديده مع أولادهم، فتوريثه حتى!!!

نعم ماعنديش في الوقت الحالي إلا بيتا واحدا فقط الان هو الحوش العربي،اللي امقابل بيتي.

أجاب (إدريس بوشرفادة) السائق (جبريل)، حين سأله عن بيتا للايجار يستر به هذه العائلة المهاجرة. وعند المصافحة، مصحوبة بغمزة طرف عين مباغتة مع ضغطة يده علي يد (جبريل)، دون أن يتفطن (سعيد بو شملة)، و(مفتاح بومضغة) الجالسين أمام دكاكينهم المؤجرة من سي (إدريس بوشرفادة)، يتابعان عن كثب عملية التفاوض المتعلقة بالتسكين تلك.

ثم التفت (سي إدريس بوشرفادة) متجاهلا صوت أذان صلاة العصر المتسرب من مسجد سي أدم الي السائق جبريل وخاطبه ساخرا:

خلينا نكسبوا فيهم اجر يا (سيدنا جبريل)!!.

جبريل:

هل الحوش مناسب لهذه العائلة المسكينة؟

رد (إدريس):

…ايوه يا سيدنا (جبريل)

وهنا اقترب سي (مفتاح بو مضغة) متدخلا كعادته وهامسا ومقهقها لسي إدريس:

ولكن ازعمك حيخلوها اعيالك الابالسة يا عيت الأدارسة في حالها ها ها ها..

( إدريس بو شرفادة):

 والله معاك حق أولادي شياطين انس.. وانا اغلبت في تربيتهم.

وأردف:

لكن ما تخاف من شيء راه انا مازلت انهم ويهابوني الفروخ.

انتهي الحديث الجانبي بين ابو الشياطين (سي إدريس) و(مفتاح بومضغة). وهنا تدخل (سي سعيد بوشملة) فيهم مخاطبا بعلو الصوت بينما كان ينتزع العصا من يد طفلا كان يستعملها كمكرفون مسترسلا في الغناء بصوت جميل أنه الطفل خميس ابن (سي مفتاح بومضغة) حيث تداخلت كلمات أغنية الطفل مع صياح (سعيد بوشملة).

الطفل خميس يغني:

أقرب نطريلك يالغالي،،، اقرب نطريلك

واو ندعيلك يارب…ايسقملك حيلك

أما سي سعيد بوشملة كان يصيح فيهم:

هيا يا سي (إدريس) صبي لصلاة العصر

هيا يا سي مفتاح.. انت يابو مضغة هيا صبي للصلاة! وتعال خوذ عيلك خميس، اقريب ايبطلي طبلة وذني من الشعر اللي يشعر بيه. كنكم ما اتصبوا اتصلوا

سي إدريس بو شرفادة:

يا ريت تعفوني من الصلاة وراء سي أدم انا ما انطيق وجهه، امغير انجامل فيه امجاملة بحكم الجيرة، لكن ما نرضي أن انصلي اوراه، إمام أو ادياولوا.

(مفتاح بومصغة) يتسرب الي حيث يتواجد (قدري):

ويقوم بمصافحته بحرارة، يبدو أنهم معرفة قديمة

وهنا استأنف سائق الحافلة البلمن مشوار الطريق، فتسرب بسيارته من خلال عديد الازقة والتعرجات والطرق الداخلية في الغوط حتي وصل الي بيتا قديما يقع في زنقة الوحل، زنقة (عيت الأدارسة) الواقعة في أطراف الحي الجديد والمتنامي، حي ( سيدي أدم) كان بيتا مبنيا بطريقة شائعة فترة الخمسينات و الستينات، كان اغلب أجزائه مرقعة بقناطر من الخشب وبعض من نبات الديس الذي ينمو بكثافة حول الصبخة المحاذية.

هذا البيت سيأوينا لو تمت نظافته جيدا

يا (نجوي):

همس (قدري) لزوجته (نجوي) بهدوء أثناء معاينته السريعة للبيت المعروض عليهما للإيجار.

نجوي:

لكنه يتطلب كثيرا من الجهد والوقت لمنع وقوع السقف من آثار الرطوبة والملوحة فهل تستطيع إصلاحه

وترميمه فور تأجيره؟

قدري:

بكل تأكيد فهذه المهنة هي لعبة بالنسبة لي.

نجوي متمتمة بسخرية وحريصة أن لا يسمعها زوجها:

توا انشوف أخرتها معاك يا وجه الفقر…

ثم أضافت بصوت مسموع.. لكن قل لي:

من هو الرجل الذي اقترب منك وصافحك عند مدخل الغوط؟

 قدري:

أنه سي مفتاح بومضغة، أما الطفل فهو مصماصة الكرشة، خميس. ديمة يشعر ويغني صوته سمح.

نجوي:

اخر العنقود ايصمه يا راجل!

الراجل مازال اصغير اكيد فيه بعبوط اخر بعد خميس

قدري:

خلاص.. آخر البعبوط خميس أو جمعة أو سبت!.. مالنا دخله بيهم، نحن انقولوا ربنا ايصون وخلاص…

وأضاف مستدركا:

لكن يا ريته سي (مفتاح بومضغة) ما شافني الحق؟

نجوي:

ليش؟

قدري:

تتذكري اخر مرة جبتلك العنب الخارب؟

نجوي:

أي عنب خارب ؟

اللي اشتريته من منطقة (سي عبد العاطي) الشهر الفايت.. كانت فرزة عنب فاسدة، جايبها (سي مفتاح) من حلاليق الهرابة في غوط العجاج.

نجوي:

نعم نعم تذكرت اللي درناه امبيت.

قدري:

ايوه عليك نور

وأضاف:

مازال ما سلكتش حقه وطالبني بيه، وما بش ايسامح، فلازم انسلكه؟

نجوي:

وكم حقه؟ كم يبي رقيق الغرض؟

قدري:

3 قروش

نجوي:

ننقالة بارد ومايتحشم!!

مقالات ذات علاقة

مدارس…

جميلة الميهوب

فصل من رواية «كونشيرتو قورينا إدواردو» لـ نجوى بن شتوان

نجوى بن شتوان

رواية الحـرز (40)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق